عظام أنتيجون (1)

عظام أنتيجون (1)

العدد 815 صدر بتاريخ 10أبريل2023

 «يجب على من يرغب في مشاركة الأحاسيس الأقل بهجة لعلماء المصريات وهو يسرق قبرًا أن يقرأ كتب الدراما التي تعود إلى أربعين أو ثلاثين أو حتى عشرين عامًا، إنه تأديب للكاتب فــي الدراما اليوم».
إيريك بنتلي  
          
 «إن ما يتغير عبر الزمن هو القيمة، أو الصلة الوثيقة، أو معنى الأرشيف، فكيف يمكن تفسير ما تحتويه من عناصر أو تجسيدها. فربمـا تبــقى العظـام كما هي، على الرغـم من أن قصتهـا قد تتغـير اعتمادًا على عالم الحفريات أو عالم الأنثروبولوجيا الذي يفحصها. فربما تُعرض مسرحية أنتيجون بطرق متعددة، بينما يؤكد النــص غير المتغير الدال الثابت».
ديانا تايلور  

 تستند قراءة ديانا تايلور الرائعة للأداء المعاصر في أمريكا اللاتينية، على الانقسام المألوف الذي ظهر في شكله الحالي في السبعينيات كجزء من الخطاب التمكيني لنظرية الأداء ومجال دراسات الأداء. ومن غير الاستثنائي الآن، بقدر ما كان غير استثنائي بالنسبة للنقد الجديد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، اعتبار الأداء الدرامي بمثابة تمثيل للكتابة وتكرار لها، باعتباره خاضعًا لأولوية النص. وبهذه الرؤية، يقف المسرح الدرامي بعيدًا عن الطابع المتغير والمقاوم والكرنفالي للأداء الخالي من النص الذي يحتفل به دوايت كونكرجود، الذي تم التقاطه في إحساس تايلور بالريبرتوار والذاكرة المجسدة والعروض والإيماءات والشفهية والحركة والرقص والغناء – باختصار كل تلك الأفعال التي يُعتقد أنها معرفة سريعة الزوال أو غير قابلة للتوالد. 
 يتطلب تأمل الأداء إزاحة النماذج –ومن ضمنها مجموعة مفاهيم الأداء الدرامي الخاطئة– وبالتأكيد لم يعد من الضروري أن نتمرن على تأثير «السلوك المستعاد» والاستبدال والاختفاء والصلاحية والفعالية على مسار نظرية الأداء أو دراسات الأداء كمجال. كما أنه ليس من أهدافي هنا تجزئة النقد المادي للنصية التي تتحدى الهوية والسلطة المفترضة للكتابة في ثقافة الطباعة المتضائلة (وربما من خلالها افتراضيًا). ولكن قد يمنحنا الإحساس بأرشيف الثقافة المكتوبة التي يحددها ثبات واستقرار الكتابة، وقفة، ومعارضة لريبرتوار الأداء الذي يستبعد صراحة الأداء الدرامي –الأداء والإيماءات والشفهية والحركة والرقص والغناء- ولكن ليس التمثيل أو المسرح. وبالنسبة لتايلور، فإن استخدام الكتابة يربطها بقرون من النشاط الاستعماري أو التطبيع الذي يميز التوسع الإمبريالي والأنا الإمبريالية لنظرية المعرفة الغربية، فإن الأداء الدرامي يتم استيعابه بشكل أساسي في الأرشيف كأداة للقمع، وهي إحدى الوسائل التي تحافظ بها الدولة على السلطة. ونتيجة لذلك، على الرغم من أن الأرشيف والريبرتوار موجودان في حالة تفاعل مستمر، فإن الاتجاه هو إبعاد الأرشيف إلى الماضي؛ إذ تتمثل مهمة «الأرشيف والريبرتوار» عند تايلور في استعادة الفاعلية الاجتماعية للريبرتوار لعرض وتحديد الخطوط العريضة لمقاومته السياسية والمعرفية المستمرة. ففي حين أن الأرشيف والريبرتوار كانا مصدرًا مهمًّا للمعلومات، حيث تجاوز كلاهما حدود الآخر، وعادة ما يعملان جنبًا إلى جنب مع أنساق النقل الأخرى، فإن الأرشيف هو سجن ثقافة الأداء الفعال ومقبرتها؛ حيث إن العظام قد تظل كما هي، على الرغم من أن قصتها لم تتغير، كما يمكن أيضًا تقديم «أنتيجون» بطرق متعددة، بينما يؤكد النص غير المتغير ثبات الدال.  
بالتأكيد، تحتاج منا دراسة الأداء أن نعترف بالحاجة إلى تحرير أنفسنا من هيمنة النص –كموضوع مميز أو حتى وحيد في تحليل الأداء- ولاسيما عندما ينظر إلى النص بأنه الملمح المحدد للدلالة المسرحية. ومن خلال قلب انعكاس «الكلام - الكتابة» عند دريدا، فإن إعادة ضبط تايلور لزمن الريبرتوار والأرشيف متشابه مع التمثيل الأكثر انتشارًا لتعاقب وسائط الأداء؛ مما يترتب على ذلك تعاقب المناهج النقدية. إن تأطير هانز سيز ليمان للأداء الدرامي باعتباره خاضعًا بشكل أساسي لأولوية النص، يؤدي إلى زمنية مماثلة، والتعاقب المتقطع للمسرح بعد الدرامي قد تمت كتابته مسبقًا بالكامل. ولذلك أيضًا، فإن علم الأصول عند جاكسون، لدمج الأداء في الأكاديمية الحديثة في دراسته «الاعتراف بالأداءProfessing Performance « يضع دراسات الأداء في السبعينيات من القرن الماضي ضمن انتقال شامل من الدراسات الأدبية إلى الدراسات الثقافية، وهو تعاقب متوقع جزئيًّا من خلال توقفات وبدايات علم الأصول الدرامية إلى الثقافة، حيث أنتجت الالتزامات النصية والمقاومات المضادة (وكراهية المثلية) للمفهوم الأدبي المحدد للدراما، رؤى ودفاعات وإضاءات وارتباكات أثارت، مع ذلك، الجانب الدرامي كموقع للنقد المنغمس في الأداء في بعض الأحيان في خمسينيات القرن الماضي. على الرغم من أنه قد يكون من المفيد ومن التواضع الاعتراف بإمكانية وجود نماذج بديلة، فإن أصول الانتقال من الدراما إلى الثقافة في كتاب «الاعتراف بالأداء» يترك منطقة النظرية الدرامية للأداء مجهولة إلى حد كبير من خلال ترك الدراما وراء الأداء ببساطة. 
     وقد وجهت هذه الدراسات القوية مشروع الأداء ودراسات الأداء على نحو استراتيجي، في حضور تمثيلهما للكتابة الدرامية، وأضع علامة على المناورة التكتيكية الأساسية، على ما يبدو كأعراض لشبكة من المواقف والافتراضات. في النهاية، يجد جاكسون أن الوعي بعلم الأصول المرتبط بفروع العلم المعقدة يجعل التناقض بين الدراسات الأدبية القديمة والدراسات الثقافية الحديثة، وبين الدراسات المسرحية القديمة ودراسات الأداء الجديدة، أقل سهولة في الحصول عليها أو استبعادها؛ إذ تلمح تايلور إلى حالة التفاعل المستمر بين الأرشيف والريبرتوار، وحتى ليمان، يتناول القطيعة بين المسرح الدرامي والمسرح بعد الدرامي كعملية تفاوض مطولة، يقلب ببطء الأداء الدرامي بشكل غير متساوٍ: يصبح حضورًا أكثر من كونه تمثيلًا، وأكثر مشاركة من كونه تجربة اتصال، ومعالجة أكثر من كونه ناتجًا، ومظهرًا أكثر من كونه دلالة، وباعثًا حيويًّا أكثر من كونه معلومات. وأحد طرق تحرك هذه المؤهلات، التي نتناولها بجدية، قد تكون مقاومة الانقسام المرهق الذي يحافظ عليهم، يستوعب الأداء الدرامي في الأرشيف ويحدد الريبرتوار، وأن عملية النقد الدرامي هي تمييز للنص الأدبي، وأن الأداء الدرامي يضفي شرعية بالضرورة على التمثيل، والتواصل، والناتج، والمعلومات التي تم استيعابها في النص المكتوب، وما يمكن أن نسميه مسرحًا -باعتباره تفسيرًا– وإعادة صياغة من خلال رؤية وسائل أخرى للأداء المميز لعصر مضى من النقد الجديد. 
     كيف يمكن أن تعمل قراءاتنا للدراما على السطح المشترك بين الكتابة والتجسيد، والدراما والأداء، فضلًا عن استقطابهم؟ ربما نبدأ بالتأثير على كيفية بين الأرشيف والريبرتوار، الذي برغم قوته التوليدية، يمنعنا من فهم الأداء الدرامي باعتباره أداء؛ إذ ربما تعرض مسرحية «أنتيجون» عدة مرات، بينما يؤكد النص غير المتغير مدلولًا ثابتًا. ما هو نص «أنتيجون» غير المتغير؟ وبغض النظر عن التعقيد المذهل لكيفية، أو ما إذا كانت البرديات (المتنوعة، والناقصة) تمثل الدراما في الكتابة، وبغض النظر أيضًا عن آلاف السنين من الظروف، والدراسات، والترجمة، والإعداد، فلم يعرض، بشكل مختلف، على خشبة المسرح الغربي، سوى القليل من المسرحيات. وفي الوقت نفسه، فقد استغلت مسرحية «أنتيجون» الدال الثابت للأرشيف وخانته، من خلال عمل غير متوقع ومقاوم للريبرتوار، امتد فعلًا إلى إعادة صياغة الأرشيف نفسه، كما هو الحال في عرض «الجزيرة The Island» (1974) الذي قدمه جون كاني، وونستون نتشونا وأثول فوجارد، أو عرض توم بولين (1984) «الإضراب The  Riot Act». فما هو الدال الثابت الذي تؤكده «أنتيجون»؟ وكيف يظهر هذا الدال الثابت في خطاب العرض المتغير؟  
 يعالج المسرح غالبًا –أو يزعم أنه يعالج– الكتاب كنوع من الذخيرة التنظيمية، ولكن يبدو من الإنصاف أن نقول إن ممارسات الريبرتوار تتدخل في فرض الكتابة كأداء وتتخيلها وتبتكرها. فالريبرتوار يجسد عملية النقل –الممارسات المجسدة مثل القراءة والتعليق والحفظ والحركة والإيماءات والتمثيل– التي تنتج كلًّا من الإحساس بماهية النص، وما يمكن أن نقوله في الأداء. فعندما ظهرت دراسات الأداء كمجال في السبعينيات من القرن الماضي، بدأت نظرية الأداء تنفصل عن نقد الأداء الدرامي. وفي الوقت نفسه، رغم ذلك، وأخيرًا انفصل النقد الدرامي ببرنامج جديد لاستيعاب الدراما في الدراسات الأدبية؛ وهو البرنامج الذي لعب دور خشبة المسرح باعتباره تفسيرًا للبعد الأدبي المميز للدراما إلى حد كبير من خلال تأطير التمثيل كطريقة لإعادة إنتاج النص في الكلام – مثل الشخصيات التي تنطق الكلام، كما قال جون رانسوم كرو في كتابه التأسيسي «النقد الجديد The New Criticism». وفي قراءة ذكية للحسن النقدي، يقترح جون إريكسون أنه «إذا كانت دراسات الأداء تعاني من مشكلة مع دراسات المسرح، فإنها على الرغم من التركيز على المسرح، لا تزال أدبية للغاية وتخضع للنظام النصي، وهو نظام يمثل القوة الإمبريالية لثقافة المتعلمين المتفوقة على الثقافة الشفهية أو الثقافة الأمية، وعلى ثقافة الأداء غير النصي أيضًا. وفي الوقت نفسه، فإن أحد جوانب الوصول إلى الأداء كما يظهر في النظرية الاجتماعية والثقافية المعاصرة، وكما تجادل جوليا ووكر، هو الوعي المثير للاهتمام بحدود استعارة الثقافة كنص. بينما أصبحت النزعة النصية المضادة antitextualism مألوفة الآن؛ إذ تميز نقد الدراما في العقود الثلاثة الماضية بتحدي معقد للقراءة بشكل مختلف من خلال تقديم مجموعة من المشاكل والممارسات المتشابكة: مقاومة مركبة لمؤسسة الأدب، وتكرار التحليل الأدبي البحت، الذي يتطلب إعادة التقويم (كما في دراسات الأداء) قد طالب بتسوية مع صياغة نصية كاملة للأداء المنسوب إلى جريتز. وعلى الرغم من وجود أسباب مقنعة لترك الآراء التقليدية والأدبية حول الأداء في تشكيل نظام ناشئ، يمكننا الآن أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إعادة التفكير في علم الأصول البديل في حوار مع التقاليد السائدة في مناهضة المجال المضاد لدراسات الأداء، وما هي فائدة استئناف هذا الحوار. 
 بالطبع، يمكننا بالكاد اختزال الدراسات الأدبية إلى مجموعة ضيقة من الفعاليات، وقد شعرت الكتابة الدرامية بتأثير الممارسات النقدية المتعددة، ومنظورات السمة المميزة للاختمار متعدد التخصصات خلال الثلاثين سنة الماضية. وعلى الرغم من ذلك، فإنني هنا لا أهتم كثيرًا بوجهات النظر التي تزعم بأن تشابه الدراما مع أشكال التمثيل الأدبي الأخرى، تحلل، مثلًا، الاحتمالات الشكوكية والإيديولوجية والنفسية التحليلية لسرد المسرحية، أو استراتيجيات إعداد الشخصيات، أو العالم الخيالي. في حين أن هذا العمل له جوانب متشعبة في بعض المسرحيات كممارسة ثقافية، من خلال التعامل مع الكتابة الدرامية على أنها كتابة نصية، فإنها تؤكد على مكانة الدراما في المقبرة، حيث توجد عظام أنتيجون بالقرب من عظام أرسطو وهيجل، وأفترض أنها بالقرب من عظام أنطوني وآنا كريستي أيضًا. وعلى الرغم من الثرثرة المشتتة للأدائية والأداء في الدراسات الأدبية، فإن إعادة فتح الحدود بين دراسات الأداء والدراما يتطلب معارضة أقوى بكثير للبعد الأدبي للدراما، حيث إن فعل الأشياء بالكلمات يقاوم الإحساس بأن الكلمات هي التي تفعل الفعل. 
     فكيف يمكن أن نقرأ المسرحيات دون تصور للأداء المسرحي على أنه مجرد إجراء مستمد من التصميم الأدبي للدراما؟ وللمزيد في هذا الموضوع ، كيف يمكن أن تُفهم الكتابة الدرامية لكي تتخيل من جديد السطح المشترك بين الأرشيف والريبرتوار، والنص والجسم، بطرق تستعيد قوة المساهمة في الخطاب الدراما لنظرية الأداء؟ لقد عمل مايكل جودمان في الكتاب الذي قدمه عام 1975 بعنوان «حرية الممثلThe Actor’s Freedom « على إعادة توجيه الفكر عن الدراما، في محاولة لتطير طريقة للكلام عن الدراما ليست ملوثة بالمفاهيم المستمدة من الأدب. وكما يقترح، هذه مهمة صعبة فعلًا، لأسباب ليس أقلها أن الدراما المختزلة إلى الكلمات المرتبطة بها –وهي النصوص–  تشبه إلى حد كبير الأدب، وغالبًا ما يكون لها اهتمام أدبي بالتأكيد – الكلمات في البيت تتحدث عن كلمات أخرى، أكثر من شيء آخر. ومع ذلك يقترح جودمان استراتيجية قراءة يعمل خلالها تنظيم النص على ألا يبني تصميمًا أدبيًّا، ولكن يبني شيئًا آخر: المواجهة التي تحدث بين أي ممثل ومشاهده، وتُفهم المسرحيات باعتبارها طرقًا لتكثيف تلك المواجهة وتغيرها مع المعنى. 
     وبتصور الدراما كوسيلة للأداء، يمكن فهم عمل جودمان كجزء من الحركة واسعة الانتشار لتأمل تفسير الدراما، ويعيد صياغة نموذج تفسيري من النص إلى الأداء يحدث عبر الدراسات الدرامية، من أسخيلوس وسوفوكليس إلى شكسبير، والدراما الحديثة المبكرة والكتابة المسرحية الحديثة أيضًا. ولكن يميز كتاب «حرية الممثل» طريقًا قلما يكون مأهولًا (وربما أقل مشاهدة) حيث يضع جودمان الأداء الدرامي –مسرح التمثيل– داخل النطاق الأوسع للأداء وضده. 
يشير استخدامي للمسرح إلى التمييز بين هذا النوع من المسرح والسيرك والمظاهرات والباليه وجماعات المواجهة والرياضة والطقوس الدينية.. الخ، التي تتطابق مع الشعور –ولتوضيح الاعتراف بالثقافات المتعددة- أن مسرح التمثيل مسرح خاص جدًّا، ومقنع بشكل فريد، وبلا نظير، وذلك  الفرق حاد، وواضح، ومهم  بشكل عميق، وأن  مسرح التمثيل مختلف جذريًّا عن أنواع الأداء الأخرى مثل اختلاف الكتابة عن الرسم. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح