وداعا عمر البرعي.. القيادي المستنير

وداعا عمر البرعي.. القيادي المستنير

العدد 685 صدر بتاريخ 12أكتوبر2020

القيادي المستنير عمر البرعي - والذي رحل عن عالمنا يوم الجمعة الموافق 2 أكتوبر (2020) – هو أحد القيادات الثقافية التي تنتمي إلى الجيل الذهبي للبنائين الذين عاصروا فترة نشاط وتألق جهاز «الثقافة الجماهيرية» منذ ستينيات القرن الماضي، وخاصة خلال فترة قيادة الأديب الوطني سعد الدين وهبة،وبالتالي فهو أحد أفراد الكتيبة التي ضمت عددا كبيرا من المثقفين بناة الثقافة ومن بينهم الأساتذة: محمود سعيد، صلاح شريت، محمود عوضين، فؤاد عرفة، يعقوب الشاروني، وسام مرزوق، محمد غنيم، محمد عبد المنعم، أحمد حشمت، محمد سويلم، نبيل محرم، منير جمال، سيد عواد، ممدوح كمال، طلعت مهران، سامح خطاب، والفنانين والكتاب: علي الغندور، حسن عبد السلام، عبد الرحمن الشافعي، فاروق حسني، عبد الرحمن نور الدين، حسن فخر الدين، صلاح مرعي، محمد سالم، فوزي فوزي، يسري ناصر، محمد السيد عيد، علي أبو شادي، وآخرين،  هؤلاء الذين حملوا راية التنوير لينشروا قيم الخير والحق والجمال بالعاصمة وكذلك بجميع أقاليم مصر من خلال الإبداعات الثقافية والفنية المتنوعة. وهم يمثلون ذلك الجيل الذي عشق بكل الصدق مسمى «الثقافة الجماهيرية»، فبالرغم من حرصهم على تطوير «الجهاز» وتحويله إلى «هيئة» ظلوا يفضلون ويميلون إلى استخدام اسم «الثقافة الجماهيرية» بديلا عن هذا المسمى الجديد «قصور الثقافة»!!، ويحسب لهم جميعا صمودهم ومقاومتهم بشدة خلال فترة سبعينيات وثمانينات القرن الماضي لجميع محاولات تفكيك المنظومة أو دمجها أو خصخصتها بهدف تمييع دورها الأساسي وتفريغ أنشطتها من أهدافها الحقيقية للتنوير والتثوير والارتقاء بمستوى الوعي.
ويمكن للمتتبع للمسيرة الوظيفية للمثقف الحقيقي عمر البرعي أن يرصد بسهولة أنه قد ظل طوال مشواره المهني أحد القيادات المستنيرة التي تعي دورها في دعم المبدعين وتحرص على نشر الثقافة وتقديم الخدمات الفنية والثقافية المنشودة للجماهير، ولذا فقد ظل دائما شديد الحرص على التميز والتألق المهني وتحقيق الإنجازات الحقيقية والمتنوعة بجميع المهام التي كلف بها وجميع المناصب التي شغلها، مما أهله إلى التدرج سريعا ببعض المناصب القيادية حتى أصبح أول نائب لرئيس «الهيئة العامة لقصور  الثقافة».
والقيادي المثقف عمر البرعي من مواليد محافظة «الدقهلية» (مدينة السنبلاوين) في 7 أبريل عام 1943، وحاصل على ليسانس كلية الآداب (قسم جغرافيا) عام 1965، ولكن عشقه للفنون والآداب دفعه إلى التعيين بمجرد تخرجه (في نهاية عام 1965) بجهاز «الثقافة الجماهيرية»، وبالفعل بدأ حياته العملية بالتعيين بقصر ثقافة «بورسعيد»، وهي الفترة التي يعتز بها جدا خاصة وقد ربطته خلالها صداقة قوية مع زميله بالعمل الفنان التشكيلي الكبير عز الدين نجيب، فكانت فرصته للاقتراب بشدة من عالم الفنون التشكيلية وأيضا عالم السياسة، حيث كان كل منهما يميل كمثقف إلى اتجاه اليسار الذي يهدف إلى مواجهة بعض السلبيات وأوجه القصور والرغبة في تحقيق مزيد من الطموحات والأحلام. ويذكر أنه كان قد انتمى في بداية حياته الجامعية إلى جماعة الشباب الناصري (منظمة الشباب)، إيمانا منه بأهمية الدور الوطني الكبير للزعيم الراحل جمال عبد الناصر بانحيازه للتوجهات الاشتراكية واصراره على إنجاز المشروعات القومية الكبرى، وكذلك لإيمانه الكبير بالعروبة وسعيه الدائم إلى تحرير جميع الدول العربية الشقيقة ودعمها في مواجهة قوى القهر والطغيان والاستعمار العالمي.
وبعدما حقق القيادي الشاب عمر البرعي نجاحه وتميزه خلال فترة عمله بقصر ثقافة بورسعيد دفعه طموحه  إلى اتخاذ قراره بالاستقرار بالعاصمة (القاهرة)، والعمل بالمقر الرئيسي لجهاز «الثقافة الجماهيرية» (بمبنى «البنك الصناعي» بشارع الجلاء)، وبالفعل انتقل للعمل بالإدارة العامة للعلاقات العامة والإعلام، ليتدرج في بعض الوظائف المهمة بعدها، ومن بينها مدير عام «مديرية ثقافة القاهرة» (خلال فترة ثمانينات القرن الماضي)، ثم رئيسا للإدارة العامة للعلاقات العامة والإعلام، وبعدها مديرا عام للإدارة العامة للمكتبات، وليتولى بعد ذلك منصب رئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية (بدرجة وكيل وزارة خلال فترة تسعينيات القرن الماضي)، وليختتم حياته الوظيفية – قبل بلوغه سن التقاعد في أبريل عام 2003 -  بالتعيين كأول نائب لرئيس «الهيئة العامة لقصور الثقافة».
تذوقه للفنون وتحقيق التواصل:
إذا كانت فترة عمله الأولى بقصر ثقافة «بورسعيد» قد أكسبته الكثير من المعلومات القيمة عن الفنون التشكيلية وكذلك مهارات تذوقها من خلال علاقة الصداقة الوطيدة التي ربطت بينه وبين الفنان التشكيلي المبدع عز الدين نجيب، فإن زمالته وصداقته القوية مع الناقد السينمائي المتميز علي أبو شادي قد أكسبته أيضا ثقافة سينمائية رفيعة المستوي وقدرة راقية على تذوق جميع الإبداعات والاتجاهات السينمائية. هذا وقد استطعت مبكرا من خلال صداقتي معه وحواراتنا الكثيرة حول الفنون المسرحية اكتشاف مدى تمتعه بثقافة مسرحية رفيعة المستوى، وأيضا تمتعه بصفة انسانية رائعة - ككل المثقفين الحقيقيين – وهي الحرص على جمع أكبر قدر من المعلومات بمختلف المجالات ثم تأكيدها بعد ذلك من خلال القراءة المنتظمة. لذا لم يكن غريبا انحيازه المبكر إلى مجموعة شعراء العامية الكبار وحفظ بعض أشعارهم (وفي مقدمتهم المبدعين: بيرم التونسي، فؤاد حداد، صلاح جاهين، أحمد فؤد نجم، ، فؤاد قاعود، سيد حجاب)، ولا حزنه الشديد على رحيل بعض السينمائيين المبدعين وفي مقدمتهم الناقد سامي السلاموني، والمخرجين عاطف الطيب رضوان الكاشف، وغيرهم كثيرين من هؤلاء الذين سعى إلى تخليد ذكرى كل منهم أثناء فترة توليه مسؤولية رئاسة الإدارة المركزية للشئون الفنية. كذلك يحسب له حرصه الكبير خلال تلك الفترة على اختيار أنسب القيادات لتولي مسؤولية الإدارة العامة للمسرح، فاختار لادارتها الناقد المسرحي حسن عطية، ومن بعده القيادي الحازم مصطفى المعاذ. 
وتجدر الإشارة إلى أن مكتبه طوال مسيرته الوظيفية  لم يكن مكتبا حكوميا تقليديا لإنهاء الأعمال الإدارية، بل نجح بوعيه وخبراته الكبيرة في تحويله إلى «صالون ثقافي» يومي، ليجمع صباح كل يوم نخبة متنوعة من الفنانين بمختلف مجالات الفنون لتدور بينهم المناقشات الثقافية المتنوعة أثناء قيام العاملين بمكتبه بإنهاء جميع الإجراءات الإدارية المطلوبة لكل منهم. كان مكتبه بالفعل مختلفا تماما عن جميع مكاتب وكلاء الوزارة الآخرين، فبابه قد ظل مفتوحا أمام الجميع بلا استثناء، وذلك إيمانا منه بأن من يحضر إلى العاصمة من الأقاليم لابد من انهاء جميع متطلباته الإدارية على الفور حتى لا يضطر لتحمل مشقة وتكاليف الإقامة بالعاصمة أو العودة مرة أخرى إليها. كذلك اشتمل مكتبه على مكتبة كبيرة زاخرة بكل إصدارات الهيئة وغيرها من دور النشر، وكان رحمه الله يتيح فرصة الاستعارة أو الإهداء للجميع بلا استثناء، فقد ظل يؤمن بأن قيمة الكتاب بعدد القراء له والمنتفعين بمعلوماته، وأن «هدف الهيئة العامة لقصور الثقافة» غير ربحي على الإطلاق، وبالتالي فإن جميع إصداراتها يجب أن تصل لأكبر عدد من مستحقيها.
ويجب التنويه إلى أن مكتبه (كرئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية) قد ضم كتيبة عمل على أعلى مستوى من العطاء، نجح في صقل مواهبهم ومنحهم خبراته وثقته، فقد كان مؤمنا بشدة بفكرة تواصل الأجيال وضرورة إعداد قيادات جديدة لتحقيق هدف تبادل الخبرات، وأتذكر منهم الأساتذة: نانسي سمير التي تدرجت في الترقي لتشغل نفس منصب رئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية، وعثمان عزمي الذي تدرج في المناصب إلى مدير عام الإدارة العامة للمهرجانات ثم إلى مدير عام أطلس الفولكلور، ومحمد عبد الغفور الذي تولى بعد ذلك منصب مدير عام فرق الفنون الشعبية، والشاعر رضا العربي الذي تولي الإدارة العامة للتكنولوجيا والتقنيات الحديثة، وأيضا خورشيد محمد بخبراته الإدارية الكبيرة، لقد كانوا جميعا بالفعل يشكلون خلية نحل تعمل طوال اليوم بجد واجتهاد والأهم بحب شديد أيضا. 
دعمه للفنون المسرحية واكتشاف المبدعين:
الحرص الشديد على التوظيف الجيد للمال العام، والخروج عن المألوف والتفكير بطريقة ابداعية في محاولة لتقديم الجديد كانت جميعها بعض العوامل الأساسية في منهج العمل للقيادي البارز عمر البرعي بجميع المجالات والأنشطة ومن بينها المسرح. كان يعشق اكتشاف المبدعين كعشقه اكتشاف الشخصيات القيادية، ويحرص على دعمهم والتفكير معهم دائما خارج إطار الصندوق والأطر التقليدية، وكان يتحمل بمفرده بعد ذلك كيفية حمايتهم بتكييف المتطلبات الجديدة مع اللوائح القديمة ببنودها العقيمة. وتحتفظ الذاكرة بكثير من المواقف المهمة التي تؤكد هذه المعاني وسأكتفي لضيق المساحة بذكر وتوثيق ثلاثة منها فقط (خلال العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين):
- حينما تولى مسئولية مدير عام «فرع ثقافة القاهرة» عام 1983 اقتنع بموهبة المخرج المسرحي المتميز أحمد إسماعيل فقام باختياره مشرفا فنيا على الفرق المسرحية بالقاهرة وتكليفه بتأسيس عدة فرق جديدة بحيث تغطي تلك الفرق جميع بيوت الثقافة والمكتبات، وأيضا بتطوير آليات العمل بها بتنظيم دورات متخصصة بمختلف مفردات العرض المسرحي لأعضائها، وكذلك تأسيس ورشة مركزية لتصنيع الديكورات تيسيرا لسير العمل وتخفيضا للتكاليف. وبالفعل نجح الفنان أحمد إسماعيل في تحقيق تلك التكليفات في أقل من عام وبصورة رائعة، مما شجعه على تكليفه مرة أخرى بالإشراف على مشروع الإبداع الجماعي (والتنسيق بين كل من ثقافة القاهرة والمنوفية) وذلك بهدف اكتشاف مواهب شابة بمختلف المجالات، كما قام أيضا بتكليفه بعد ذلك بإخراج العرض الغنائي الكبير أبناء بلد واحدة» من أشعار القدير فؤاد حداد وألحان عبد العظيم عويضة في إطار احتفالات «محافظة القاهرة» بعيدها القومي، كذلك تنظيم احتفالين تكريما للشاعر الكبير فؤاد حداد عامي 19861987، وجدير بالذكر أنه من خلال هذه الأعمال تم القاء الضوء على عدد من المواهب الشابة من أبرزها: يوسف إسماعيل، محمد عزت، وفاء الحكيم، حنان يوسف، عزة الحسيني، سهام إسماعيل، أماني إبراهيم، فكري سليم، وفي الإخراج بهائي الميرغني، عبير علي، حسن عبده، موسى النحراوي، وفي التأليف سعيد حجاج، أحمد هيكل، بالإضافة إلى فرقة «كورال مؤسسة روزاليوسف».
- بعدما أعجب ببعض العروض التي شرفت بإخراجها بفرقة «المسرح المتجول» في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي سألني عام 1989عن مشروعاتي المسرحية الجديدة، وعندما علم باستعدادي لإخراج مسرحية «مخاطرة جان دارك» لبرتولد بريخت وترجمة وأشعار د.يسري خميس لفرقة «الجمعية المصرية لهواة المسرح» تحمس لانتاجها على الفور، وبالفعل أشرف على إنهاء جميع الإجراءات الإدارية في فترة بسيطة جدا وبصورة غير مسبوقة، كما وافق على تقديم العرض بقصر ثقافة الغوري، وهو العرض الذي شارك في بطولته نخبة من شباب المسرحيين آنذاك (ومن بينهم: حنان شوقي، محمد رياض، أشرف فاروق، حسام فياض، داليا إبراهيم، ممدوح صالح، إسماعيل الموجي). ومن المواقف المشرفة له موافقته على استغلال النجاح الكبير الذي تحقق للعرض بإعادة انتاجه من خلال «الجمعية المصرية لهواة المسرح»، وذلك نظرا لأن الوزير الأسبق فاروق حسني كان قد أصدر قرارا بعدم مشاركة عروض الدولة بفعاليات «المهرجان الأول لمسرح الحر» عام 1990.
- عندما تولى الأستاذ أنس الفقي رئاسة «الهيئة العامة لقصور الثقافة» عام 2002 كان من المنطقي أن تتوثق الصلات بينه وبين القيادي عمر البرعي، فطلب منه اشرافه الشخصي على الاحتفالات السنوية التي تنظمها «الهيئة» باحتفالات شهر رمضان الكريم، بحيث تظهر بصورة غير مسبوقة، وبالفعل كانت الخطوة الأولى اقتراحه بتحويلها من «حديقة الدراسة» إلى «حديقة الحوض المرصود» بالسيدة زينب، كما أختار لإخراجها فنيا الفنان الشاب أحمد طه والذي كان اسمه قد بدأ يلمع من خلال عروض الهواة بالجامعة وهيئة قصور الثقافة، وبالفعل نجح في تقديم احتفالا رائعا تضمن انشاء حي شعبي داخل الحديقة (بجميع تفاصيله ومبانيه ومحلاته وبائعيه وألعابه الشعبية)، وهو ذلك الحي الذي أبدع في تصميمه مهندس الديكور محمد الغرباوي. 
وجدير بالذكر في هذا الصدد أنه قام عام 1999 باقناع رئيس الهيئة آنذاك بانتاج عرض مسرحي غنائي خلال شهر رمضان عن قصة حياة سيدة الغناء العربي أم كلثوم وتقديمه بحديقة الحوض المرصود (بالسيدة زينب)، وذلك إيمانا منه بضرورة القاء الضوء على الفنانة الشابة بل الطلفلة آمال ماهر (والتي لم يتعد عمرها آنذاك ستة عشر عاما)، وذلك بعدما استمع وانبهر بصوتها لأول مرة خلال حفل ختام «المهرجان الأول لمسارح الأطفال» الذي نظمته عام 1999 «الجمعية المصرية هواة المسرح».
- الاحتفالات الكبرى:
تعود علاقتي بالصديق الغالي عمر البرعي منذ ما يقرب من نصف قرن، وبالتحديد منذ عام 1973 حيث جمعتنا الظروف بفترة المصيف مع عائلتي – أثناء مرحلة انتظاري لنتيجة الثانوية العامة، ومن يومها ربطت الصداقة بيننا حيث أعجبت بوعيه وانحيازه لمبادئ ثورة يوليو وبتلقائيته المحببة وضحكته الطفولية البريئة، وتكشيرة غضبه الصادقة السريعة، ودهشته الرائعة لحظة اكتشاف الحقيقة، فجميعها ايماءات وتعبيرات وردود أفعال أحببتها وعشقتها من الصديق عمر البرعي – رحمه الله – ذلك المثقف المخلص الصادق المحب للحياة. وإذا كان كالعادة دائما من الصعب بل ومن المستحيل أن يحظى الانسان برضاء واعجاب الجميع يكون من الممكن أحيانا ومع بعض الشخصيات المتميزة فقط التي تتمتع برضاء الله أن تحظى بتقدير واحترام الجميع، وحقيقة كان الصديق الغالي عمر البرعي أحد هؤلاء، حيث استطاع أن يحظى باحترام وتقدير جميع من تعاملوا معه، حتى هؤلاء الذين اختلف معهم لتوجهاتهم السياسية أو لاستغلالهم لمناصبهم ونفوذهم. فقد كان يتمتع بعدة صفات رائعة ومن بينها استطاعته انهاء أي خلافات معه مهما كانت شدتها وحدتها بحسمه للأمور وإصراره على عدم تصعيد الخلافات حتى ولو على حساب مصلحته الشخصية، فهو لا يقبل تقديم التنازلات ولكنه يقبل بعد إظهار الحقائق التسامح بابتسامته الواثقة. وتحتفظ الذاكرة بكثير من المواقف النبيلة الشريفة ولعل من أهم تلك المواقف والتي يصعب سقوطها من الذاكرة خلافه مع رئيس الهيئة الأسبق حسين مهران، والذي اضطره إلى دفع أكثر من ست سنوات من حياته الوظيفية، وذلك حينما أرغم على الحصول على أجازة بدون راتب، ولكنه نجح في  استغلالها وتوظيفها بالسفر إلى كل من «الجماهيرية الليبية» و»إيطاليا» حتى لا يضطر إلى الرضوخ وتقديم أي تنازلات. وتشاء الأقدار أن أكون شاهدا على بداية وتصاعد تلك الخلافات، والتي بدأت بالنجاح الكبير لتجربتنا الرائدة خلال شهر رمضان المبارك عام 1988، وذلك عندما كلفت بالإشراف الفني وإخراج فقرات برنامج الاحتفالية الكبرى «ليالي باب الشعرية»، والتي أقيمت بسرادق كبير بميدان «باب الشعرية» أثناء إدارته لأقليم القاهرة الثقافي» وبالتنسيق مع محافظة القاهرة. حيث قام بذكائه باستغلال فترة إعادة تخطيط الميدان في إقامة سرادق ضخم يشغل مساحة 75% من الميدان، وتضمنت فقراته تقديم عدد من الأغاني وبعض المنوعات الفنية والراقصات الشعبية وذلك بالإضافة إلى استضافة نجم من كبار النجوم كل ليلة (ومن بينهم الأساتذة: سعد الدين وهبة، عبد الرحمن الأبنودي، سيد حجاب، سميحة أيوب، نور الشريف، فاروق الفيشاوي، سهير المرشدي، حمدي أحمد، عفاف شعيب، حسين الشربيني، سيد عبد الكريم، أحمد بدير)، وشارك بتقديم تلك الفقرة كل من المذيعين عزة الحناوي ومحمد إسماعيل. وذلك بالإضافة إلى تقديم بعض المنوعات الجديدة كفقرة المنولوجست محمود عزب (عزب شو)، المطرب الشعبي سيد الشاعر وفرقته للآلات الشعبية، والمطربة الشابة أماني سعد (وألحان والدها الموسيقار الكبير علي سعد). كما تضمن البرنامج أيضا فقرة لاكتشاف المواهب الشابة وتنظيم مسابقات في التأليف والشعر، وذلك بخلاف المعارض المصاحبة (معرضا للحرف اليدوية، للخط العرب، للفنون التشكيلية) ومعرضا للكتاب. فقد دفع هذا النجاح الكبير إلى حرص رئيس الهيئة على الحضور لمشاهدة تفاصيل هذا النجاح الذي دفع التليفزيون المصري إلى إذاعة فقراته يوميا على الهواء مباشرة (وذلك مع إغفاله للإحتفال الرئيسي الذي تنظمه الهيئة مركزيا كل عام بسرادق الدراسة). وكان من المنطقي أن يطلب في العام التالي من المدير المتميز عمر البرعي تكرار التجربة بصورة مركزية، ولكن عمر أصر على تنظيم الاحتفال بنفس ظروف العام السابق ورفض بشدة التعاون مع اللجنة التي شكلها رئيس الهيئة (والتي من وجهة نظره ستكون معوقة للأعمال)، فتفاقمت الخلافات وتصاعدت بشدة وأصر كل منهما على موقفه!!
ونظرا لأن دوام الحال من المحال عاد الصديق عمر البرعي مرة أخرى إلى المناصب القيادية، وحظى بالتقدير الذي يستحقه وخاصة خلال فترة رئاسة الفنان التشكيلي الكبير مصطفى الرزاز، وهي الفترة التي كلفت خلالها بإخراج الاحتفالات ببعض المناسبات الوطنية المهمة تحت اشرافه الإداري المباشر ومن أهمها: 
- الإشراف الفني وإخراج فقرات الاحتفال بالعيد القومي لمحافظة «السويس» عام 1998‘ على مسرح «إسماعيل يس»، وهو الاحتفال الذي استمر أكثر من أربع ساعات وتضمن فقرات فنية متنوعة بالإضافة إلى تكريم الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم.
- الإشراف الفني وإخراج فقرات الاحتفال بالعيد القومي لمدينة «الأقصر» عام 1998، وتنظيم المسيرات الفنية في الشوارع الرئيسة، وإخراج الحفل الفني الكبير على المسرح الصيفي الذي شيد خصيصا بجوار فندق «شيراتون»، والذي أحياه المطرب أحمد إبراهيم وأربعة فرق للفنون الشعبية.
وأخيرا إذا كان يحسب لوزارة الثقافة بقيادة الوزيرة الفنانة د.إيناس عبد الدايم ولقيادات  «الهيئة العامة لقصور الثقافة» مبادرتهم السريعة - بمجرد إعلان خبر وفاته - بالمشاركة في تأبينه ونشر النعي الخاص به، وذلك ليس فقط لتأكيد قيم الوفاء لرمز من رموز التنوير والعطاء ولكن أيضا لتأكيد معني نبيل وسام ومهم جدا وهو أن «مصر» لا تنسى عطاء أبنائها بكافة الميادين، بل وتحرص على تقديمهم دائما كقدوة للأجيال التالية، ومن هذا المنطلق فإنني أتقدم باقتراح تكريمه في ذكرى الأربعين لرحيله كأحد صناع الثقافة الجماهيرية وقياداتها الواعية، وإطلاق اسمه على أحد قصور الثقافة - ويفضل بمسقط رأسه بمحافظة «الدقهلية» - ليظل بالذاكرة تأكيدا للمعاني النبيلة السابقة، ويا حبذا لو تم أيضا التنسيق مع كل من محافظة «القاهرة» وجهاز التنسيق الحضاري لوضع لافتة «عاش هنا» على بوابة «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، وذلك نظرا لأن الراحل العزيز عمر البرعي قد عاش بالفعل أطول فترات حياته - هو وزوجته - في هذه الهيئة وأكثر بكثير من اقامتهما في أي منزل.


د.عمرو دوارة

esota82@yahoo.com‏