جسد الإنسان وعقله.. جسد المسرح وفضاؤه

جسد الإنسان وعقله.. جسد المسرح وفضاؤه

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

عندما تجد نفسك في السنوات الأخيرة أمام مؤسسة علمية تعرض مسرحية “المومس الفاضلة” للفيلسوف الفرنسي العالمي «جان بول سارتر»، التي ترجمها «عبد المنعم حفني» في ستينات القرن الماضي وعرضت على المسرح بهذا العنوان دون غضاضة، تجدها معروضة باسم (الساقطة الفاضلة)، لأن كلمة مومس كلمة غير مهذبة تحيل في الواقع لامرأة فاجرة، حتى وإن دلت على مهنة شخصية درامية. وعندما تفاجأ عند دخولك لمشاهدة عرض لمسرحية “الفتى مهران” للكاتب المصري الكبير «عبد الرحمن الشرقاوي» ضمن عروض الجامعات المصرية، فلا تعثر للمرأة على أي حضور في هذا العرض، بعد أن تمت عملية حذف قاسية لبطلات النص الأصلي، فالمرأة ممنوع عليها التمثيل في هذه الجامعة. وعندما تحضر مهرجانا متخصصا فتجد أن مسئوليه قد كلفوا ناقدا محترما لحذف ما يشير لتحول بطلته من العفة للغواية بفعل الرجال المحيطين بها، وتشذيب حوار المسرحية من أية كلمات تشير إلى جسد المرأة.
    فإنك حتما ستتذكر - إن كنت كهلا - ما دار في ستينات القرن الماضي من لغط حول رواية (موسم الهجرة للشمال) للروائي السوداني الكبير «الطيب صالح» والتوقف عند أحد فصولها، وقت صدورها في مصر بتحمس من الناقد الكبير «رجاء النقاش»، كما ستستعيد - كهلا كنت أو شابا - شعار (السينما النظيفة) الذي روج له صناع السينما المصرية في تسعينات القرن الماضي، الذي يعني عدم إظهار أي تلامس جسدي على الشاشة، رعبا من التيارات المتخلفة الصاعدة منذ نهاية الثمانينات، ثم ما تم من مواجهة هذه الأفكار المتطرفة بتطرف مقابل، وإن كان في حقل السرد القصصي والروائي باسم (الكتابة بالجسد) و(الكتابة الحسية) المكشوفة التي أوصلت بعض من كتابها للسجن، فالجسد الشاب بتفاصيله الدقيقة يثير الرغبة الجنسية، مما يجعل هذا الجنس واحدا من أبرز ثلاثة محارم أو تابوهات تتصدى لها رقابة الدولة حماية لمجتمعها من أي خروج عليها.
يعبر ما سبق عن رؤيتين متعارضتين للجسد الإنساني، يحكمهما سياق ثقافي له بعده التاريخي، وإطاره الأخلاقي، ودوافعه الفنية الجمالية، تنطلق الأولى من قاعدة فلسفية ترى أنه في البدء كانت الفكرة؛ فكرة وجود الإنسان وكل كائن حي، وهي فكرة كلية مطلقة عن ماهيته، تخلقت على هديها على الأرض كائنات بشرية تحاول أن تتشبه بها، مجتهدة، أو ينبغي عليها أن تجتهد، للاقتراب من مفهوم الهوية الكلية للإنسان المتسامي بعقله وأخلاقه، والمتعلق بالروح باعتبارها المجسد للمطلق، ولذا فهي تقف دوما مع كل الدعوات الداعية للتسامي الروحي، وجلد الجسد المتساوي حين يفقد روحه لأجساد الحيوانات، واقفة بالتالي ضد الضعف الإنساني وما يؤدي إليه من نقيصة بشرية على المرء أن يسمو عليها وإلا سقط في الخطيئة المؤدية لهلاكه، وفي مواجهة كل ما يشد هذه الروح نحو حيوانية الجسد المغوي المفجر للرغبات الليبيدية.
على حين تنطلق الرؤية الأخرى من قاعدة أن الجسد هو الذي قذف به لهذا العالم الأرضي، وبتفتيش الإنسان عن حقيقة جسده الملموس، اكتشف قيمة ما يملكه من عقل هو المحدد لماهيته، ومانح جسده المادي حقيقة وجوده الفكري، داعية بذلك لضرورة النظر للجسد الإنساني كقيمة تشع بالجمال، وتتفجر بعشق الحياة، وتعبر عن ذاتها في لحظات الحزن ولحظات الفرد بكل طاقة يمتلكها هذا الجسد الراقي.
لهذا رسم المصري القديم أجساد فتاياته شابات تشف الثياب عنهن، فصرن وجودا شفيفا للحياة ذاتها، وهرع الإنسان المصري القديم، ككافة قدماء هذا الكون، للتعبير عن ذاته بالرقص المستخدم لجسده المرئي، وصاغ بهذا التعبير الراقص طقسا يشاركه فيه آخرون، حاملا به تصوراته الأسطورية عن محرك الكون، قبل ظهور العلم المفسر له، فصارت الأساطير هي البناء الفكري لرؤية العالم، وأضحت الطقوس هي البناء الجسدي لها، وراح الإنسان يطور هذه الطقوس من رقصات جماعية لدراما مسرحية تعيد بناء الحكايات الأسطورية في بنية محكمة تقف على جانب المخلص القادر على القضاء على الشر في المجتمع، والمعيد عرش الحكم لابن الإله الطيب المغتال، كما في تمثيلية (إيزيس) المجسدة لأسطورة (إيزيس وأوزوريس) مسرحيا، فيما بين الشارع المفتوح والمعبد المغلق، والمؤسسة على إقدام الأخ الشرير «ست» على ذبح أخيه الطيب «أوزوريس» وتقطيع جسده لأجزاء تم توزيعها على كل الأرض المصرية، حتى تعجز «إيزيس» عن العثور على الجسد الممزق، وتفشل الروح الهائمة في العودة إليه عن العودة إليه، فالجسد هنا هو المجسد للفكرة، وكلما تسامت الفكرة تسامى معها حضور الجسد وتعبيراته، والعكس صحيح تماما.
والأمر كذلك في الدراما المسرحية الإغريقية، فأجساد أبناء «ثيتيس» الممزقة بسكين الأخ «أتريوس»، للخلاص من أي دعم أسري للأول، تمهيدا لنفيه من البلاد، بعد أن خدع وقدم له أجساد أبنائه مطبوخة لأكلها، وذلك حفاظ «أتريوس» على مملكته منفردا، وهو ما جلب اللعنة على إلهه، وخلق سلسالا من دم الانتقام المتوارث، لم يوقفه غير عفو الربة «أثينا» عن آخر الأحفاد القتلة «أورست».
الجسد الإنساني هو محور الحياة، ورؤيته تحددها ثقافة المجتمع، التي تحدد بدورها أمر التعامل به ومعه مسرحيا، والتي تتراكم داخلها الرؤى والمعارف والممارسات الحياتية، ولذا فهي فكر وسلوك معا، ينبغي أن يندغما في رؤية واحدة، وإذا ما وجدت مسافة ظلية بين ما نرى به الحياة ونمارسه جسديا، وبين ما نرى به (تجسيد) هذه الحياة في عمل فني ينتقل من اللاوعي الجمعي إلى وعي المبدع، فإننا نقع في المفارقة بين ما نمارسه من أفعال لا أخلاقية، بينما ندعو طوال الوقت للالتزام بالقيم الأخلاقية في المسرح، وهو أمر لا يكشف عن شيزوفرانيا نفسية نقع فيها فحسب، وإنما هو يكشف عن ازدواجية فكرية نتعامل بها في الحياة اليومية والإبداع، نتغاضى عن كل الوصايا في الراهن، فنسرق الأفكار والحقوق، ونقف بالمرصاد عندما ينتقل هذا الراهن لفضاء المسرح الذي نصنعه بأنفسنا مطالبين بضرورة التمسك بالمثل العليا.
    ذات يوم تسلل لعروض مهرجان دولي لدينا عرض مسرحي أجنبي، يمسرح رواية (هيروشيما مع حبي) للكاتبة الفرنسية «مارجريت دورا»، وكنا قد شاهدنا فيلما في سينما مترو في ستينات القرن الماضي، معدا عن نفس الرواية للمخرج الفرنسي الشهر «آلن رينيه»، ويدور حول شخصية ممثلة فرنسية عجوز وصلت لمدينة هيروشيما اليابانية في ذكرى تدميرها بقنبلة أمريكية نووية، للمشاركة في عمل فيلم ضد الحرب العالمية الثانية البشعة، وتقابلت هناك مع طيار ياباني قديم، راحت معه تتذكر أيام الحرب اللعينة، داخل غرفة نوم تجمعهما معا، لم يكن للجسد الحسي الخاص وجود في هذا اللقاء، بل الجسد الإنساني الممزق بيد قوى كارهة للسلام، ومع ذلك فمجتمع ستينات القرن الماضي الثقافي الذي تقبل الفيلم المعد عن الرواية، لم يكن هو ذاته بعد نحو ثلاثة عقود، لذا جاء أمر من إدارة المهرجان بضرورة أن ترتدي الممثلة ما يغطي جسدها، وكان ذلك في ليلة العرض الأولى، ثم أطيح بالعرض بأكمله في الليلة الثانية، والغريب أن ناقدة مستنيرة هاجمت هذا العرض لاعتماده على العري!
    تغير النظرة الثقافية يؤدي لتغير رؤية المجتمع للجسد الإنساني، وإن جذرت السنون رؤية هذا المجتمع وهيمنت على نظرة غالبيته للحياة، بينما تؤدي الجهود الفكرية المتقدمة للبعض من أفراده لزعزعة هذه النظرة المهيمنة عبر عمل شاق يحتاج لزمن طويل، تؤدي يوما لتغيرها، فالرؤية المؤصلة في المجتمع المصري المتشربة منذ قرون طويلة بالثقافة العربية، والمحكومة بفكر محافظ مناصر دوما للأنظمة السياسية القائمة، والمتجلية في أشعاره وسيره الشعبية وحكاياته التراثية، التي لا ترى في الرجل غير جسد فحل ينتصر بقدراته العضلية وسيفه البتار، ويفتن ناظريه بجماله حتى ولو كان عبدا أسود، ولا ترى في المرأة سوى جسد مغوٍ مهمته في الحياة إثارة هذا الفحل الممتلك له، والمحتفظ به في أجنحة الحريم السلطانية والبيوت الفقيرة معا، فجسد المرأة بهذه الرؤية المتخلفة هو سلعة تباع لتصير عبدة، وهي أصل الشر الذي أدى به للطرد من الفردوس، وهي الأفعى التي عليه الانتباه والنوم بجوارها بعين مفتوحة حتى لا تلتف حول عنقه، والأدهى أنه بهذا النظرة العربية التي أسست لثقافة المصري منذ دخول العرب مصر وتعريبها، رأى المصري حضارته الإنسانية العظمى وتراثها الفكري الرائع بنظرة متدنية، فتخيل أن كل نساء الحضارة المصرية التي صنعت فجر الضمير كن يسيرن في الطرقات عاريات، كما يراهن على جدران المعابد، مثلما تصور أن كل حكام مصر القديمة فراعين جبابرة، وكل المصريين كفرة، رغم أنهم أول من دعا للتوحيد في هذا الكون، بدعوة «أخناتون» الشهيرة.
    أثرت النظرة للجسد في الحياة، على نظرة المسرح له، فتراوح حضور هذا الجسد بالفضاء الإبداعي بين نظرة المثقف المستنير للجسد باعتباره تجليا جماليا للفكرة المتسامية، يتحقق وجوده المتميز داخل جسد المسرح تعانقا معه وذوبانه في فضائه وتساميا بذائقة جمهوره وعقله، وبين نظرة التاجر والمجتمع المرتد لهذا الجسد باعتباره سلعة وفتنة و(موز) و(موزة) يثير الرغبات الدنيا، ويفجر في فضاء المسرح حضورا صاخبا دون أن يضيف لمجتمعه ما يفيده وينقل رؤيته الثقافية خطوة للأمام.


حسن عطيه