«حريم النار».. نتاج ديكتاتورية المجتمع الذكورى

«حريم النار»..   نتاج ديكتاتورية المجتمع الذكورى

العدد 652 صدر بتاريخ 24فبراير2020

برغم القهر والعذاب والالم الذى تجرعته فتحية شلجم، فى حياتها، واغتيال روحها،التى شارك في اغتيالها الاب والزوج والعادات، من خلال طمع الاب فى تزويجها من الثرى العجوز الذى يكبرها بأربعين عاما، والذى قضى على احلامها بالحب والزواج وممارسة الحب ممن تحب بمتعة وسعادة، والزوج الذى اطبق عليها بحبسها وحرمانها من ادنى حقوقها فى الحياة ان ترى مجرد ضوء النهار، وعجزه عن تعويضها بحنان او حب، او حتى الحد الادنى من اشباع انوثتها وغريزتها، ولكنه راح يعاملها كم?عون لا غير وكبهية يُعشرها حتى تنجب، فأنجبت له بنتا واحدة، ويموت،  ثم يعيد الاب الكرة ويزوجها بثرى عجوز آخر،  قضى على البقية الباقية من روحها وانوثتها بعجزه، ومرة اخرى تكون وعاء لإنجاب اربع بنات .. تطلعنا فتحية شلجم على مأساتها تلك من خلال حوار ذاتى بعدما رأينا تسلطها على بناتها .فرغم كل هذا الاستلاب والقهر الا ان فتحية شلجم تعيد انتاج قهرها على بناتها، وتفرض عليهن العزلة، والسجن داخل منزلهن، فتقتل فيهن الروح والامل قى الحب والزواج، اذ تجد الفرصة فى موت الاب لتعلن الحداد سبع سنوات  وتفرض عليهن حصارا مشددا .. حصار  الروح وانكسار الإرادة البشرية التي تخالف الفطرة الطبيعية للبشر، فتعيش كل بنتا داخل ذاتها مع رغباتها المكبوتة،، وحين يخطب احد شباب النجع الاخت الكبرى الدميمة التى يشفع لدمامتها ثراؤها، لم يكن شابا عاديا ولكنه زينة شباب النجع  «أحمد علي» إذ تتعلق الفتيات كلهن به، فهو  الذي يمثل لهن الفارس المُخ?لص. ويتجسد هذا في حوار قوت القلوب عنه فتقول : «أعشقه عشق الفراشات للنور». والذى راح يلعب على وتر احلام كل البنات .. ويفرز هذا المناخ القاسى ؛ غياب الحب والتعاطف، ويحل مكانهما الضغينة والغيرة والحقد بين الشقيقات المعذبات والمحاصرات بالتقاليد وتسلًط السلطة المستبدة/الام .. نتابع هذه الاسرة المنكوبة فى اعز ما يملك الانسان ؛ الروح .. من خلال العرض المسرحى ( حريم النار )  المأخوذ عن نص ( بيت بيرنارد البا ) للكاتب الاسبانى فيديريكو جارثيا لوركا . وان كان المعد شاذلى فرح قام بعمل دراماتورج وتمصير للنص بتقنية عالية وبديعة، اذ  احالنا مباشرة الى جنوب مصر فى احد النجوع، وابدع مصمم الديكور فى نقل هذا الطقس بتصميم منزل يمزج ألوان البيئة الصعيدية مع جذوع،    النخيل وأضواء مصابيح الجاز الخافتة، وبلاليص المش والعسل ..  فالسينوغرافيا هنا توظف العناصر كافة بشكل جيد،، وجاء ربط كل جزع من النخيل بعمامة، تعبيرا عن الرجل الغائب الحاضر كالأب، وكالحبيب فارس احلام الثلاث بنات وعشيق الصغرى احمد على الذى كان حضوره طاغيا ولم يظهر ابدا، وهنا نجد ذكاء الكاتب لوركا والذى حافظ عليه ممصر العرض شاذلى فرح، وكما تبارت الممثلات فى العرض وتفوقن، تبارى مصمم الديكور ومصمم الاضاءة  اللذان  جعلا المنزل قطعة من صعيد مصر برحابته وتعدد مداخله ومخارجه، وتلك النافذة المطلة على الشارع الخلفى الذى ورد ذكره مرات، والتى يأتى منها اصوات الرجال ايام الحصاد،  وتسمع الاسرة ما يحدث من خلالها، كسماعهن عن الفتاة التى فرطت فى عرضها ويتكالب عليها الاهل لقتلها، فى مشهد ابدعت فيه نسرين يوسف فى شخصية الابنة الصغرى قوت القلوب  التى اطلعتنا على سرها بصياحها لا تقتولوها،، كما ان البيت له باب تخرج منه لمواعدة عشيقها / احمد على . تفوقت  كل الممثلات  فى اداء ادوارهن من خلال تفهمهن للشخصيات، فتمكنت كل منهن من ادواتها،فكانت الممثلة المبدعة عايدة فهمى تمسك بزمام وتلابيب الشخصية المتسلطة المست?لبة والضعيفة والمحافظة على قوتها، كل هذا فى تنوع بارع لا يؤديه الا فنان متمكن ولديه فكر ونضج فنى، فاستطاعت ان تؤدى السلطة المستبدة، وفى نفس الوقت اطلعتنا من خلال مونولوج على ضعفها واستلابها، فأثارت شجننا ومن هذه المشاعر ايضا  فجرت  الضحك، كما تفوقت الفنانة منال زكى فى شخصية الخادمة وردانا  التى كانت بأدائها السلس وتمكنها تثير  بعض الضحك فكانت تخفف بروحها المرحة من حدة الكآبة المعششة بالمنزل  فهى تارة تظهر متملقة للسلطة/ فتحية شلجم، رغم ما تضمره من كره لها، وتارة اخرى نراها الناصح الأمين للبنات، والتى يرتحن لها، وتكون مصدر تسلية وتنفيس لهن  فى حكاياتها عن زوجها، وتجعلنا نضحك معها ومعهن، ويأتى مشهد مواجهتها لفتحية وتحذيرها من المصيبة القادمة التى ستقوض اركان البيت ثم صفع الاخيرة لها يسجل هدفا جيدا  لها فى مباراة الاداء  .. اما الابنة الصغرى  قوت القلوب والتى قدمتها  نسرين يوسف فعبرت عن الثورة على التقاليد والحصار  والتحدى للسلطة المستبدة وراحت ضحية هذا التحدى،  فقد استطاعت ان تتفهم الشحصية جيدا ووظفت ادواتها بإقتدار، فكانت تستخدم صوتها وتلونه حسب كل موقف وتظهر بنرجسية عالية فى مشهد، وحالة عشق في آخر، فجعلتنا نتعاطف معها احيانا ونلعنها احيانا اخرى مع شقيقتها الوسطى المريضة حين كانت تكايدها، كما تفوقت الممثلة عبير لطفى  فى تجسيد شخصية الابنة الوسطى المريضة  روح محبات والتى لا تتحلى بجمال مثل قوت، فكانت تحقد عليها وتغار منها، بل تضمر للدنيا كلها الحنق والضغينة وقد عبرت بصوتها وجفاء ضحكتها التى تقطر  كرها، نشوى اسماعيل  التى جسدت الاخت الكبرى رسمية غير الشقيقة تفوقت فى تجسيد الشخصية الدميمة الثرية والتى تطير فرحا بخطبتها، وحين تعرف علاقة شقيقتها الصغرى بخطيبها الذى تعى تماما انه طامع فى ثروتها ولا يكن لها اى عاطفة، تعبر عن صدمتها بإقتدار وابداع،  وقدمت الممثلة اميرة كامل والممثلة كرستين عشم دور الشقيقات المحايدات فى الصراع المحتدم حول احمد على، ولكن بتنوع رائع، اذ ظهرت الاولى تحيك لشقيقتها الكبرى فستان الزفاف رغم انها تحقد عليها وعلى ثرائها، فتعبر عن هذا بأداء بارع، كما عبرت عن افتقادها للحب بتمكن . وجاءت الثانية لتعبر عن البنت التى تشاهد كل هذه الصراعات ولا تعلق عليها فقط شاهد عيان، وكانت تستخدم صوتها وضحكتها (المسرسعة ) تعبيرا عن نسبة بلاهة، ولم تشارك في اى صراع بل لم تتأزم من ديكتاتورية السلطة/ الام .. لتعبر عن شريحة من المجتمع لا تبالى بشئ اللهم اطعام واشباع المعدة . العرض جاء كمباراة شديد التشويق بقيادة المدرب المحنك مؤلف العرض المخرج محمد مكى الذى استطاع ان يوظف كل مفردات العرض ويسيطر عليها  فجاءت الحركة جيدة وانسيابية وسلسة، وعبرت كل حركة عن المواقف والصراع والشخصيات  بشكل جيد ..واستطاع توجيه الممثلات ليبدعن فى تجسيدهن لشخصياتهن
التحية كل التحية لفريق العمل الذي امتعنا على خشبة الطليعة، والشكر لمدير المسرح، وننتظر عروض جادة وجيدة اشتقنا إليها .

 


فاتن محمد علي