مركب بلا صياد أن تتزين في انتظار الألفة

مركب بلا صياد أن تتزين في انتظار الألفة

العدد 570 صدر بتاريخ 30يوليو2018

أن تتزين الرؤى في انتظار الألفة الغائبة ومحاولة إحيائها ثانية وسط تراكمات الزمن المادية الخشنة، يضحى إحياء المشاعر مغامرة محفوفة المخاطر، ويلزمها صائد ماهر ليخوض في بحار المادة للوصول إلى الروح. في ذاك السياق قدم مركز الهناجر للفنون عرضه المسرحي “مركب بلا صياد” على خشبة مسرح الهناجر ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري في نسخته الحادية عشرة دورة الكاتب محمود دياب وهو نص مسرحي من تأليف أليخاندرو كاسونا ودراماتورج وإخراج عمرو قابيل الذي شارك أيضا في تمثيل الدور الرئيسي وصناعة الدراماتورج وتحويل الترجمة المعروفة للنص باللغة العربية الفصحى إلى قراءة أخرى باللهجة العامية القاهرية، ليتحمل بالتالي عبء تمرير الأفكار وصياغتها وتقديمها للجمهور - وهو عبء لو تعلمون ثقيل – في محاولة لصناعة رؤية جديدة تستلزم آلية تلقي تختلفا عن السائد، فأثر الابتعاد عن معترك الأحداث الحالية إلى حد الالتحام بها طارحا فرضية لا تخلو من الجدل مفادها - الأكثر اشتباكا مع اللحظة الآنية - هل هناك مبرر لقتل إنسان لإنسان دفاعا عن طريقته في الحياة أو حقه في الوجود حتى وإن كان القتل بلا دماء؟ فذاك ريكاردو خوردان وافق على قتل بيتر آندرسون - بشكل افتراضي - دون أن يعرفه ودون أن يراه ودون أن يريق دمه في سبيل إنقاذ موقفه المالي ووجوده المادي، فيحيا غنيا قاتلا بدلا من أن يموت مفلسا مقتولا، وهذا زوج شقيقة ستلا تقوده الغيرة العمياء فيقتل بيتر آندرسون - بشكل حقيقي وواقعي - غيرة منه بعد أن تزوج حبيبته ونجح في امتلاك مركب جديد.. لتشتبك بالتالي الدلالة مع إرهاصات عدة أدت إلى نتائج كثيرة أودت بحيوات حقيقية فترتقي الدعوة للتسامح والغفران إلى مكان جلي عله يلقى الصدى المستحق.
بدأ العرض بحالة هدوء حذر قائم على إضاءة خافتة أظهرت مفردات الديكور الذي اقترب من الكوخ البسيط أو المنزل المطل على البحر والخاص بصياد بسيط، تتصدر المشهد بالضرورة نافذة متسعة تظهر الضياء ولا تظهر النور، كل ذلك على أنغام صوت نسيم البحر وتقلبات الموج الهادئة وإضاءات تساعد على الاسترخاء، وبعد أن استقر الجمهور في مكانه، وبعد أن تشبع بحالة الاسترخاء وكأنه يراقب أهل المنزل غير الموجودين أو كأنه ينتظر تقديم واجب الضيافة من قبل سكان الدار، فالجمهور مع تلك البداية الناعمة والمباغتة عد ممثلا مشاركا في العرض، وإن لم يتفاعل بشكل مادي فقد تفاعل بشكل نفسي وعاطفي، وفي وسط الموسيقى الناعمة والإضاءة المتناغمة تظهر العجوز الرؤوم (منحة زيتون) لتعد المنضدة لسكان الدار الذي ترثيهم بعد أن أصبحوا اثنين بعد أن كانوا ثلاثة لتبدأ أحداث المسرحية لتكشف أن ذلك المنزل الهادي ليس إلا بقايا حطام بعد تحطم أهم أركانه (الزوج/ بيتر آندرسون) علي أثر حادث اليم في يوم نجاحه في امتلاك مركب جديد، وتتكشف الأحداث رويدا رويدا، وواقع الأمر أن تلك البداية لهذه المسرحية كسرت أفق التوقع لمن قرأ النص أو عرف محتواه، ذلك أن المخرج/ الدراماتورج تخلى عن البداية الأصلية للنص، وهي شجار وصراعات (ريكاردو خوردان) مع شركائه وعشيقته واقترابه من الإفلاس، ثم ظهور الشيطان الذي عرض عليه صفقة مفادها أن يرتكب الجريمة الأكثر إثما في البشرية، وهي القتل، وعندما رفض خوردان أقنعه الشيطان أنه سيقتل بلا دماء وسيقتل من لا يعرفه ودون أن يراه، فتمت الصفقة واستعاد خوردان أمواله ونفوذه، إلا أن تلك البداية الساخنة نقلها المخرج/ الدراماتورج في منتصف العرض ليتضح مبتغاه أنه يبتعد حثيثا عن الصراعات الظاهرية ويسعى إلى الصراعات النفسية بقسوتها الناعمة ونعومتها القاسية ليخاطب المشاعر العذرية النبيلة دون مشاعر الغريزة الصدامية الباحثة عن الدماء والقتل والصراعات، فجاء الأداء الهادئ نسبيا من أبطال العرض متناسبا بالتبعية مع الرؤية الجديدة للنص واقترب العرض إجمالا من حميمية مفتقدة في معالجة الأمور الشائكة والقضايا المتشابكة، فلقاء ستيلا (رندا) مع الأخت (مي رضا) أكد أن العرض وإن جرى في مكان يبعد عنا زمنا ومكانا إلا أنه يقترب منا كثيرا بهدوء الأداء وامتلاك ناصية الحوار والاهتمام الواعي بالتفاصيل الخاصة بالشخصيات وتاريخها الانفعالي.
جاء ديكور محمد زكريا مناسبا للحالة غني التفاصيل واستطاع الانتقال بسلاسة من منزل ستيلا أرملة بيتر آندرسون الصياد المغدور إلى مكان خوردان والمجسد ببار يتجرع فيه الخمور هربا من الإفلاس المنتظر، فضلا عن عودته مرة أخرى إلى منزل ستيلا الهادئ بنعومة واضحة وساعد الديكور إضاءة محمد عبد المحسن الواعية بمقتضى الحال فعمد إلى توزيع أجهزة الإضاءة توزيعا جيدا مستخدما ألوانا ناعمة ساعدن على حدوث استرخاء للمتلقي، فضلا عن نقل الحالة الشعورية لفريق العرض متضمنا الجمهور.
أما عن موسيقى حازم الكفراوي، فقد كانت المدخل الرئيسي لإظهار التجربة الشعورية بماضيها وحاضرها مستخدما خطا لحنيا تناسب مع مقتضى الحال، فضلا عن التوزيع الموسيقي لأحمد حامد الذي نجح في استخدام آلات متناسبة مع ريكاردو خوردان وعالمه من ناحية وبيتر آندرسون وعالمه الأكثر طغيانا على الحالة المسرحية لـ”مركب بلا صياد” من ناحية أخرى.
بعد شعور ريكاردوا خوردان بذنبه الافتراضي في اقتراف جرائم افتراضية في عالم افتراضي تألم لها آخرون بشكل حقيقي وواقعي، عمد إلى التكفير عن ذنبه بالالتحام بالمتألمين بل والتخلي عن أمواله التي باع الكثير من القيم للحصول عليها، وقرر أن يعيش حياة واقعية دافئة مع ستيلا معلنا انتصار الحب على المادة والحقيقة والواقع على العوالم الافتراضية.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏