التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (15) قاعة محاضرات فن التمثيل

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (15) قاعة محاضرات فن التمثيل

العدد 665 صدر بتاريخ 25مايو2020

انتهى الكلام عن «معهد فن التمثيل»، وارتضى الجميع بالأمر الواقع، وهو تحويل المعهد إلى «قاعة محاضرات»، وتوقفت الأقلام المدافعة عن المعهد، على أمل عودته!! فلم نقرأ كتابات الطلاب، غير الممهورة بتوقيعاتهم، ولم نجد كتابات صريحة باسم زكي طليمات، الذي ارتضى بالأمر الواقع، حفاظًا على وظيفته، وهي التدريس في القاعة، كما كان يُدرس في المعهد. والسبب في إثارة هذه النقطة الآن، شك بعض الناس فيما كتبته زوزو حمدي الحكيم، وما كتبه بعض الطلبة دفاعًا عن المعهد – دون أن يذكروا أسماءهم – بأن هذه الكتابات، كتبها زكي طليمات بنفسه! وهذا الشك استمر لعشرات السنين، حتى اعترف به زكي طليمات في كتابه «ذكريات ووجوده» قائلاً:
«قام أول معهد حكومي للتمثيل عام 1930 في عهد وزارة إسماعيل صدقي، وكان وزير المعارف إذ ذاك مراد سيد أحمد، رجل ذو جرأة عجيبة وحرية في الرأي. وقطع المعهد عامه الدراسي الأول وسط زوبعة أثارها المتزمتون من أصحاب الآراء الرجعية. وفي نهاية العام الدراسي أوفدتني الوزارة في الصيف إلى أوروبا لإنجاز مهام فنية تعمل على تقدم هذا المعهد. ولكن لم يمض على سفري أيام معدودات حتى حل وزير جديد هو محمد حلمي عيسى، مكان الوزير الذي وافق على إنشاء المعهد، إذ أمر الملك فؤاد السابق بأن ينقل الوزير الجريء وزيرًا مفوضًا في بلجيكا. وكان أول عمل أتاه الوزير الصالح، حبيب المحافظين، حلمي عيسى، أن أغلق المعهد بالضبة والمفتاح باسم المحافظة على التقاليد الإسلامية، فعل هذا وسط تصفيق المحافظين وأهل التقى، وكأنه أغلق بيتًا من بيوت الشيطان، وتم هذا وسط احتجاج من جانب من هم ليسوا من غير السابقين، فقامت بين الطرفين معركة قلمية حامية في مختلف الصحف، خرج منها الوزير الجديد بلقب «وزير التقاليد» وهو اللقب الذي لازمه طيلة حياته بعد ذلك. وعدت إلى مصر من بعثتي الصيفية، وكان أمر طبيعي أن أتداوى من ألمي وخيبة آمالي بأن أهاجم حلمي عيسى، فشرعت قلمي في مختلف الصحف أهاجمه، ولكن لم أجرؤ يومًا أن أوقع ما أكتبه بإمضائي إبقاءً على عيشي في الحكومة».
الإجراءات الإدارية
أربعة أشهر، هي الفترة ما بين قرار تحويل المعهد إلى قاعة، وبين افتتاح القاعة بالفعل! وطوال هذه الأشهر، كانت الأمور الإدارية تسير بصورة مضطربة ومتناقضة. ومن خلال دوريات هذه الفترة – من أغسطس إلى ديسمبر 1931 – نستطيع أن نُجمل أهم الإجراءات الإدارية المتعلقة بالقاعة، ومنها نوعية الدارسين فيها، وهم: جميع طالبات وطلبة معهد فن التمثيل الذين نجحوا في السنة الأولى! وأفراد الفرق التمثيلية من المحترفات والمحترفين، والمنتسبات والمنتسبين إلى الفرق التمثيلية من الغواة، وأعضاء النوادي التمثيلية، وأعضاء فرق التمثيل المدرسية من الطلبة! كما أُبيح سماع المحاضرات للممثلين والممثلات والهواة، شريطة تقديم «كارنيه» من إدارة الفرقة التي يشتغل بها الممثل أو الممثلة، على أن تكون فرقة محترمة تعترف بها الحكومة!! أما الهواة، فيجب حصولهم على شهادة الكفاءة.
أما المواد الدراسية، التي ستلقى محاضراتها في هذه القاعة، فهي: «الإخراج» لزكي طليمات، و«الإلقاء» لجورج أبيض، و«تاريخ الأدب التمثيلي» لمحمد عبد الواحد، و«اللغة العربية» لأحمد السيد صفوت. والدراسة ستكون مسائية من الخامسة إلى الثامنة مساء، أيام السبت والاثنين والثلاثاء للرجال، وأيام الأحد والثلاثاء والخميس للفتيات، حتى لا يحدث اختلاط بينهم!! أما طلاب المعهد القديم، فسيخصص لهم فصل خاص أعلى درجة من فصل المستجدين!!
أما مقرّ القاعة، فالجميع تخيل إنه مقر «معهد فن التمثيل» في سراي موصيري!! لكن وزير التقاليد، أراد أن يلغي كل شيء مرتبط بالمعهد، فقرر نقل القاعة إلى «معهد الموسيقى الشرقي»، بحجة ارتباط المسرح بالموسيقى مستقبلاً، وهذا النقل، سيكون أساسًا لظهور معهدٍ، يجمع بين التمثيل والموسيقى!! وعلى الرغم من أن القاعة لم تُنقل إلى معهد الموسيقى، إلا أن فكرة وجود معهد يجمع بين المسرح والموسيقى، تحققت بالفعل في أواخر أربعينات القرن العشرين، عندما ظهر في مصر «المعهد العالي للموسيقى المسرحية»! وبالعودة إلى ما نحن فيه من عدم وجود مقر لقاعة المحاضرات، استغل مدير «معهد التمثيل الأهلي»، هذا الموقف، وأرسل خطابًا إلى وزير المعارف - نشرته مجلة «الصباح» - قال فيه:
 «حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية، أتشرف بأن أخبر معاليكم أنه بمناسبة القرار الأخير الصادر بتحويل معهد فن التمثيل إلى قاعة محاضرات، قرر مجلس إدارة معهد التمثيل الأهلي أن يضع صالته الكبرى، التي تسع نحو ألف وخمسمائة طالبًا تحت تصرف معاليكم لتُلقى فيها المحاضرات، التي قررتم معاليكم جعلها النظام الأخير لمعهد فن التمثيل، وذلك بدون مقابل خدمة للفن، الذي وقفنا حياتنا لخدمته؛ ولكي يتمكن أكبر عدد من هواة التمثيل من الاستفادة من تلك المحاضرات. وختامًا تفضلوا معاليكم بقبول احتراماتي. [توقيع] عبد العزيز حمدي مدير معهد التمثيل الأهلي».
أعلم عزيزي القارئ بما يدور في ذهنك الآن، بل وأعلم صيغة السؤال الذي تريد أن تطرحه، وتقول فيه: هل يوجد في هذه الفترة معهد اسمه «معهد التمثيل الأهلي»، أم هو نفسه «معهد فن التمثيل»؟! الحقيقة إذا أردت أن أجيب على هذا السؤال، فلا بد لي أن أكتب عدة مقالات، تفوق عدد ما كتبته من مقالات عن «معهد فن التمثيل»!! لأن «معهد التمثيل الأهلي»، ظهر قبل «معهد فن التمثيل» بسنوات كثيرة، وظل مستمرًا حتى أوائل خمسينات القرن العشرين، وطوال تاريخه كان منافسًا شريفاَ لمعهد التمثيل الحكومي أو «معهد فن التمثيل»!!، والدراسة فيه كانت بإلقاء المحاضرات، وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبين المعهد الحكومي، بل وكانت هذه النقطة، هي مجال المكايدة بين المعهدين وطلابهما!! لذلك كانت سعادة «عبد العزيز حمدي» كبيرة، عندما تحول المعهد الحكومي إلى «قاعة محاضرات»، أي تشابه مع أسلوب التدريس في المعهد الأهلي.. أي تساوت الرؤوس!! لذلك أراد مدير المعهد الأهلي، أن يتبرع بقاعته لوزارة المعارف، كي تستغلها في إلقاء المحاضرات لطلاب المعهد الموءود، ولطلاب قاعة المحاضرات، التي لا تجد لها مقرًا!!
الله وحده يعلم النيات في هذه الفترة، لأننا لا نعلم نيات عبد العزيز حمدي، هل كان يريد السخرية والانتقام، أم كان محقًا في نياته!! لأن الحقيقة التاريخية، تقول إن قاعة المعهد الأهلي، الذي أراد أن يتبرع بها عبد العزيز حمدي، كانت بالفعل تسع عددًا كبيرًا من الطلاب، لأن مقرّ المعهد الأهلي، كان في عمارة «تيرنج»، الموجودة حتى الآن بالعتبة!! وبعيدًا عن النيات، لم يقبل وزير التقاليد اقتراح عبد العزيز حمدي، ونقل الطلاب من سراي موصيري، إلى - مكان آخر يحقق له ميوله الانتقامية من المسرح ودارسيه، وهو - إحدى قاعات المدرسة الإبراهيمية الثانوية بباب اللوق!! وأصبح الأستاذ محمد حسين محمد ناظر المدرسة مشرفًا على «قاعة محاضرات فن التمثيل»، بعد أن كان رئيس المعهد هو سكرتير عام وزارة المعارف!! هكذا سارت الأمور، حتى نهاية ديسمبر 1931، عندما أعلنت وزارة المعارف بيانها الأخير في الصحف، قائلة:
«تعلن وزارة المعارف العمومية أنها قررت إنشاء قاعة للمحاضرات التمثيلية تُلقى بأحد مدرجات المدرسة الإبراهيمية الثانوية، على أن يرخص بحضور هذه المحاضرات لجماعات الممثلين المصريين وغيرهم من هواة التمثيل ممن حسنت سيرتهم. ويكون الحضور بمقتضى ترخيص شخصي عليه صورة صاحبه، يمنح من حضرة ناظر المدرسة المشرف على هذه القاعة. وعلى المستمع تقديم الترخيص عن الدخول في كل محاضرة. ويقسم الطلبة إلى فصلين: فصل السنة الأولى للمستجدين، وفصل السنة الثانية للراغبين من طلاب السنة الثانية ممن حضروا محاضرات العام الماضي. على أنه إذا قلّ عدد المستمعين في أي فصل عن عشرة، فيجوز للوزارة أن توقف المحاضرات فيه بسبب قلة المستفيدين منه. وقد تحدد لكل من الذكور والإناث حصص خاصة في أيام مختلفة. فللذكور أيام السبت والاثنين والأربعاء، وللإناث أيام الأحد والثلاثاء والخميس. وتتناول هذه المحاضرات: تاريخ الأدب المسرحي، واللغة العربية، وفني الإخراج والإلقاء. وستعقد في نهاية السنة الدراسة مباراة عامة [الامتحانات] للذين واظبوا على حضور هذه المحاضرات. ويجوز منح المتفوقين منهم في هذه المباراة جوائز مالية. وتبدأ المحاضرات من يوم السبت 2 يناير سنة 1932 وينتهي أجل قبول الطلبة والطالبات في القاعة يوم آخر ديسمبر سنة 1931. هذا وقد اختارت الوزارة الأساتذة عبد الواحد أفندي لتدريس تاريخ الأدب المسرحي، وصفوت أفندي لتدريس اللغة العربية، وجورج أبيض وزكي طليمات لتدريس فني الإلقاء والإخراج. ويحضر الطلاب يوميًا من الساعة 7 إلى 9 مساء أيام شهر رمضان فقط، ومن الساعة 5 إلى 7 مساء الأيام الأخرى».
طلاب قاعة المحاضرات
بلغ عدد طلاب الفرقة الأولى بقاعة المحاضرات 130 طالبًا، كان من بينهم طالبان من مشاهير الممثلين المحترفين، هما: أحمد علام، وقاسم وجدي!! وهذا العدد الكبير لم يكن من بينه «فتاة» واحدة!! مما يعني أن جميع الفتيات والممثلات والهاويات لم يتقدمن للالتحاق بهذه القاعة!! والسبب في ذلك – ربما - الضجة التي قامت من قبل بسبب فتيات المعهد، ونتج عنها تحويل المعهد إلى قاعة!! وهناك احتمال آخر، أن وزير التقاليد منع – بصورة غير معلنة – قبول أية طالبة، ترغب في الالتحاق بقاعة المحاضرات، على الرغم من أن شروط الالتحاق بالقاعة، لا تمنع الطالبات من الالتحاق بها؛ ولكنها تمنعهن من الاختلاط بالطلاب، وهذا الشرط مُعلن ومعروف قبل فتح باب القبول للطلاب والطالبات!!
أما طلاب الفرقة الثانية، فكانوا جميع الناجحين من طلاب «معهد فن التمثيل»؛ لأنهم مُجبرين على استكمال الدراسة؛ بوصفهم أول طلاب متخصصين دارسين للمسرح دراسة أكاديمية منتظمة؛ وهذه الصفة كان الطلبة يعلمون قيمتها حينئذ، وهي الصفة التي ظلت راسخة في تاريخ المسرح المصري منذ عام 1930 وحتى الآن!! وهؤلاء الطلبة، هم: زوزو حمدي الحكيم، روحية محمد علي خالد، رفيعة سيد أحمد الشال، منيرة أحمد هيكل، فاطمة محمد محمد، يوسف فهمي حلمي، أحمد فرج النحاس، محمد أحمد شاكر، إبراهيم عز الدين، محمد أحمد الغزاوي، محمد عبد القدوس، أحمد البدوي، إسماعيل نظمي، عبد الفتاح عزو، عبد الفتاح حسن، صالح إبراهيم، محمد طلعت عزمي، محمد عزت القرماني، عبد السلام النابلسي.
الطالب العراقي
إذا قارنا الأسماء السابقة بأسماء الناجحين في العام الأول للمعهد، سنجد اسمين غير موجودين، هما: الطالب العراقي محمد تقى شمس الدين، والطالب حسين محمود من الإسكندرية. وبالنسبة للطالب العراقي، فقد نشرت مجلة «الكواكب» كلمة عنه، تحت عنوان «التمثيل في العراق»، قالت فيها: «كتب إلينا أديب من الموصل كلمة عن التمثيل في القطر العراقي، يتنبأ له بمستقبل زاهر، نظرًا لإقبال الشباب المتعلم عليه واهتمامه بأمره. وهو ينسب إلى الفرق المصرية التي زارت العراق أخيرًا، شيئًا من الفضل في ذلك. ويقول إن من بين الشبان الذين برزوا محمد تقي أفندي، الذي كان طالبًا في معهد التمثيل المصري، والذي قصد إلى الاستانة بعد ذلك، ثم عاد إلى العراق، فأسندت إليه وزارة المعارف هناك مهمة تدريب بعض الطلبة في بعض مدارسها».
وبهذه المناسبة، دار حوار بيني وبين صديقي من العراق الدكتور «علي الربيعي» حول هذا الطالب؛ فأخبرني إنه قرأ وثائق خاصة ببعثة هذا الطالب لدراسة المسرح في مصر والاستانة، وأنها تفيد بأن بعثته أُلغيت في مصر بعد غلق المعهد، وتحويله إلى قاعة لا تعطي شهادات دراسية رسمية!! لذلك قام – بعد غلق المعهد – بتحويل بعثته إلى الاستانة. ولكن «أحد رواد المسرح العراقي»، كان يظن أنه أولى من هذا الطالب بالبعثة، فأوقع بين الطالب وبين المسؤولين، وادعى أن الطالب من أصول غير عراقية، مما جعلهم يقومون باستدعائه وإلغاء بعثته، وهي البعثة التي نالها «أحد رواد المسرح العراقي»!! ووثائق هذا الموضوع لدى صديقي الدكتور «علي الربيعي»، وسيكتب عنها يومًا ما، وأنا أنقل الحوار الذي دار بيني وبينه بأمانة، دون ذكر اسم «أحد رواد المسرح العراقي»، احترامًا لريادته وتاريخه. ومهما يكن من أمر ما حدث ضد الطالب «محمد تقي»، إلا أن هذه المقالات، تؤكد وتوثق حقه التاريخي، بوصفه «أول عراقي درس المسرح في أول معهد مسرحي في مصر وفي العالم العربي»!!
أرسلت الفقرة السابقة – بعد كتابتها مباشرة - إلى صديقي الدكتور «علي الربيعي»، لعله يريد إضافة أي توضيح آخر، فأرسل لي هذا الردّ: «محمد تقي شمس الدين، تم إرساله إلى مصر، وبعد إغلاق المعهد عاد إلى العراق، ومن ثم أرسل إلى تركيا لإكمال دراسته. وفعلا سافر إلى تركيا في 1/ 11/ 1931، غير أنه بعد مدّة عاد إلى بغداد، بعد أن قُطعت عنه الإعانة، وبقي يتحين الفرص لإعادة دراسته، غير أن جهوده ذهبت أدراج الرياح. غير أن وزارة المعارف قررت إرسال «أحد رواد المسرح العراقي» كمبعوث إلى باريس للدراسة، عند ذلك تقدم محمد تقي بعريضة إلى وزارة المعارف نُشرت في الصحف يوم 24/ 12/ 1934 يطالب فيها الوزارة بأحقيته بالبعثة؛ وأن المرشح «أحد رواد المسرح العراقي»، لا يحتكم على خصائص فنية تؤهله إلى ذلك. غير أن الوزارة لم تهتم بالعريضة، واستمرت في تنفيذ إجراءات سفر مرشحها «أحد رواد المسرح العراقي». وكان «أحد رواد المسرح العراقي» قد لعب دورًا في ذلك بادعائه أن محمد تقي الدين ليس من أصول عراقية».
الطالب الإسكندري
أما الطالب حسين محمود من الإسكندرية، فقبل أن نذكر سبب عدم وجوده ضمن طلاب الفرقة الثانية بالقاعة، سأذكركم بما قاله - ونشرناه في المقالة الرابعة - عندما تحدث عن مشاعره عندما تم الإعلان عن معهد فن التمثيل لأول مرة، وكيف التحق به وضحى من أجل هذا الالتحاق بالغالي والنفيس، وما هي أمانيه عندما يحصل على شهادة المعهد، بوصفه من أوائل من درسوا المسرح دراسة أكاديمية منتظمة.. وهذا ما قاله، ونشرته مجلة الصباح:
«للتمثيل لذة لا يشعر بها إلا كل هاوٍ لهذا الفن الجميل. وهذه اللذة ناتجة عن حساسية في النفس، التي تميل بطبعها إلى كل جميل. والنفس الفنانة تحب أن يكون الفن هو المهيمن على الحياة بأجمعها. وليس بالغريب أن يكون في مصر معهد تمثيلي، ينشر ثقافة هذا الفن الجميل على أيدي تلامذة يتخرجون منه. ولما قامت الحكومة بإنشاء هذا المعهد، بدأت حركة مباركة من الغواة. وسرعان ما قدموا طلبات للالتحاق به، وكنت ضمنهم. ونجحت أمام اللجنة المختارة، التي خصصت للاختبار. وأني الشاب الوحيد الذي نجحت من مدينة الإسكندرية، واعتبر نفسي مندوبًا عنها في هذا المعهد الفني، بعد أن ضحيت بوظيفتي التي كنت أشغلها بمصلحة الموانئ والمنائر، وهذه تضحية لوجه الفن. وأن أسعد لحظة شعرت بها في حياتي هي اللحظة التي تسلمت فيها خطاب نجاحي النهائي بالمعهد [يقصد نجاحه في امتحان القبول بالمعهد] من ساعي البريد، الذي قبّلته على الرغم عنه، مع عدم معرفتي به. وفي هذه اللحظة عندما نجحت شعرت بالحياة تدب في قلبي، بعد أن كاد يذبل. وعندما أعود إلى فراشي لأنام، أحلم بالمعهد وما سيعود علي منه من المجد والشهرة، فأفيق مسرورًا باسمًا. وأحيانا أحلم برسوبي في الامتحان، فأفيق مذعورًا متألمًا. وعندما أسير إلى عملي، أكون شارد اللب، أفكر هل سأنجح أم لا؟!! وأخذت صحتي في النحول، وفي ظرف أسبوع نقص وزني خمسة كيلوجرامات، وأصبحت أنظر للحياة نظرة الزهد، ضاربًا عن المأكل والمشرب. أما الآن فقد تحسنت صحتي وصرت أحسن من قبل، وأصبحت طالبًا بالمعهد أتعلم فن التمثيل والعلوم على أيدي أساتذة ودكاترة مشهود لهم بالكفاءات العلمية والفنية في معهد فن التمثيل».
هذه هي مشاعر الطالب «حسين محمود»!! فهل يُعقل إنه يتوقف عن الدراسة، ولا يستكملها؟! الحقيقة أنني لا أملك معلومة صريحة عن سبب ابتعاد هذا الطالب عن الدراسة، بعد تعلقه بها، بالوصف الذي شرحه في كلمته!! ورغم ذلك عندي اعتقاد – قد يكون صحيحًا – وهو أن الطالب، رفض أن يستكمل الدراسة؛ لأنها لا تؤهله إلى أية وظيفة، وليس لها شهادة يُعتد بها بعد أن تحول المعهد الحكومي الرسمي إلى قاعة محاضرات تثقيفية! فهذا الطاب ضحى بوظيفته من أجل الفن وشهادته، التي ستؤهله إلى وظيفة أفضل وأرقى، لا سيما وأنه من سُكان الإسكندرية، أي إنه يدرس في القاهرة مغتربًا!! مما يعني أن هذا الطالب طُعن في مقتل بعد تحويل المعهد إلى قاعة!! ومن المؤكد أن هذا الطالب ضل طريقه، بعد أن فقد الأمل في كل شيء بسبب غلق المعهد، وعدم حصوله على شهادته!! والدليل على ذلك، أن مجلة الصباح في نهاية عام 1935 – أي بعد أربع سنوات من افتتاح القاعة – نشرت خبرًا تحت عنوان «فصل ممثل من الفرقة الحكومية»، قالت فيه: كتبت وزارة المعارف إلى الأستاذ خليل مطران مدير الفرقة الحكومية، ليفصل «حسين محمود» من الفرقة الحكومية. ومحمود حسين المنفصل، كان طالبًا بمعهد التمثيل الملغي، وضحى من أجل التحاقه به بوظيفته! وقد راعى الأستاذ خليل مطران ظروفه هذه، فعينه ممثلاً بالفرقة الحكومية. وكانت صدمة قوية لدى المُمثل المفصول جعلته يكتب تظلمًا إلى لجنة ترقية المسرح المصري للنظر في أمره. أما الأسباب فيظهر أنها لتداخل الممثل المذكور مع بعض الهيئات تداخلاً، اعتبرته وزارة المعارف اشتغالاً بالسياسة!!


سيد علي إسماعيل