المسرح المصري.. مائة وخمسون عاما من الإبداع

المسرح المصري.. مائة وخمسون عاما من الإبداع

العدد 640 صدر بتاريخ 2ديسمبر2019

يشهد الواقع المسرحي المصري والعربي حضورا مضيئا لافتا للمبادرة التي أطلقها المسرحي الكبير د.عمرو دوارة للاحتفال بذكرى مرور مائة وخمسين عاما على ميلاد المسرح المصري، حيث تردد صوته في الوسط الثقافي مؤكدا أننا أمام حدث تاريخي وفني عظيم يجب التوقف أمامه والاحتفال به، مع ضرورة إدراك مدى أهميته الثقافية وحتميته الفنية، باعتبار أن هذا الاحتفال سيحفظ حقنا التاريخي في الريادة المسرحية. فإذا كانت بدايات المسرح العربي بصورته الغربية الحديثة قد تحققت بفضل مغامرة الرائد اللبناني مارون نقاش عام 1847، ومن بعده تجربة الفنان السوري أبو خليل القباني عام 1856، فإن هذه التجارب لم تكتمل بسبب ضغوط قوى الرجعية والتخلف والتعصب، التي استطاعت أن تقضي على هذه المحاولات بقوة، أما البداية الثالثة الناجحة فقد حدثت في مصر عام 1870 بفضل جهود الرائد المسرحي يعقوب صنوع، وبذلك أصبحت هي البداية الحقيقية للمسرح العربي بامتدادها منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
ارتكزت مبادرة الاحتفال بعام المسرح 2020 على ركائز علمية منهجية واضحة، وعلى تصور واضح لكيفية استغلال وتوظيف هذه المناسبة الهامة في إعادة تطوير البنية الأساسية ومنظومة الإنتاج وتحقيق المشاركة الفعلية للمسرح كقوة ناعمة في نشر الوعي والتنوير والإسهام بجميع معاركنا الثقافية والتنموية، وبالتالي فقد استكمل د.دوارة ككيان فني وفكري متوهج بهذه المبادرة المهمة جهوده وإسهاماته السابقة، حيث سبق - بخلاف إسهاماته القيمة كمخرج وناقد ومنشط مسرحي - وأن قدم للواقع الثقافي «موسوعة المسرح المصري المصورة» والتي تتضمن توثيقا بالبيانات والصور لجميع العروض المسرحية منذ عام 1870 وحتى عام 2015، وهي تمثل حدثا ثقافيا غير مسبوق عالميا، وفي نفس السياق يأتي كتابه المتميز: «المسرح المصري.. مائة وخمسون عاما من الإبداع» كإنجاز علمي توثيقي شديد التميز، ويمكن اعتباره المفتاح الأساسي لبيانات «موسوعة المسرح المصري» الضخمة، واتصور أن قراءة هذا الكتاب ومعرفة تفاصيله ستمنح القارىء يقينا تاريخيا وعلميا لا يقبل الشك بأن البداية الحقيقية للمسرح العربي تنتمي لمصر.
  كتاب «المسرح المصري»:
ضمن إصدارات المهرجان القومي للمسرح المصري 2019 يأتي كتاب دكتور عمرو دوارة «المسرح المصري.. مائة وخمسون عاما من الإبداع”، ليضعنا أمام إنجاز علمي توثيقي رفيع المستوي، وبداية نؤكد أن د. دوارة بشخصيته الاستثنائية التي تموج وعيا وجموحا وطموحا قد أصبح جزءا لامعا وأصيلا من ذاكرة الفن، وتحول إلى ظاهرة مسرحية تثير الجدل والتساؤلات باعتباره كيان ثقافي مستقل، نجح في تحدى المستحيل وتجاوز حدود كل عثرات وسقطات المؤسسات، ولعل جميع إسهاماته غير المسبوقة - ومن بينها «موسوعة المسرح المصري المصورة» تؤكد أنه من المبدعين الكبار المتميزين الذين يسعوا لتغيير مسارات الفكر والبحث والإبداع.
يمتلك الباحث والناقد والمخرج الكبير د. دوارة وضعية خاصة في الواقع المسرحي المصري والعربي، وتمتد موهبته وإنجازاته عبر الكثير من المستويات والاتجاهات، وترتكز أعماله دائما على منظور منهجي نقدي، فهو يمتلك وعيا ثائرا بفلسفة الفنون وجماليات المسرح، لذلك تأتي لغته مغايرة غزيرة الوعي والثراء وتتجاوز حدود السكون والجمود بحثا عن الإرادة والتحقق والاكتمال، وقي هذا السياق يأتي كتابه الأحدث «المسرح المصري.. مائة وخمسون عاما من الإبداع» كقراءة مبهرة في المسرح والسياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، ويهدف إلى محاولة استكمال أجزاء الصورة المبعثرة، ومحاولة الإجابة على تلك التساؤلات المرتبطة ببدايات الحركة المسرحية، وكيفية انطلاق الشرارة الأولي، وكذلك كيفية تشكل الظاهرة المسرحية ونجاحها في استقطاب الجمهور.
يسجل هذا الكتاب أهم بل وجميع الأحداث والظواهر المسرحية خلال خمسة عشر عقدا مع محاولة استكمال جميع التفاصيل المتصلة بالإنتاج المسرحي والحياة الفنية بصفة عامة، وذلك نظرا لأنه على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله الأساتذة والمؤرخون لتوثيق مراحل المسرح المصري - وفي مقدمتهم: الأساتذة محمد تيمور، فؤاد رشيد، د. محمد يوسف نجم، د. يوسف داغر، د. رمسيس عوض، د. علي الراعي، فؤاد دوارة، سمير عوض، محمد الفيل، ود. سيد علي إسماعيل - إلا أن هناك مساحات كبيرة في تاريخنا الفني ظلت مجهولة، بالإضافة إلى أن هناك بعض الفرق والعروض التي ما زالت ساقطة تماما من ذاكرتنا المسرحية، خصوصا أننا للأسف نفتقد بمكتبتنا العربية لجميع أشكال الموسوعات المسرحية.
يمثل هذا الكتاب قراءة أولى أو مسودة لمرجع كبير يتضمن ثروات من التفاصيل والكنوز المهمة التي سيجدها المهتمون في الموسوعة المصورة، وبالتالي يمكن الاستفادة من فصوله وتوظيف كثير من بياناته لرصد مدى تأثر الإنتاج المسرحي بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يتضح ذلك من خلال توقف الإنتاج المسرحي في زمن الثورة العرابية وبداية الاحتلال الإنجليزي 1882، وكيفية مشاركة المسرح في التعبير عن أحداث دنشواي 1906، ومساندة جهود الزعيم مصطفى كامل (مؤسس الحزب الوطني)، وكذلك كيفية تأثر المسرح بأحداث ثورة 1919، ثم بنفي زعيمها سعد زغلول وإقالة حكومة الوفد، وأيضا بمشاركته وتأثيره فيها، وفي نفس السياق يتضح مدى تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية في منتصف ثلاثينات القرن الماضي على الإنتاج المسرحي مما دفع معظم الفرق إلى التوقف، أو تنظيم رحلات فنية إلى بعض الدول العربية، خاصة وقد امتد هذا التأثير إلى ظهور وانتشار مسرح الصالات، وأيضا تأسيس أول فرقة تابعة للدولة وهي الفرقة القومية عام 1935.
يشير دكتور دوارة في كتابه المتميز إلى أنه كان من المنطقي أن يتصدى المسرح لقضية الصراع العربي الصهيوني منذ نكبة فلسطين عام 1948، وأن يواكب بعروضه الحروب والمعارك الهامة التي شهدها واقعنا وبالتحديد معركة بورسعيد 1956، الخامس من يونيو 1967، والسادس من أكتوبر 1973، وهكذا يحسب للمسرح أنه لم يكن مجرد انعكاس لأحداث العبور العسكري العظيم في أكتوبر 1973 بل كان مشاركا فعالا في صنع هذا الانتصار والتمهيد له، حيث استطاع المسرحيون أن يقوموا بدور حيوي ومؤثر بعد نكسه 1976، فقدموا عروضهم الوطنية أثناء حروب الاستنزاف لمواجهة مشاعر اليأس والإحباط، والعمل على تعبئة الجماهير للمعركة القادمة لاسترداد الكرامة.
يتوقف د. دوارة أمام التغيرات المحورية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين ومن أهمها ميلاد ثورة 23 يوليو 1952، إعلان الجمهورية العربية المتحدة، تأميم قناة السويس، التصدي للعدوان الثلاثي، وكذلك تأسيس فرق التلفزيون المسرحية في بداية الستينات، مرورا بالنكسة ثم نصر أكتوبر، ثم ما أعقب ذلك الانتصار خلال النصف الثاني من السبعينات من تغيرات سياسية، باتخاذ سياسة الانفتاح الاقتصادي منهجا، وما تبع ذلك من تغير أساسي لطبقات المجتمع المصري، وبالتالي تغير لنوعية المشاهد المسرحي، مما أثر على طبيعة العروض الفنية، ولذلك انتشر المسرح التجاري الذي يعتمد على أرخص أشكال الفنون للترفيه عن الجمهور الجديد، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة المسرحيات المصورة، تلك التي تنتج خصيصا للتصوير خلال عرض واحد أو عرضين في أفضل الأحوال، وهي الظاهرة التي تفاقمت سلبياتها منذ منتصف العقد الأخير عام 2014 بتنافس بعض القنوات الفضائية على إنتاج ما عرفه واقعنا الثقافي بعروض: “تياترو مصر”، و«مسرح مصر».
يحسب لهذا الكتاب اقتحامه لمناطق مجهولة من حياتنا المسرحية ورصد بعض الظواهر المسرحية لأول مرة، ومثال ذلك «مسارح الصالات» في منتصف الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، والتي قدمت ما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين مسرحية، شارك في تقديمها كبار الكتاب ومن بينهم: بيرم التونسي، أمين صدقي، بديع خيري، أبو السعود الإبياري، وقام بإخراجها الكبار: عزيز عيد، بشارة واكيم، عبد العزيز خليل، كما شارك بالتمثيل فيها النجوم والنجمات: فاطمة رشدي، بديعة مصابني، علي الكسار، فتحية أحمد، ببا عز الدين، تحية كاريوكا، وإسماعيل ياسين.
يشير دكتور دوارة إلى أن النهضة الفنية في الستينات كانت نتاج لتضافر عدة عناصر من أهمها: اهتمام الدولة وإيمانها بالدور الذي يمكن للمسرح القيام به في معارك التنوير والتثقيف والوعي والتقدم، بالإضافة إلى تحقيق مفاهيم تبادل الخبرات وتكاملها بين الأجيال. حيث شهد المسرح المصري في الستينات وحتى الآن استمرار تقديم إبداعات بعض كتاب الخمسينات والأجيال التالية في مجال التأليف، أو الاقتباس والتمصير، وذلك في مسارح الدولة أو بفرق القطاع الخاص، كما شهد ظهور جيل من المؤلفين الجدد الذين استمر عطائهم الفني إلى اليوم.
وقد اتجه هذا الكتاب إلى تصنيف كتاب المسرح طبقا لبدايات تقديم نصوصهم على خشبات المسارح (لأنه يصعب تحديد الأجيال طبقا لبداية نشاطهم، أو تاريخ بداية النشر)، ويستطيع القارئ المهتم أن يتعرف بدقة مدهشة على مؤلفي ومخرجي المسرح عبر العقود المتوالية منذ الخمسينات وصولا إلى العقد الثاني من الألفية الجديدة.
تتكشف أبعاد المجهود الضخم الذي يهديه د. دوارة للواقع الثقافي المصري، فالعقود تتوالى والمعلومات الدقيقة تتكشف، والأبعاد الكاملة تصبح قراءة واعية في قلب الفن والسياسة والمجتمع والاقتصاد، وفي سياق متصل يرصد دكتور عمرو دوارة ظاهرة مهمة وهي تنظيم عدد كبير من المهرجانات المسرحية باختلاف أشكالها، وتباين أهدافها، وبخلاف بعض المهرجانات الفئوية التي تنظم في مصر مثل مهرجانات: المسرح المدرسي والجامعي والعمالي والهيئة العامة لقصور الثقافة، والمهرجان «القومي للمسرح المصري» الذي تأسس عام 2006، يتم سنويا تنظيم ثلاثة مهرجانات دولية مهمة منها: مهرجان «المسرح العربي» الذي أسسه الدكتور دوارة (من خلال «الجمعية المصرية لهواة المسرح”) وأدار جميع دوراته منذ عام 2001، ومهرجان «القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» والذي تأسس عام 1988، مهرجان «شرم الشيخ للمسرح الشبابي» الذي تأسس عام 2016.
سيظل هذا الكتاب الثري، هو وثيقة حب ووعي، وفن وثقافة واكتمال وجمال، وثيقة شديدة العمق والدلالات، تشهد دوما أن الدكتور عمرو دوارة هو قامة سامية رفيعة المستوى، شديدة الصدق والعطاء، باحثة دوما عن سحر المعنى، وامتلاك الذات والإرادة، والقدرة على تحقيق الأحلام.


وفاء كمالو