أزمة نقدية مسرحية مدرسية سببها العفريت

أزمة نقدية مسرحية مدرسية سببها العفريت

العدد 779 صدر بتاريخ 1أغسطس2022

أشرت في المقالة السابقة إلى أزمة نقدية حدثت بسبب عرض مسرحي تم تقديمه في «مدرسة طنطا الثانوية»، وأن هذه الأزمة تستحق إفراد مقالة كاملة خاصة بها! وتبدأ القصة يوم 10 مارس 1928 عندما عرضت المدرسة إحدى المسرحيات التي أشار إليها «محمود سعيد» بكلمة في مجلة «المستقبل» قائلاً تحت عنوان «حفلة مدرسة طنطا الثانوية»: في مساء السبت 10 مارس سنة 1928 أقامت الجمعية التمثيلية بالمدرسة حفلتها السنوية بتمثيل رواية «الحياة» من نوع التراجيدي في أربعة فصول، تأليف حضرة «عزيز الريس» المدرس بالمدرسة.
والرواية صورة صادقة لخداع الحياة وكيف تعطي قوماً الحظ والنعيم وتعطي آخرين المرارة والبؤس! وقد قام بالأدوار المهمة حضرات «عبد الرحمن سعد» الطالب بالمدرسة في دور «جاكوب»، فأرانا كيف يقسو القاسي على البائسين فيلبسهم كل شيء، ثم لا يلبث أن يبتسم لهم فيتبدلوا وكأنهم خالفوا من جديد. وكم كان مؤثراً موقفه في نهاية الفصل الأول، وهو يستعطف سيده رودريك. وكان «نبيه الميهي» في دور الوزير رودريك وزيراً حقاً في وقفاته وحركاته، وخصوصاً مكياجه الذي أعجب به الجميع. كذلك أجاد كل من «صالح علي» صاحب البيت، و«أنور سندر» و«الكاشف أفندي» الطبيب، فاستحقوا الثناء. ولا يسعنا إلا أن نشكر حضرة رئيس الجمعية «عزيز الريس» على جهوده المتوالية في سبيل رفعة الجمعية. 
وبعد أيام من العرض كتب «حسين حسن الشربيني» كلمة بسيطة في مجلة «الصباح» تحت عنوان «حفلة جمعية التمثيل في مدرسة طنطا الثانوية»، قال فيها: أقامت جمعية التمثيل بالمدرسة الثانوية في طنطا حفلتها الثانوية تحت رعاية ناظر المدرسة فمثلت رواية «الحياة» تأليف عزيز أفندي الريس أحد المدرسين بها، فنالت الرضا والإعجاب، وذلك لما أظهره الطلبة الممثلون من الإبداع والاتقان، مع أن أكثرهم لم يظهر على خشبة المسرح إلا هذه المرة. أما الذين أجادوا وأبدعوا وكانوا موضع إعجاب النظارة فهم عبد الرحمن سعد «جاكوب»، وصالح علي «درازو»، ونبيه الميهي «رودريك»، وإبراهيم مصطفى الشيتي «لورنزو»، وعبد العزيز جاد الحق «فرنزو»، وإبراهيم حمودة «الفونسو» فنهنئهم ونتمنى لهم دوام النجاح في هذا الفن الجميل».

ظهور العفريت
بعد عرض المسرحية نشرت جريدة «طنطا» خطاباً أرسله أحد الأشخاص، ووقع عليه باسم «العفريت»!! ونشرته الجريدة بمقدمة، جاء فيها: «حضرة المحترم رئيس تحرير جريدة طنطا الغراء، أما بعد تقديم فائق احترامي، أرجو نشر هذه الكلمة في نقد الحفلة التمثيلية التي أُقيمت في مدرسة طنطا الثانوية في مساء اليوم، ولك الشكر». أما الكلمة، فهذا نصها:
كانت مهزلة وأية مهزلة. مهزلة كانت حقيقة على مسرح المدرسة الثانوية! لقد أراد حضرة المؤلف الفاضل أن يكون في عداد المؤلفين العظام أمثال إسكندر دوماس مؤلف غادة الكاميليا، وغيره من المؤلفين المسرحيين! أراد أن يجاريهم في جعل روايته درامه قوية فأكثر من الموتى، ولكن كيف له ذلك وقلمه الركيك، وقلة درايته بالحبكة التمثيلية الفنية يأبيان عليه ذلك! ثم كثرة المنولجات الطويلة!! الجمهور يا سيدي المؤلف لم يحضر لسماع محاضرات طويلة، وديالوجات كبيرة تلقنها على لسان أفراد قصتك! ثم أن الإلقاء أيها المدرب الفني، كان سريعاً جداً كأنهم في فصل يلقون محفوظات روايتك، هذه التي وضعها في أربع فصول (طوال عُراض)!! أستطيع أنا كما يستطيع كل إنسان أن يلخصها لك في أربع سطور، بل في أربعة كلمات: ما الغرض الذي ترمي إليه روايتك؟ أظنك تقول إنك تريد أن تصف لنا الحياة، وما يحدث فيها. ولكن للأسف ليست الحوادث طبيعية أو عادية حتى يمكننا معذرتك. روايتك ملآنة بالأغلاط الفنية، التي يفهمها كل مؤلف صغير، ولكنك تجادل وتريد أن تحظى بلقب مؤلف!! إذن فمرحى لك أيها المؤلف، كل الرواية عبارة عن جُمل متكررة، ويا ليتها مرة أو مرتين بل ما يربو عن العشر مرات!! خذ مثلاً كلمة «دعني أتخلص منه»، التي قالها الطباخ لورنزو ما يزيد عن العشرة مرات، ثم كلمة «يا أخي» التي كان يقولها التجار في الفصل الرابع .. بالله عليك دع التأليف والمؤلفين ولا تجاور الحداد! فمن يجاوره يكتوي بناره! فالنقاد كثيرون وهم عيون مبصرة فاتعظ فليست هذه أول مرة ذقت مرارة الكأس التي تريد أن تشربه!! أما الإخراج .. بالله عليكم أرأيتم أشد من هذه الفوضى؟! خذ مثلاً ابن الوزير «إدوارد» يظهر في الفصل الأول، وهو شاب في الفصل الثالث، وهو في مقتبل العمر أي رجل، ثم في الفصل الرابع وهو رجل على الأقل يجب أن يكون له من العمر الخامسة والثلاثون، ومع ذلك فلقد أعطوه الدور مع نحافته التي لا تساعده وقصر طوله. لم نر فوضى أكثر من هذه! ولد يمثل الأدوار الثلاثة في الحياة، ولكن هي الحياة يا عزيزي، ترينا كل طريف وغريب خصوصاً من عزيز! وبالنسبة للممثلين: «لورنز» ظهر في الفصل الأول بمنتهى الضعف وعدم الدراية بالتمثيل، وذلك لركاكة في صوته ولهجته النحوية. أما في الفصل الثالث فقد أجاد في الموت إجادة بديعة. «جاكوب» وهو «عبد الرحمن سعد»، أكثر من البكاء والنحيب مما جعله موضع النقد!! لقد كان بديعاً جداً في مواقف مختلفة لولا سرعة إلقائه (وتكشيره) من غير لزوم! وأَهل صحيح أنهم كانوا يستعملون (الجلابية) في البرازيل؟! إذا كان كذلك، أرجو أن تعرفونا فلقد كانت الجلابية بيضاء جميلة!! لقد كان لك دورك هذا مجال للنبوغ والظهور وعلى كل فنحن نهنئه. «رودريك» أي «نبيه الميهي»، لقد كانت له مواقف بديعة في الفصل الأول والثالث، أما الرابع فلم يتقنه فنهنئه. «الفونسو» وهو «إبراهيم حمودة»، لقد كان يلقي بدوره بسرعة عظيمة كأنه يلقي محفوظات مما جعل المتفرجين يسخطون عليه. «درازو» وهو «صالح علي»، لقد كان بديعاً جداً في دوره فلقد مثل اليهودي البخيل في أجلّ معانيه، ولولا تغاليه في الرعشة والاهتزاز لحاز درجة الكمال فنهنئه ونرجو له التقدم، فإلى الأمام يا بني. «بولو» وهو «محمد أحمد فهمي»، كان جميلاً جداً في دوره فأخرجه على غاية الإتقان فنهنئه. «الكانو» وهو «فهيم ناصيف» كان سريعاً جداً مما جعل المتفرجين غير قادرين على متابعته، وصوته كان منخفضاً. «فرنزو» وهو «عبد العزيز جاد» كان بديعاً جداً في دوره فمثل البواب الهرم بأجلّ معانيه، ثم لا ننس له رعشة صوته، مما جعله محبوباً فنهنئه. «بستيون» وهو «حسني حافظ» أكثر من الوقوف والقعود بغير فائدة، وكان صوته على وتيرة واحدة. «جراندو» وهو «صالح علي» نجح في دوره هذا أيضاً فنهنئه. هذه هي الأدوار المهمة في الرواية. أما الباقية فهي أدوار ثانوية نضرب عنها صفحاً ثم أن ذكرنا الممثلين لا يجب أن ننسى فضل محفوظ أفندي، فهو الذي عمل المكياج هذه السنة أيضاً لجميع الأفراد مما جعلهم يظهرون بمظهرهم هذا الذي، كان موضع الإعجاب مع أن السكون كان عاماً على مقاعد المتفرجين، إلا أن جلبة الممثلين وضوضاء من داخل الكواليس كان يُسمع، مما جعل المدعوين في غاية الاستياء فعسى ألا يتكرر هذا. [توقيع] العفريت.
لم يمر كلام العفريت مرور الكرام، بل تصدى له أحد طلاب المدرسة، وهو «عبد الحليم ناصف»، وكتب رداً عليه، نشرته الجريدة، وجاء فيه الآتي: حضرة الفاضل صاحب ورئيس جريدة طنطا الغراء، بعد التحية: اطلعت على نقد «عفريت» بجريدتكم فدهشت لما فيه من التحامل الظاهر، وعولت على الرد على هذا النقد السخيف بعد أن كنت أفضل الترفع عن ذلك. ولما كنت أريد أن أخدم الحقيقة لذاتها فضلت أن أستند في معلوماتي في الرد بالحقائق! وكان أول شيء جال بخاطري أن أقابل عبد الرحمن أفندي سعد الممثل الأول بالفرقة وأسأله عن رأيه الخصوصي في نقد «العفريت»، فقابلته ووجهت إليه بعض أسئلة لكي أستدل من أجوبته على رأيه خصوصاً وأنه أدرى الطلبة بالرواية والتمثيل، ومن أكثرهم إلماماً بذلك! سألته رأيه في هذا النقد، فأراد أن يتملص من الإجابة بحجة أنه أحد المشتركين في التمثيل وأنه ليس باللائق منه أن يتكلم، ولكني ضيقت عليه الخناق وأجبرته بأنه لا بد من معرفة رأيه في نقد التأليف خصوصاً وأنه بلغنا أن الناقد أحد طلبة المدرسة. وهنا انفجر عبد الرحمن يتكلم بحدة عن رأيه «أنه يؤلمني جداً أن أسمع بأن أحد طلبة المدرسة يتعرض ويتحامل بغير حق كل هذا التحامل على أستاذ، هو في طليعة الأساتذة ويستتر في كتابته تحت ستار «العفريت». كان الأجدر به أن يستتر تحت «المغفل» لأنه أثبت أنه لا يفقه في الفن شيئاً». وهنا تناول عبد الرحمن مني الجريدة وأخذ يفحص نقد التأليف: أية وقاحة أراها في هذه الكتابة!! مهزلة وأي مهزلة .. إلخ! كلمات جوفاء لا أرى لها من معنى في النقد البريء اللهم إلا منتهى الوقاحة والدناءة!! وما هي أوجه الشبه ما بين عزيز أفندي الريس المدرس وإسكندر دوماس الروائي، الذي قصر كل مجهوده، وكرّس جميع حياته على التأليف! كان الأجدر بحضرة العفريت أن يقارن حضرة مؤلف «الحياة» بالمؤلفين الشرقيين المصريين لا الغربيين! أمامه أنطون يزبك، ويوسف وهبي، وإبراهيم المصري وغيرهم. أمامه مؤلفات تيمور! لو قارنه بهؤلاء مع إيجاد الفارق إذا شاء لكانت المقارنة صحيحة. وبلغ به جهله أنه يلمح في كتابته بأن مؤلف الحياة يريد أن يجاري دوماس في جعل روايته قوية بكثرة الموتى، ولم يذكر في قوله إلا رواية غادة الكاميليا، فهي التي يحتج بها، مع أن هذه الرواية لم يمت فيها إلا شخص واحد في نهايتها. وهذا الشخص هو أو هي «مرجريت جوتييه»! واستمر عبد الرحمن في كلامه وأخذ يفند نقد العفريت في التأليف نقطة نقطة، حتى لم يبق مجال للشك في تحامل الناقد على حضرة المؤلف، تحاملاً مشيناً، ثم ودعني وانصرف إلى مذاكرته. فهل لحضرة العفريت أن يظهر ويبان وعليه الأمان، ويأتي لعبد الرحمن ويناقشه في الرواية، إما ليقتنع منه أو ليقنعه!! إذا فعل ذلك فهذا دليل على الشجاعة. الشجاعة في الرأي، وإلا فهو نذل جبان. أما أنا فإني لا ريب متفق مع عبد الرحمن سعد في رأيه هذا وأزيد عليه أنه لم يكن يجدر بالعفريت أن يلفظ تلك الألفاظ البذيئة، خصوصاً أنها موجهة إلى مرب فاضل جدير بالاحترام والتبجيل. ألم يكفك يا سيدي العفريت أن حضرة المؤلف أضاع جزءاً كبيراً من وقت فراغه في تأليف هذه الرواية، فضلاً عن اشتغاله بالتدريس. ولكن لم يكفيه فخراً في أن روايته حازت استحسان النظارة وفي مقدمتهم حضرة صاحب العزة محمد بك توفيق البردعي ناظر المدرسة! عشمي أن تكون قد تعلمت الآن يا حضرة العفريت (والناس لا تتعلم ببلاش) فلتترك هذا القلم الدنيء الذي أمسكك إياه أحد المغرضين، أو سولت إليك نفسك الخبيثة الكتابة به والتفت إلى دروسك، فهي أولى بالتفاتك. هل تظن أيها الشخص المستتر تحت (لباس العفريت) أن هذا النقد صحيحاً؟ أنت تقول نعم، ولكن أنا وغيرى نقول لا!! تقول: إن «جاكوب» عبد الرحمن سعد أكثر من البكاء والنحيب! فماذا تنتظر من إنسان يائس فاقد زوجه ووظيفته البسيطة، وأصبح لا حول له ولا قوه، ولديه أربعة من الأولاد، ولا يجد قوت يومهم، أظن الجواب ظاهر على ذلك! ألم تتعلم أن تلك العواطف المحزنة قد تجعل في نفوس المتفرجين الأثر العظيم، كما أنها تجذبهم إلى الإصغاء والإمعان. ولعمري ما رأيت ممثلاً يتكلم كلاماً عادياً ويبدي حركات عادية لا تؤثر في نفوس القوم! أجبني أيها العفريت! وتقول إن «رودريك» - نبيه الميهي - كانت له مواقف بديعة في الفصل الأول والثالث، ولكنني لا أوافقك على ذلك ياحضرة المنتقد، لأن كل تلميذ من التلاميذ الذين شاهدوا هذه الرواية يعترف بأن الميهي أخطأ في الفصل الثالث في بعض كلمات، كنت أنت جدير بانتقاده منها على صفحات تلك الجريدة. وهذا مما لا شك فيه أن جميع انتقاداتك كاذبة! ألن تعلم أنه قال الدنيا تبكي وتضحك خير من أن تضحك وتبكي، ألم ينضب وجهك خزياً وعاراً أيها الناقد عند سماع هذه الكلمات الشريفة الصادقة؟! وكيف تنتقد يا سيدي العفريت، وأنت لا تأتي بالأشياء الفنية، وتضرب عنها صفحاً وتقول إنها بسيطة، غير أنها في الحقيقة كبيرة! ألم تكن حاضراً أثناء الفصل الرابع حينما ظهر «إدواردو» - أنور أحمد - ابن ردوريك «نبيه الميهي» بملابس الأبهة والعظمة في حين أن والده لابساً ثوب الفقر والشقاء وهذه الحقيقة! فكان جدير بك أن تنتقد هذه العبارة خير لك أن تنتقد (الجلابية)، التي ارتداها عبد الرحمن سعد في الفصل الثاني، مع أنها في الحقيقة صحيحة إذ ارتداها حين كان ساكناً في لشبونة لا في البرازيل. وألم تعلم أن تلك الضوضاء التي كانت منتشرة في حجرة التمثيل كانت آتية من ناحية الطلبة، ولكنك تكذب لتشوه سمعة الجمعية التمثيلية وتقول إنها كانت آتية من داخل الكواليس! ولكن أرجوك أن تسأل أيا كان من الذين حضروا هذه الحفلة فأنا متأكد، ومتأكد أنه سيحدثك أنها آتية من ناحية الطلبة، حينئذ ستؤنب ضميرك السخيف وتعاقب نفسك على هذا الكلام السافل الذي صدر منك. إذا وافيت مختار بالشكر فكان جدير بك أن توافيه لأنه قام بعملية (التلقين)، ولا تكذب وتقول إنه قام بعمل المكياج لأن الرجل الذي قام به رجلان آخران وبعض طلبه المدارس! ألم يكفك كل هذه البراهين القاطعة التي قضت جميع كلماتك إلى أقاويل كاذبة. وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول إنك لا تصلح أن تكون موجوداً في هذه البيئة الطيبة. [توقيع] عبد الحليم ناصف طالب بالمدرسة الثانوية.


سيد علي إسماعيل