حمادي الوهايبي: المخرج هو صاحب الكلمة في المسرح الحديث ولا يزال مفهوم الإخراج زئبقيا

حمادي الوهايبي: المخرج هو صاحب الكلمة في المسرح الحديث ولا يزال مفهوم الإخراج زئبقيا

العدد 643 صدر بتاريخ 23ديسمبر2019

شهد مهرجان الإسكندرية المسرحي العربي للمعاهد والكليات المتخصصة في دورته التأسيسية  الأولى التي نظمت في الفترة من 3 إلى 8 ديسمبر الجاري  مجموعة من الورش التدريبية منها ورشة الإخراج المسرحي للممثل والمخرج التونسي  د. حمادي الوهايبي، خريج  التمثيل و الإخراج  بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس و الأستاذ  بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان. و الرئيس السابق لجمعية مهرجان ربيع الفنون الدولي بالقيروان، وله العديد من التجارب مخرجا ومنتجا وممثلا في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية والتليفزيونية.
وقد استغرقت هذه الورشة  4 أيام متتالية.

في أول أيام الورشة   
 استهل الوهايبي حديثه  بالتعارف بين مجموعة المتدربين، حيث طلب من كل متدرب تعريف نفسه بنبذه قصيرة عن تعليمه وتكوينه المهني والميداني، وإن كان في المجموعة من يمارس الإخراج، مؤكدا لأت الإخراج ممارسة وليس تعلما، وان ليس هناك منهج أو طريقة لتعليم الإخراج، إنما هي ممارسة الوظيفة الإخراجية، بالإضافة إلى مجموعة التدريبات والتطبيقات قبل ذلك، لافتا  لأهمية التعرف على المتدربين و هل هم من المتخصصين في دراسة المسرح، أم أن أغلبهم من آفاق واختصاصات أخرى؟ و هو ما سيحدد طبيعة العمل داخل الورشة.
و يعرف الوهايبي نفسه بأنه ممثل ومخرج ويقوم بالتدريس في الجامعة التونسية والمعهد العالي المسرحي وكلية الآداب بالقيروان.
 تساءل: ما هو الإخراج ؟ ومن هو المخرج ؟ وأجاب بأن كلمة الإخراج ملتبسة المفهوم، تتعدد مناهج الإخراج و لكل تجربة ظروفها، مشيرا إلى أن  مفهوم الإخراج زئبقي، ينفلت حينما نحاول أن نفهمه، وأوضح أن إخراج الشيء في اللغة يعني إظهاره وهو يطلق على إظهار الشي غير الموجود، ويستطرد : هذا هو الفهم المباشر،  لكننا أحيانا نعقد الأمور رغم أن البلاغة في الإيجاز، ومسحة التبسيط وليس التعقيد لذا يجب الانطلاق مما هو سهل لنعمق فهمنا .
أضاف: إذا كان الإخراج هو إظهار الشيء، فما هو هذا الشيء؟ فهل هو النص؟ ما الذي يجعلنا نصر على إخراج شيء قرأناه؟ أو إظهار جملة في خيالنا على الشاشة أو الخشبة ونظهر هذا الأمر للعيان ؟!ألسنا بذلك نعيد قراءة أخرى؟ بل ونعيد كتابة أخرى؟
واصل: مهما كتب المؤلف يبقى النص دائما مفتوحا على التأويل وهذا هو مكمن الصراع بين المؤلف والمخرج من زمن، أضاف: يبدو أن المسرح الحديث قد تجاوز هذه المسألة .
وأجاب الوهايبي  إجمالا على كل علامات الاستفهام التي طرحها مؤكدا أن وظيفة المخرج الأساسية هي إظهار (النص) ولكن ليس شرطا أن يكون المكتوب،  حيث يمكن أن ينطلق من الفكرة أو من فضاء ويمكن أن يبدأ باختيار الممثلين .
قال إن وظيفة المخرج بدأت في الظهور في أواخر القرن التاسع عشر (ساكس مننجن)  وذكر أمثلة عديدة للصراع بين المؤلف والمخرج، منها القديم ومنها الحديث،  مشيرا لتجربة المؤلف د. سامح مهران مع المخرج ناصر عبد المنعم في مصر .
أجمل حديثه بأن المؤلف مفردة من مفردات العمل وأن النظرة “السبحانية” له لم تعد موجودة، والعمل سيد نفسه، وأن لا فضل لوظيفة على أخرى،  و أن العمل المسرحي توليفة من مجموعة من الوظائف، لافتا إلى أنه مازالت هناك إشكالية معرفية و مفهومية في العلاقة الملتبسة بين المؤلف والمخرج،  انتهت في المسرح الحديث حيث سحب المخرج الريادة لنفسه.
وعن وظيفة المخرج والمنهج الذي يستخدمه قال : هناك المنهج الذي يعتمد على  (نص) ثم يأتي  اختيار الممثلين وإدارة البروفات وتوزيع الأدوار والتدريبات والتي يحدد فيها دخول الممثل وخروجه وعلاقته بالسينوغرافيا وعملية  القراءة  على الطريقة الإيطالية حول الطاولة ..الخ.. والمنهج الثاني حيث لا يعتمد المخرج على نص، وليس معنى ذلك أن يدحض منهج الآخر، بل هو محض أسلوب مختلف والمهم أن يكون مؤطرا ومقنعا، لذلك فمن المهم أن يكون لدى المخرج خلفية معرفية.
أضاف: المخرج الناضج مثقف عالم عارف، يشرّح المجتمع، و قد يتجاوز مفهوم (الآن وهنا) بوعي.. يبحث في الأسواق والمجتمعات والأخبار والأشياء، ولديه من الثقافة الفنية والرياضية و السياسية والاقتصادية فضلا عن رصيد معرفي ونظري بالوضع العام، واطلاع  على الأنساق الإخراجية ما يؤهله للمارسة. تابع : (ارتو - بريخت- ستانيسلافسكي - مايرهولد ..الخ) هذه هي الأرضية الأساسية للمخرج الناضج . لذا ليس بالضرورة أن يكون المخرج خريج معهد متخصص بل إن أغلب المخرجين كونوا أنفسهم ويتعلمون.
قام المدرب بتقسيم المجموعة إلى مجموعات صغيرة متجانسة وطلب من كل مجموعة تقديم فكرة يفتح حولها نقاش حول كيفية إخراجها، وكيف سيفكر فيها كل شخص بطريقته على أن تكون هذه الفكرة إحدى  النماذج العملية التي سيتم التطبيق عليها داخل الورشة .
بعد مناقشة المجموعات على حدة .. تجتمع المجموعات في مجموعة واحدة ويستكمل الوهايبي  حديثه  عن ثقافة الاختلاف، موضحا أن الاختلاف في الفن ضرورة، وهو ما يحقق الثراء في إعداد الأعمال المسرحية، مشيرا إلى انه على الخلافات الفكرية والسياسية والجدل تقوم المفارقة، لكنه أكد على أهمية أن نتعلم الإنصات والإصغاء  للنهاية والرد بكلام موزون ودقيق كي نربح الوقت، وأنه  من الواجب تكريس مفهوم التحاور والتشارك. لأنه الأساس .
 ويضيف: إن المسرح فرجة .. وهو ما يتطلب أن نفتح مساحات للحلم والمحبة والعطاء مؤكدا أن أغلب خلافاتنا نفسية ويجب أن نتفق في النهاية.
وطلب من كل متدرب تجهيز مشهد من إحدى الكلاسيكيات المسرحية يضع عليه خطته لإخراجه، مع مراعاة ان تكون الفكرة واضحة ومكتوبة بشكل مؤطر ينم عن منطق، فالترابط يتأتى من وجهات النظر المختلفة .

تطبيقي
 في اليوم الثاني تحدث الوهايبي عن مناهج الإخراج المتعددة والتي في أغلبها مستوحاة من تجارب ميدانية، مشيرا لأهم هذه المناهج والتجارب الاحترافية في العالم لأنتونان آرتو، بيتر بروك، ستانسلافسكي، مايرهولد، جروتوفسكي وغيرهم.. فأوضح أن ستانسلافسكي يعتمد المنهج السيكولوجي، و أن مايرهولد يعتمد الشكلانية ويحتاج لممثل رياضي ذهنيا وبدنيا بينما أنتونان آرتو فهو يعتمد مسرح القسوة وقد استلهم منهجه من روح الشرق و يتحدث عن قدسية الأداء، وهو مسرح قاس على نفسه وله تأثير كبير على بقية التجارب، مؤكدا على  أن مسرح آرتو قريب الشبه بفلسفة نيتشه، وأنه جاء من جزيرة من أقصى الشرق قائمة على الروحانيات، تابع: أما جروتوفسكي فيعتمد المسرح الفقير الذي يعني إلغاء كل الزوائد وكان يعرض مسرحه أمام جمهور قليل العدد يتروح بين 30 و 40 متفرجا، بينما بيتر بروك فيعتمد ما أسماه المساحة الفارغة ويعدّ بروك آخر عنقود الكبار..  وقد اعتبرت نفسي محظوظا عندما دخلت مسرحه وشاهدت مسرحيته (why) في باريس والتي أهداها لمايرهولد .
ويضيف : عاش مايرهولد مع ستانسلافسكي وقد بدأ مع النظام الشيوعي ثم انسحب لأنه يرى أن الفن خارج الايدولوجيا،  وتم اغتياله ثم اغتيال حبيبته بعده لأنها عارضت ستالين.
ثم يوضح  أن مسرح بيتر بروك يحث على المواضيع الكونية والبحث عن الآخر .
يتحدث الوهايبي عن المخرج الجيد فيقول: هو الذي يجعل الفريق على استعداد تام ليس جسديا فقط بل إن الاستعداد الذهني أكثر أهمية، موضحا أن الاستعداد الفكري يدعمه الاستعداد الجسدي، واصل: وكذلك هو يختار ممثليه بعناية ويعدّهم مهما طال الوقت، شرط توفر رغبة داخليه للتفكير في تقديم عمل جديد، و يستعرض الوهايبي إحدى التجارب الإخراجية له بعنوان (الصابرات) فيقول: إن هذا العرض يثير التساؤلات حول إعادة النظر في علاقتنا باليهود موضحا: نحن نبتعد عن المفاهيم الأساسية في الدين فنذهب للتأويل والسيف ونتغافل عن الموعظة الحسنة، فلا يمكننا أن نجبر الآخر على تبني أفكارنا أو لباسنا...الخ فالاختلاف  أمر طبيعي، كما أننا نجتمع حول المسرح ولكن لا نتفق علي منهج، فالمخرج ينطلق من بيئة حتى ولو كانت المواضيع تتأسس من بيئة أخرى .
يذكر المدرب أن الكاتبة الفرنسية آن إييار سفالت وهى واحدة من أهم المنظرين والنقاد في فرنسا تحدثت في كتابها “مدرسه المشاهدين” عن ان أغلب المخرجين العالميين والتجارب المسرحية العربية سليلة الثقافة العربية مثل مارون النقاش ورحلته في مصر وفي شمال إفريقيا حيث نشأ المسرح العربي .
و عن المهرجانات المسرحية العربية وأهميتها يقول : منذ الستينات عندما بدأت تظهر المهرجانات العربية في دمشق و قرطاج وغيرها أصبح المسرحيون العرب يشاهدون بعضهم وازداد هذا التعارف عندما ظهرت المهرجانات الكبري وهذا أمر مهم .
وعن الإخراج يقول: وكما أن الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة فإن المخرجين أيضا يبحثون عن شكل المسرح، وهذا يساعد علي فتح آفاق جديدة، لأن هاجس المبدع هو البحث عن تغيير شكل الإقامة في هذا العالم..والفن والفلسفة يجعلانا نفكر في شكل جيد .
ثم يوضح الوهايبي أن المخرج إما أن ينطلق من نص جاهز سيقع فوق الركح /خشبة المسرح أو الانطلاق من لا نص مكتوب ولكن التجربة تكون قائمة على حكاية، وبذا تكون الدراما هي خرافة العمل، ويقصد بذلك حكاية العمل، وهي الطريقة التي اعتمدها في تدريبات اليوم.
تطرح كل مجموعة فكرتها ويبدأ كل متدرب بطرح رؤيته الإخراجية لهذا المشهد وتنفيذها بمجموعة المتدربين ثم يقوم الوهايبي بتطوير هذه المشاهد والرؤى .
ثم يعلق على هذه التجارب مؤكدا أن العروض الناجحة هي التي تجذب المتلقي وتثير دهشته ومتعته طوال العرض، فعندما مؤكدا أن كل فكرة تحتوي على العديد من المقترحات، وأن على المخرج  إرباك الجمهور وكسر توقعاته، حيث لا يجب أن يتماهى معه.
يحفز الوهايبي المتدربين على المشاركة والتفاعل فيقول: كن تلقائيا فيما وصلت إليه حتى لو كان بسيطا، وأن نحاول اكتشاف أنفسنا. ثم  ينهي اليوم الثاني مؤكدا  أن الغاية من المسرح هو الوصول للهدف بطرق تعبيرية، ومخاتلة الجمهور وإرباكه، فلا تكشف أوراقك ولا تكشف الحقيقة مرة واحدة، بما يعني لا تتعرى أمامه بل دعه يتساءل.

ثالث الأيام
التطبيق العملي على طرح المقترحات ومحاولة تطوير المشاهد، كان هو ما شغل اليوم الثالث انطلاقا من نص مكتوب،  وقد اختار الوهايبي مسرحية ضحايا الواجب للكاتب يوجين يونسكو  لتكون بمثابة التدريب العملي على وضع المقترحات لإخراج افتتاحية هذا العرض.
في البداية قرأ افتتاحية النص على المتدربين ثم قسمهم إلى 6 مجموعات، وكل مجموعة مكونة من ثلاثة، فيلعب فرد من كل مجموعة دور شوبير، و تلعب فتاة دور مادلين ويقوم الثالث بإخراج المشهد لهما.
ويوضح الوهايبي أن كتابات يوجين يونسكو تنتمي لمسرح العبث، وهو ذلك المسرح الذي يمرر القلق للمتلقي حيث يجعله يشعر بنوع من الرتابة. أضاف: إن دور المخرج هو الولوج إلى عمق النص من خلال المقترحات وطرح الأسئلة والجدل حولها، لاسيما وأن النص ذو مسحة عبثية، ويؤدي الجدل إلى طرح الأسئلة العميقة حول كل ما يحيط به.
وعن سمات مسرح العبث قال إن ظاهرة التكرار تعدمن أبرز السمات، حيث يحدث هذا التكرار بالحركة أو بالكلمة للتأكيد على مفهوم العبث والقلق .
ثم يوضح أن المخرج الجيد هو من يمتلك خيالا واسعا خصبا، يمكنه أن يخلق شكلا جديدا للإقامة في العالم، مضيفا: الفنان لا ينقل الواقع بل يبحث عن واقع مختلف آخر أي يبحث عن دينامية جديدة،  مشيرا إلى أن المخرج ينطلق من الظروف الموضوعية التي سينتج فيها عمله، كالإنتاج والفضاء والمشاركين، و جميعها مسائل حيوية يتحرك وفقا لها، مستدركا: إنما المغامرة الإخراجية فهي ألا ننطلق من نص جاهز.
 شرع المتدربون في طرح رؤاهم ومقترحاتهم وتنفيذ المشهد المطلوب برؤى، ويعقّب الوهايبي عل  المشاهد بطرح الأسئلة وفتح باب النقاش .
ثم يستأنف الحديث عن عملية الإخراج بمفرداتها ويستطرد حول الإنارة المسرحية بوصفها موضوعا حيويا وأساسا في المشهدية المسرحية الجديدة، لكنه يستدرك:  إذا أراد المخرج أن يحذفها ويعتمد على الإنارة الطبيعة فهذه خياراته الجمالية، ولكن  لابد أن تكون مدروسة .

ارتجالية
في اليوم الرابع والأخير طلب الوهايبي من المتدربين طرح بعض المقترحات لعمل مشهد مسرحي دون الانطلاق من نص مكتوب، بل عبر الارتجال، فاقترح المتدربون أفكارا عديدة منها عيادة للأمراض النفسية، أو موضوعات تعالج فكرة الاختلاف والعنصرية وقبول والآخر وغيرها وتم الاتفاق على فكرة طرحتها المتدربة نجلاء نبيل تدور حول حافلة (أتوبيس) تضم أنماط وشخصيات متنوعة من المجتمع، كالسائق والنجار والمدرسة وست البيت والبائع والخادمة والطالبة في الجامعة الأمريكية، وعازفة موسيقية ومحام ..الخ.. ويقوم الصراع بين الركاب والسائق المستغل إذ يطالبهم بزيادة في أجرته، ويظهر في المشهد زحام شديد .
وقد كلف الوهايبي الممثلين بالارتجال حول الفكرة أكثر من مرة إلى أن نضجت ورسم لها بعض خطوط الحركة المناسبة وكلف أحد المتدربين بصياغتها دراميا، وكلف آخر بتنفيذ الموسيقى المناسبة وآخر للإضاءة التي استخدم فيها خلفية زرقاء للتعبير عن الانتظار
وبؤرة إضاءة مركزة على السائق في البداية ثم يتوالى ظهور الركاب مع المشهد، وقامت إحدى المتدربات بعمل الماكياج في حين قامت أخرى بإحضار ملابس ملائمة للشخصيات .
ويلفت الوهايبي أن الورشة هي سياق بحثي تدريبي نحاول فيه سويا أن نصل لما عرفه بأنه “إنشائية العرض المسرحي”.
وفي ختام الورشة أشار الوهايبي إلى أنه ربما تكون مدة الورشة غير كافية، لكنه حاول التكثيف للتعريف بالمناهج والأساليب الإخراجية المتعددة، وأن الورشة والمهرجان بمثابة فرصة للتعارف والتواصل ورحب بتواصل جميع المتدربين معه عبر حسابه الإلكتروني أو هاتفه .
 

 


عماد علواني