«المتاهة» كفاءة الجسد الراقص وغياب نواصي المعرفة

«المتاهة» كفاءة الجسد الراقص وغياب نواصي المعرفة

العدد 644 صدر بتاريخ 30ديسمبر2019

 تعجبني كثيرا أفكار مصمموا الحركة المتخصصين في الرقص المسرحي الحديث وتعجبني طموحاتهم لطرح قضايا وأفكار لها قوامها المؤثر ولكن علي جانب أخر حينما أعود لتلك الأفكار والأطروحات المقدمة أجدها تقف علي النواصي الأولي ولا تغوص في قلب القضايا بالمنطق الذي يبقيها لفترة طويلة في خيال المتابع أو المحب لتلك العروض، فالصورة برمتها لا تبقي في الذاكرة إلا لحظات قليلة منها حال الفرقة في أوج إبداعها، أما في الحالات العادية فيغيب العرض كليا بصوره وأفكاره بمجرد الخروج من المسرح وكثيرا ما أسائل نفسي لماذا لا تعتمد هذة الفرق وهذة العروض علي دراماتورج متخصص يقود الفلسفة الجمالية للعمل والتيمات المطروحة ويبحث في أصولها وكيفيات طرحها فترتقي العروض وتتحقق جماليا وتصبح لها أهميتها ودورها، ما أشاهده من عروض يحقق الحد الأدني
فهم وللحق مجتهدين تماما في هذا المجال يعرفون كيف يطبقون المنهجية المستوردة وكيف يوظفون الراقصين كي ما تبدو الأشكال والحركات مؤداة بطريقة تصنع موضوعات وأفكار لها قوام يمكن أن يمر للمتلقي
في العرض المسمي (المتاهة) يطرح المخرج فكرته فقد تكون تلك هي رحلة الإنسان من الفوران والتمرد إلي الهدوء والسكينة والرضا أو هي رحلة الإسئلة المعتادة والعلاقات المتشابكة التي تتراوح بين الحب والامتلاك والرغبة والخوف والتملك وفي النهاية الدوران في فلك الملكوت بقلب عاشق يرجو الرحمة والغفران بعد أن سمح لنفسه بممارسة كثير من الخطايا أو هكذا تصور ومن ثم نراه وقد عاد الي الله بمنطق لاعب التنورة الذي يلف في دوائر لا نهائية من الوجد والتصوف، فما الرحلة التي شاهدناها عبر العرض الراقص لفرقة ستديو 70 بقيادة المصمم والراقص والمخرج “سمير نصري” إلا دوران بسيط في تلك المعاني ذات الدلالة والمعاني أحادية التكوين والمعني، العرض إفتتح الدورة الثالثة من مهرجان المخرج المسرحي الذي أقامته الهيئة العامة بقصور الثقافة
حقيقة أوقعنا العرض الراقص في نفس الإشكالية التي طالما تحدثنا عنها كثيرا قبل ذلك والتي تخص معظم العروض الراقصة المنتجة من كثير من فرق الرقص الحديث خاصة الشباب منهم إذ يبدو جليا ذلك الغياب المؤثر للقضية أو الصراع  أو المكون الدرامي أيا ما كان في مقابل حضور طيب للجسد الراقص، فلو أنك تابعت تطور الحكاية المقدمة وما تنتجه من معاني ستجد أن الإشارات والحركات إنما تدور حول معاني معظمها مباشر وأحادي التكوين (الخير، الشر، الواقع، الخيال، الحب، الإمتلاك، القسوة، المعارك الوهمية، التوهة، الإغتراب، الرضا، التصوف) ... ويمكنك أن تضيف كثير من العناوين لتلك التي كتبتها، وما الحركات والألعاب الدرامية إلا دوران حول إنتاج إشارات جافة شبة ثابتة الأمر الذي يجعلها سهلة الإستقبال من قبل المتلق غير المدرب علي الموضوع الراقص، وبالتطبيق علي عرض (المتاهة) علينا أولا أن نسأل أنفسنا هل غاص العمل في معاني درامية يمكن الإختلاف عليها بالقدر الذي يفتح المجال للتفسير أو النقاش ؟ ثم علينا أن نراجع قاموس الاشارات والحركات المستخدمة ونتسائل كيف تربت تلك العلاقات بهذة الكيفية الشائهة والتي لا عمق فيها ولا ثقل يمثل أي من القضايا التي راهن عليها المصمم، فمثلا ما الجديد في الرحلة حتي يصل الأمر بذلك الرجل كي يكون درويشا أو راقص تنورة يدور في دوائر الرغبة في التخلي عن العالم واللجوء لملكوت الله والتوحد كصوفي مع أفكار الإنعتاق من الدنيا والهروب إلي الذات، هل حقا مر بتجربة قاسية أو مربكة أيقن من خلالها أن ذلك العالم مريض ولا فكاك منه إلا بالتصوف ؟ ثم هل تعطينا الحركات الجسدية الراقصة دليلا علي الأهمية الجمالية وقدرة فائقة علي إنتاج قاموس حركي يخصها ويعطيها الأهمية التي تستحقها ؟ الحقيقة أن معظم الاشارات والحركات وحتي مصادر الضوء لم تختلف كثيرا عن معظم ما شاهدناه في العشر سنوات الاخيرة من عروض راقصة، وهو أمر لا يعيب العرض بشكل كبير وإنما يقول بشكل أو بأخر أن لا جديد هناك وأننا عند نفس النقطة تقريبا، فقط إنفلت التصور السينمائي وتفرد بمحاولة إنتاج معني ساعد العرض كثيرا كي يبدو محاولا بجدية إنتاج صور تلامس ما هو مطروح من خلال الرقص يطريقة جمالية أضافت للعبة الدرامية، حيث حركة الكاميرا والمنظر المفتوح أضفوا حيوية لا بأس بها للدراما التي صاحبت مأساة ذلك الذي وجد نفسه وحيدا في عالم غريب، في ظني تلك الإشكاليات لن تنتهي بين يوم وليلة ولن ينتهي الحديث عنها طالما لا جديد من قبل الإدارة غير المدركة للمشكلة الجمالية
أما عن الحكاية المتضمنة فيما قدم من أحداث فالمسألة برمتها لم تخرج عن حكاية تقليدية عن رجل كان وحيدا مشردا في عالم غامض ثم دخل في علاقتين وحاول أن يفوز بكل منهم إلي أن كبلته الظروف المحيطة وأصبح مشدودا لسلاسل إنقضت علي حريته وبالمرة علي حياته ، وفي الوقت الذي يشتد فية الضغط عليه من كلا الفتاتان لا يجد سبيلا إلا الرجوع إلي رحاب الصوفية حتي ترضي نفسه وتهدأ روحه، ذلك الرجل قد يبدو في حالتين متماثلتين حيث لا صراع ولا جدل راقص بين الشابين الراقصين وإنما من الممكن أن يكمل كل منهم الأخر  
علي أي حال هي تجربة جادة قدمتها مجموعة واعدة من الراقصين أصحاب المهارة الكبيرة والخبرة في التعامل الواثق علي خشبة عارية، وهي مسألة صعبة للغاية لا تعطي نفسها إلا لمن إجتهد وتدرب بشكل كبير كي يمتلك القدرة للتعبير وحده فيصل المعني للمتلق المتربص، ساعدهم في ذلك التصميم المناسب للإضاءة والتصور الطيب للبانوراما الخلفية وما تنتجه من ضوء ومعني ساعد الحكاية البسيطة المقدمة سواء عن طريق إنشاء دلالات واضحة للمتاهة أو عن طريق اللجوء للسينما في مشاهد تستخدم الكاميرا التي تدور حول بطل الحكاية
والمصمم “سمير نصري” واعد جدا وينتظر أن يكمل في طريق مزج السينما بالمسرح في المستقبل القريب إذ بدا لي إن أهم ما ميز العمل هو ذلك الجانب  الذي يعي تماما أهمية الصورة واثرها في الفعل الجمالي للعرض الراقص
علي جانب أخر بدا لي أن الإنتاج البسيط لم يضر كثيرا الصور والأفكار التي إعتمدها مخرج العمل الذي كان يعرف تمام المعرفة أن أداته القوية هي جسد الراقصين أصحاب الإمكانيات الطيبة وما الأطر أو البوابات الفارغة المحيطة إلا نسيج واهي يمكن الإستغناء عنه طالما هناك البانوراما بطرحها المناسب لأفكار وأطروحات العمل الراقص


أحمـد خميس