التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (7) محاضرات الدكتور طه حسين

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (7) محاضرات الدكتور طه حسين

العدد 657 صدر بتاريخ 30مارس2020

في المقالة السابقة، تحدثنا عن إحدى محاضرات زكي طليمات، ووعدتكم بأنني سأنشر في هذه المقالة بعض محاضرات الدكتور طه حسين. والجدير بالذكر إن علي أحمد بليغ، نشر كلمة في جريدة السياسية في أول يوم دراسي، تحت عنوان (افتتاح معهد التمثيل)، قال فيها فيما يخص طه حسين: “.. يجب التنويه إلى الفخر، الذي ناله هذا المعهد بانضمام زعيم من زعماء الأدب في البلاد، وفيلسوف من كبار مفكريها إلى هيئة أساتذة هذا المعهد، ألا وهو الدكتور طه حسين الذي نرجو من الطلبة أن يعلموا كل العلم أن دروس الأستاذ، هي الدروس التي ستكون أساس تثقيفهم وإعدادهم لفهم مهمة المسرح في الحياة العامة، وامدادهم بتاريخ المسارح في العالم، وكيفية تطورها حتى بلغت البلدان الأجنبية الكمال المنشود لمسرحنا المصري”.
وربما اسم الدكتور طه حسين؛ بوصفه أستاذاً في الأدب العربي في الجامعة المصرية، سيجعل القارئ ربما يظن أن محاضراته في معهد فن التمثيل، ستكون أدبية، وتمس بعض الموضوعات المسرحية! والحقيقة أن مجلة الصباح، نشرت في شهري يناير وفبراير 1931، مجموعة من الأخبار، عرفنا منها أن الدكتور طه حسين، كان أنشط أساتذة المعهد في تنشيط قدرات طلابه، بما يقدمه لهم من أنشطه تنمي مهاراتهم العلمية المسرحية!! فعلى سبيل المثال، وجدناه يُكلف طلابه، بتأليف مسرحيات صغيرة مقتبسة من (الإلياذة)، ويخصص مكافأة مالية للأوائل في هذه المسابقة. وبعد انتهاء المسابقة، نشرت المجلة خبراً تحت عنوان (في معهد التمثيل الحكومي)، قالت فيه: “ كان الدكتور طه حسين قد كلف طلبة معهد فن التمثيل بعمل ملخص لإلياذة هوميروس، وقد ذكرنا ذلك في حينه. وفي الأسبوع الماضي أتم الطلبة وضع الموجز، وفحصه الدكتور فنجح من بين الطلاب العشرين، الذين تقدموا للامتحان في الإلياذة ثلاثة طلاب”.
هذا التألق في التدريس من قبل الدكتور طه حسين، شجع مصطفى القشاشي - رئيس تحرير مجلة الصباح – على نشر بعض محاضرات الدكتور في المجلة، وأول محاضرة نشرها، كانت في يناير 1931 تحت عنوان عام (من دروس معهد التمثيل)، ثم عنوان المحاضرة، وهو (تاريخ الأدب التمثيلي)، ثم عنوان فرعي، وهو (محاضرة الدكتور طه حسين على طلاب المعهد). وهذه المحاضرة تم نشرها في عددين من مجلة الصباح؛ ولأهميتها التاريخية سننشرها كاملة!
يقول طه حسين: “ تاريخ الأدب التمثيلي فرع من تاريخ الأدب العام، ولا يمكن أن يفهم الأول من غير الثاني للتطورات التي تقلب فيها الأول، فلكي نعرف فن التمثيل لا بد أن نعرف الفنون التي سبقته، وكيف تطورت، وكيف نشأ عنها هذا الفن. فقد كان التمثيل عندما وجد متأثراً بفنون أخرى نشأت قبله. أول ما وُجد التمثيل كفن من فنون الأدب في بلاد اليونان وهو لم يوجد في اليونان بمجرد وجود تلك الأمة أو بمجرد أن نشأ الشعر وغيره من فنون الأدب بل عاشت قروناً طويلة من غير أن تعرف شيئاً عن التمثيل. عندما تقدمت الأمة اليونانية في حضارتها وفي حياتها العقلية والأدبية ظهر فيها شيء جديد لم يكن معروفاً من قبل وليس مجرد الشعر الذي يصف الأهواء والعواطف بل أن يعبر الشاعر عما يريد أن يعبر عنه بالحركات واللسان فنشأ عن هذا فن ساذج طبيعي غير متقن ولما تقدم هذا الفن أقبل عليه الجمهور فاعتنى القائمون به. وجدت فنون أخرى عند اليونان قبل التمثيل كالشعر مثلاً الذي كان التمثيل من نتيجتها ولم تمت تلك الفنون عند ارتقاء فن التمثيل بل تمشت معه واندمجت به، لما كان الشعراء ينشدون الشعر بالقوافي والتوقيع على الموسيقى كان الممثلون ينشدونه كذلك موزوناً بالموسيقى وبما يناسبه من الحركات مع شيء من الرقص والحوار. تأثر الممثلون بالشعراء في التغني بالشعر ثم تأثر الشعراء بالممثلين فبعثوا في الشعر شيئاً لم يكن موجوداً فيه من قبل وهو الحوار والمناقشة والحركة. أخذ الجمهور يتبع الممثلين على المسرح ويفكر ويقارن بالمقاييس التي كان الممثلون يعطونها لهم فأخذ الجمهور يكون به رأياً في الممثلين والشعراء والشعر، بعد أن وجد هذا الفن أخذ الجمهور يفكر في القضاء والقدر. أن سلطة القدر فوق السلطة الاجتماعية، وأخذ الجمهور يفكر في العلاقة بين الآلهة والناس فوضع أحد الشعراء رواية (الآلهة والقدر). وتعرض الممثلون للحياة الإنسانية نفسها فمثلوا حروبات اليونان والفرس وغيرها ثم هزأوا بالحالة السياسية والاجتماعية ونقدوا السياسة والزعماء فنشأ من ذلك الرواية المضحكة اضطر الجمهور أن يفكر مع الممثلين والشعراء وكون له رأياً فأخذ يعبر عن آرائه الفنية والسياسية والأدبية وأصبح قادراً على أن يشترك في إبداء رأيه في السياسة والاجتماع فتقارب الجمهور من الشعراء والممثلين. [عنوان جانبي] (التمثيل في العصر الذي نعيش فيه): كان الأدباء والكتاب يضعون معظم القصص شعراً وبعضها نثراً فأصبح الأمر الآن بالعكس فمعظم الروايات الآن نثراً. وإذا كانت شعراً فهي موضوعة على قواعده النثرية فيجب إذن أن نعرف كيف تطور الشعر والنثر. عندما يضع الكاتب قصة فهو يريد بها فكرة ما، وهو لم يخترع هذه القصة والفكرة أو الغرض منها من لا شيء بل إنه قرأ كثيراً وشهد الحياة وذاق مرها وحلوها فبعث ذلك في نفسه فكرة من الأفكار أو ميلاً من الميول فمثلاً أن يدافع عن فكرة ما أو يصوبها أو يضرب نظرية فيلسوف فيجب أن نعرف لماذا تأثر المؤلفون عند وضعه الرواية سواء في الحياة أو القراءة. فرواية المرأة والرجل لبول هرفيه وضعت لبيان استبداد الرجل وظلمه للمرأة ليشفق الجمهور على المرأة ويثير في المرأة حماساً للدفاع عن نفسها لأنه رأى ذلك في الحياة وقرأ كتباً في نقد الحياة الحديثة والكتب التي وضعت للرد على هذه الفكرة فنشأ عن كل هذا الفكرة التي أبرزها في (كارون الرجل). فرواية (بريتا كرس) مثلاً لا يمكن أن نفهمها إذا لم نكن نعلم أن المؤلف يستمد فكرته من الأدب اليوناني وكذلك كثير من الروايات الفرنسية وغيرها فكان المؤلفون يستمدون فكرتهم لوصفها من الأدب اليوناني أو الروماني. فيجب أن نلم قليلاً بالأدب اليوناني والروماني فلا يمكن أن ندرس التاريخ التمثيلي وحده لعلاقته المتينة بالأدب العام ولذلك يتحتم أن ندرس تاريخ الأدب العام، وعندما نريد درس الآداب بوجه عام يجب أن ندرس الأمة اليونانية. إن التمثيل إن هو إلا طور من أطوار الحياة الأدبية اليونانية أو الشعر اليوناني أما الأدب فأعم من الشعر وأقدم منه بكثير فقد وجد الشعر الأدبي والقصصي وبعد ذلك وجد التاريخ والفلسفة؛ فلا بد أن نعرف شيئاً موجزاً عن أمة اليونان قبل درس تاريخ الآداب. يفصل شبه جزيرة اليونان برزخ كورنته (عن أوربا) وهي أشبه باليد. في أقصى الجنوب إسبرطة، في الشرق مدن من ضمنها أرجوس. وفي الغرب بعض المدن الأخرى وهي على الساحل الرملي ومن أهم مدنها مدينة أولامبيا. على البرزخ كانت تقوم مدينة عظيمة هي كورانت. إلى الشمال بعد البرزخ بلاد اليونان الوسطى. أول قسم بعد البرزخ شبه جزيرة. وهذا القسم البسيط فيه قرى كثيرة وتقوم في وسطه قريباً من البحر على مرتفع من مدينة أتينا. في الشمال الغربي طائفة من الجبال ليست مرتفعة جداً إلا قمة واحدة وهي وعرة وتلك القمة لها أهمية كبرى عند اليونان وهي قمة جبل البرناس وهو الذي أقيم على سطحه معبد أبولون وبه كثير من أهم آثار اليونان في شمال التيكا أيضاً على ساحل البحر وقريباً منه أرض سهلة خصبة واسمه إقليم بيونيا وبه مدينة (ثيبا). أما بيونيا في البحر جزيرة صغيرة لا يفصلها عنه (الإقليم) إلا جزء صغير جداً من البحر يسكنها زراع من اليونان. كانت هذه الجزيرة موضوع نزاع بين التيكا وبيونيا وإلى الشمال يوجد مضيق ضيق (ترموبيل الذي حدثت فيه الموقعة المشهورة بين الفرس واليونان) ثم تساليا في شرقها جبال عالية مكللة بالثلوج يسمع عندها صوت الرعد دائماً وهي التي كان يسميها اليونان أوليمبوس وكانوا يعتقدون إن الإله الأكبر (زوس) موجوداً هناك. هذه الأقسام الثلاثة من تلك البلاد كانت بين سنة ألف وخمسمائة قبل المسيح يسكنها قبائل همجية لا تكاد نعرف عنها شيئاً فكانت متفرقة لا أدب لها وكانت أقرب إلى التوحش ولكن موقع بلاد اليونان الطبيعي بجانب البيئات المتحضرة في آسيا الصغرى وفي مصر ثم في سواحل موريا (فينقيا) جعل هؤلاء القوم يتأثرون بالحضارات الشرقية المختلفة. وما كان ينقله إليهم الفينيقيون (الذين اشتهروا بالتجارة) فوجدت لديهم حضارة ضئيلة ووجدت مدن تعيش بين الحضارة والهمجية وهذه المدن وجدت في الجهة القريبة من مصر وهي المورة مثل أرجوس ومسينا واشتد تأثير الشرق على هذه البلاد فظهرت فيه المصاعب الاقتصادية وأخذ الناس يختلفون على الأرض واستثمارها فوقعت بينهم الحروب. بحر إيجه في غاية الهدوء به جزر كثيرة جداً منتشرة به كأنه خلق بشكل خاص ليعلم الناس كيف ينتقلون نهاراً في البحر آملين من جزيرة لأخرى في وقت قصير وانتشر اليونان في آسيا بواسطة هذه الجزر واحتلوا شيئاً فشيئاً ساحل البحر الأبيض فوجدت مدن يونانية مستقلة منتظمة بعض الشيء وكان اسم اليونان اللاتا ولم تلبث تلك الأمة أن اصطدمت بأساتذتها الشرقيين وكان منشأ هذه الخصومة اقتصادي نشأ من المنافسة بين تلك الأمم واليونان في التجارة التي بين آسيا الوسطى وهذا القسم من أوربا فنشأت الخصومة وحدثت حروب بين اليونان وأنفسهم اضطرتهم إلى الهجرة ثم بينهم وبين الآسيويين كانت هذه الحروب مبدأ رقي هذه الأمة. كانت نتيجة البحث الحديث والحفر في تلك الجهات التي كان يسكنها اليوناني أننا نستطيع أن نتصور الحياة في ذلك الوقت. ويعنينا منها أمران: الأول، النظام السياسي لهذه المدن، والآخر، النظام الديني لها. فالأول جعل الشعراء ينتقدون أساليب الحكم. والثاني بعث الروح الشعري في النفوس اليونانية ولكنها أبعد من أن تكون مستعدة استعداداً خاصاً للأدب والفن. فالنظام اليوناني في هذا العصر كان بسيطاً إلا إنه كان راقياً. كانت المدن تتألف عادة من أسر وكانت تقوم على نظام ديني يجعل لرب الأسرة سلطة واسعة وكانت الأسرة تعتقد إنها من نسل الآلهة أي أسر إلهية نشأت من اتصال الآلهة بالناس فكان رئيس الأسرة كالآلهة له الفصل في كل ما ينشأ بين أفراد هذه الأسرة من الخصومات وهو الكاهن الذي يعيد الآلهة بالنيابة عن الأسرة وهو الذي يفتتح الطعام بحفلة دينية بسيطة فيقدم إلى الآلهة شيئاً من الطعام وكان للآلهة رمز يرى ويحس وهو شعلة من النار تقاد ليلاً ونهاراً في وسط البيت وحولها كانت تجتمع الأسرة في أوقات الطعام أو الشراب وكانت تأخذ منها النار اللازمة للطبخ وغيره وكان رئيس الأسرة يأخذ شيئاً من الطعام والشراب قبل الأكل ويرميه في الشعلة لتشترك الآلهة معهم ثم يقدم رئيس الأسرة صلاته بالنيابة عن العائلة إلى الآلهة التي تمثلها هذه الشعلة ولم تكن تمثل الجد الأعلى فقط بل تمثله وكذلك العائلة كلها لأنهم كانوا يعتقدون إن الروح تذهب إلى عالم آخر تحت الأرض ومادامت الشعلة ملتهبة فستعيش الأسرة وإذا أهملت فمعنى هذا أن العلاقة قد انقطعت بين الأسرة وأجدادها. هؤلاء الزعماء الذين يمثل كل منهم أسرته لا بد له أن ينظم العلاقات بينه وبين أفراد العائلة والضرورة الاقتصادية تحكم بين الجيران (أي الأسر المختلفة المتجاورة) وأما التعاون أو إفناء بعضهم بعضاً واضطرت إلى التعاون فوجدت العلاقات بين الأسر ووجدت المدنية اليونانية بشيء يشبه التعاقد بين هذه الأسر فالأسر متساوية في الحقوق والواجبات وكان لهذه الأسر زعيم يمثلها كان اسمه (بافريلوس) ومعناه (ملك) وكان من أبسط الناس لا يمتاز إلا بشيء بسيط فله الزعامة على الزعماء والقيادة في الحرب ولا يستطيع أن يستأثر بشيء بل كل شيء ينفذ بالاستشارة (استشارة الزعماء) ويجتمع عنده الزعماء ويأتيهم بالمأكل والمشرب وهو رئيس أكثر منه ملك. هذا الملك كان في الوقت نفسه رئيساً دينياً للمدينة كما أن زعيم الأسرة كان زعيمها الديني وكما كانت تقام في الأسر شعل تمثل الآلهة كذلك أقيم في المدينة في بناء كبير شعل كبيرة تمثل آلهة المدينة فيغفل عن المدينة وما يغفله زعيم الأسرة عنها. وهم أول ما تكوّن منهم نظام شورى عرفه العالم وهو مجلس الشيوخ وهو مكون من زعماء الأسر ويشيرون على الملك برئاسته وهم الزعماء في المدينة. هذا النوع ممكن ومعقول في أول الأمر ولكن الحياة الاقتصادية دائماً تعقد الحياة الإنسانية فما دام هناك أرض تزرع وتباع محاصيلها فلا بد أن يحصل خلاف بين المستثمرين ولا بد أن يطغى الناس بعضهم على بعض ولا بد أن يوجد الأغنياء والفقراء وتوجد عداوة بينهم فكثرت الأسر واستثمرت الأرض والماشية فاختلف الناس في استثمار المحاصيل ووجد الغني والفقير ووجدت العداوة بينهم فرحل الفقراء وأنشأوا مدناً على سواحل البحر الأبيض في أوربا وآسيا وأفريقيا وجاءت هذه العداوة من ضيق البلاد. ولكن الفقراء الذين أقاموا في المدن استغاثوا بالملوك فأغاثوهم وأصبح الملوك أنصار الفقراء فنشأ نفوذ الملك لتأييد الأكثرية لهم. أقيمت عداوة بين الزعماء على إلغاء الملكية وأن يقام مقامها بنظام جمهوري يحصر السلطة في أيدي الزعماء الأرستقراطيين وأقاموا بدلها جمهوريات ارستقراطية وأقاموا مجلس الشورى لكنه يستشير في الأمور المهمة مجموع الشعب وكأن رأي الشعب استشاري فقط ويستمر هذا النظام كثيراً. بعد هذا ينتصر الفقراء (العامة) على الجمهورية الأرستقراطية بزعامة أحد الزعماء وهذا فيه شيء من الملكية لأن الزعيم يحكم وحده باسم الجمهور وشيء من الديمقراطية لأنه يحارب باسم الشعب ويعطف عليهم وكانوا يسمون هذا بالطاغية. بعد هذا يشعر الشعب بأن هذا الطاغية يستبد بالأمر فيثور الشعب لا ضد الفكرة بل ضد الرجل نفسه ثم ينشأ النظام الأخير الذي يلغي نظام الملكية الجمهورية الأرستقراطية وينشأ بدلها النظام الديمقراطي. الشعر والأدب اليوناني متصل تمام الاتصال بكل هذه النظم أول نوع من أنواع الشعر وهو القصص يصف لنا حياة المدن اليونانية عندما كانت قائمة على النظام الملكي عندما كان الملوك يودون استئثار السلطة من الزعماء. والشعر الغنائي وهو الطور الثاني يمثل لنا الحياة اليونانية عند ما كان نظام الزعماء الأرستقراطية سائداً. ثم نظام الطغاة ونجد أن الفن الشعري الذي يلائم ويصور الحياة في هذا العصر تصويراً دقيقاً جداً هو الشعر التمثيلي. فالنظم السياسية كانت تطابق تمام المطابقة النظم الأدبية”.
المحاضرة الثانية لطه حسين، عنوانها (في تاريخ الأدب المسرحي)، نشرتها جريدة أبو الهول في مايو 1931، وهذا نصها: “ في أواخر القرن السادس قبل المسيح وضُع النظام النهائي، أو النظام الذي لم يتغير فيما بعد إلا قليلاً، وكان هذا النظام قاصراً على نوعين من التمثيل. أهم هذين النوعين، التراجيديا؛ وهي حكاية الناحية المحزنة من حياة ديونوزوس إله الخمر، كان القانون الذي وضعه براسترات يقضي بأن الشعراء الممثلين يتقدمون في كل سنة إلى أحد رؤساء الدولة متسابقين في القصص التي توضع في كل سنة. وكان نظام الحكم قبل المسيح بقرن واحد نظاماً ديموقراطياً، وكانت السلطة التنفيذية مقسمة بين تسعة وبينهم واحد (أركونت) يسمى التسعة باسمه. وعند ما تقرأ التاريخ اللاتيني يقال هذا وقع في سنة فلان، وكان اسمه أنوثيم، وكان يتولى تنظيم حفلات التراجيدي، وكان الشعراء يتقدمون إليه في أول السنة؛ والقانون كان يحتم أن يكونوا ثلاثة وكل منهم يقدم ثلاث قصص عادية، ورابعة لها صفة خاصة نستطيع أن نسميها القصة المعزية؛ فإذا قدمت إليه هذه القصص اختار لكل طائفة منها رجلاً من أشراف المدينة. وكانت في ذلك الوقت مقسمة تقسيماً إدارياً إلى قبائل باعتبار السكان لا باعتبار الأماكن، كما هو حاصل الآن فكان الأركونت يختار من كل قبيلة من الأربع قبائل، التي تكون (أثينا) رجلاً هو الذي يصدر إليه الأمر بتكوين الفرقة والصرف عليها، وجلب المعلمين لها (رقص) إلقاء، وغيره وكان اسمه كوريجوس. وهو مكون الجوقة وعليه أن يختار على الأقل 12 رجلاً فينفق عليهم طول مدة التعليم، ونفقات المعلمين ويعتبر كضريبة من ضرائب الدولة، بينما كان الرجل يعلم الجوقة كان الأركونت يتفق مع كل شاعر على ثمن القصص وحدها، والشاعر لا يتسابق للشهرة والمجد بل ليعتاض أجراً من الدولة ثمناً لقصصه. التراجيديا كانت تمثل في أثينا مرة في كل سنة في الربيع (مارس وإبريل)، واختار الآثينيون هذا بعد انتصارهم على الفرس مباشرة؛ لأنهم بعد أن قهروا الفرس أصبحوا قادة الأمة اليونانية كلها وكونوا اتحاداً برئاستها قاعدته أن أثينا هي الرئيسة لهذه المدن المتحالفة، تتعاون براً وبحراً لصد هجمات الأعداء. وعلى المدن الأخرى أن تقدم لمدينة أثينا ضريبة من المال أو السفن أو من هذا كله في وقت واحد، وكانت مستقر المحالفة وأموال الدولة. ففي كل ربيع كان يرسل الحلفاء إلى أثينا مندوبين عنهم ليتشاوروا مع الرؤساء في أمور المحالفة كجباية الأموال أو تكوين الأسطول أو الجيش. ولوقوع عيد ديونوزوس في هذا الفصل، ولوجود مندوبي الحلفاء فيه فضل الأثينيون أن يقيموا حفلاتهم في هذا الفصل. وبهذا استطاع المندوبون أن يروا التمثيل، ويحكمون عليه ثم ينقلونه إلى بلادهم. وكان التمثيل متنقلاً بمعنى أن الشاعر الممثل ديسبيس، كان له عربة يضع فيها أدوات التمثيل، ويقف في كل قرية فيمثل لهم قصة من قصص ديونوزوس، أو قصص الأبطال وهكذا. ثم تطور التمثيل وتغيرت أحواله فأصبح رسمياً ومكانه في أثينيا. وحتى القرن الخامس كانت المسارح لم تبن بعد، فكانوا يمثلون في ملعب ينصب في الميدان الواقع أمام المعبد، وكان بناؤه على الوجه الآتي: عبارة عن منحدر ثم تحول إلى مدرج، منها ما نحت في الصخر نحتاً ومنها ما صنع من الخشب، وكان يجمع الملعب عشرين ألف نفس، وكان النظارة يأتون الملعب ويدفعون أجراً، الموسرون من أموالهم الخاصة، والفقراء من مال الدولة. وكان التمثيل يبدأ مع النهار وينتهي معه فإذا أصبح الصبح وطلع الفجر، بدأ النظارة يقبلون على الملعب، ويأخذ كل منهم مكانه. في أسفل الملعب كان هناك مكان يقع على شكل نصف دائرة يسمونه (أوركسترا)، وهو الذي تقف فيه الجوقة بين المائدة والنظارة، وكان له بابان يميناً ويساراً ومن وراء المائدة أو المذبح مساحة يقف فيها الممثلون. وأخذ المسرح يتقدم شيئاً فشيئاً إلى أن ارتقى فكان ما مسميه الآن (حرفية المسرح). وأوجدت بعض النقوش وأدوات مختلفة لاستخدامها في التمثيل. ومن وراء الستار بعض آلات ميكانيكية بسيطة يستخدمونها، فإذا جاء وقت التمثيل أقبلت الجوقة ودخلت (الأوركسترا) مغنية تتحرك حركات توقيعية منتظمة، وتغني غناءً يشعرك بالموضوع الذي ستكون عليه القصة، فإذا ما انتهت ظهر الممثلون من وراء المائدة. ولفظة ممثلون لا يصح أن تطلق إلا في القرن الخامس، فقد كان التمثيل قبل ذلك قاصراً على ممثل أو اثنين والممثل في ذلك العهد إما أن يتحدث إلى الجوقة فترد عليه، وإما إلى ممثل آخر فيجيبه بينما الجوقة ساكتة أو ترد عليه بالغناء في بعض المرات. وكانت القصة مقسمة إلى أقسام، بين كل قسم وآخر وقفة لا يستريح فيها إلا الممثل بينما تكمل الجوقة القصة وهم يرقصون ويغنون. والقصة عادة تتألف من فصول، أحياناً ثلاثة وأحياناً أربعة أو خمسة، وفي الغالب تتكون من خمسة فصول، ولم يكن الممثلون مجبورين على تمثيل قصة واحدة، بل كانوا أحياناً إذا فرغوا من قصة بدأوا بالثانية فالثالثة فالرابعة وهي القصة المعزية. والقصة المعزية عبارة عن التمثيل القديم جداً، وهي ديونوزوس وأصحابه ثم تطورت هذه القصة في أواخر القرن السادس، وامتازت بأن الممثلين يشتركون في جوقة يجب أن ترتدي جلد الماعز، والقصة المعزية أقصر جداً من القصة العادية، وهي تراجيديا مضحكة كما قال هوراس، أي مأساة مضحكة لأنها كانت تمثل بطلاً من أبطال اليونان في أحواله، التي يتألم فيها من النواحي المضحكة ولو أنها مؤلمة، إلا أن ممثلها يأخذ لنفسه فيها أطواراً وأشكالاً لا يستطيع الجمهور أن يراها إلا وهو يضحك ويكون في نفس الوقت حزيناً. فإذا فرغت القصة الرابعة انتهى يوم الشاعر الأول وعلى هذا النحو ثلاثة أيام. فإذا الممثلون انتخب الجمهور من بينه عشرة هم القضاة أو المحكمون يحكمون بين الشعراء فيجعلون هذا الأول وذاك الثاني والثالث. ويعلن الحكم للجمهور ليبدي رأيه فيه، وغالباً يكون بالموافقة وتنقش أسماء الشعراء الممثلين الفائزين على لوح من الحجر لتحفظ كما تحفظ المحفوظات الرسمية. يحسن بعد هذا أن نعرف شيئاً من حال بعض الممثلين في ذلك العهد. فالممثل كان مضطراً أن يضع على وجهه نقاباً بعد أن كان يدهن وجهه بقليل من الطلاء. وكان هذا النقاب يسبب له صعوبات كثيرة؛ لأنه لا يمكنه من التعبير بوجهه، فكان يقتصر على التعبير بعينه وفمه، وكان من المهارة بحيث إنه كان يستطيع أن يؤثر على الجمهور بعينه وشفتيه، وكان يستعين على الإلقاء بجسمه الذي يتركه حراً يتلوى به كما يشاء فكان في دور (الإله)، يضطر إلى الظهور بمظهر ضخم فلم يكن هناك بد من أن يتخذ لنفسه لباساً فضفاضاً طويلاً ويحتذي حذاءً عالياً جداً عن الأرض. وكان الممثلون ينقسمون قسمين: أحدهما يمثل الدور المهم (البطل) ثم يليه الآخر في الدور الثانوي. ثم الأدوار الثانوية جداً (كخادم إضافي). أما الجوقة فكانت تلبس أزياء فخمة؛ لكنها أقل فخامة من ملابس الممثلين، كانوا يمثلون الملوك والأبطال والجوقة تمثل الشعب، لكنهم جميعاً كانوا يحرصون على أن يكون الملبس أرقى من العادي. وكانت القصص التي تمثل قاصرة على تمثيل الحياة اليونانية ولم تقم النساء بالأدوار بل كان يقوم بها الرجال، فإن تيمول في أوديب كان يمثلها رجل يجعل صوته كصوت النساء وحركاته كحركاتهن، ولم يعرف عن التمثيل اليوناني القديم أن المرأة اشتركت في القيام به. في أول الأمر كان الشاعر هو الممثل فما أن تعدد الممثلون كان الشاعر يضع القصة ويلعب فيها الدور المهم، ويستأجر ممثلين يساعدونه. ولم يأت القرن الخامس حتى صار التمثيل حرفة من الحرف، ولم نكد نصل إلى سنة 475 قبل الميلاد حتى انقطع الشعراء عن التمثيل، وأصبحوا شعراء فقط ووجد إلى جانبهم ممثلون فقط، وأخذ التمثيل يرقى شيئاً فشيئاً، فلم تأت أثينا إلى منتصف القرن الخامس حتى أصبح فيها ممثلون مهرة، واتفق الشعراء مع الممثلين في تأليف الرواية التي توافق طباع الممثل. كان التمثيل اليوناني شعراً في جميع أطره سواء كان مضحكاً أو محزناً، ولهذا اضطروا أن يبسطوا الشعر بعض التبسيط ليلائم الجميع. فإذا أرادوا المحاورة يجب أن يوضع فيها الشعر ذي الأوزان البسيطة القصيرة، فكانت القصة اليونانية تتألف من أشعار بسيطة وأوزانها بسيطة كذلك”.


سيد علي إسماعيل