Vive la Vie.. أوديسا التقدم وأسئلة المصير الإنساني

Vive la Vie..    أوديسا التقدم وأسئلة المصير الإنساني

العدد 637 صدر بتاريخ 11نوفمبر2019

 هل التطور يؤدي إلى التغير ؟
يضعنا العرض السويسري “تحيا الحياة” “ Vive la Vie” أمام عدد من الأسئلة والهواجس والشواغل الفلسفية التي لا تنفض، فإذا كان غدنا لن يكون أبدا شبيه بأمسنا، فهل تكون الأفكار الجديدة ثمرة لنبتة الأفكار القديمة، وما تأثير ذلك على سلوكنا، عواطفنا، علاقاتنا. وإذا كان الكون كله طاقة تتوالد وتتفاعل، وتنتشر، لتشكل الطبيعة والعالم والأشياء والإنسان، فكيف إذن تتشكل حريتنا على الاختيار؟ لقد انطلقت الثورة الصناعية نتيجة استخدام الكهرباء كمصدر للطاقة، لتتوالى الاختراعات، وتسود التكنولوجيا، وتشمل كافة مناحي الحياة، فهل توازي ذلك مع طرق جديدة للتفكير، وأساليب مبتكرة للعيش، ومسارب تؤدي إلى الطمأنينة؟ من يطلعك على الغيب إذن ليخبرك أن نضالك في الحياة لن يدفنه أحفادك في المستقبل مع السخرية منه؟

انفتاح أفق جديد، أم عبودية مقنعة؟
يُفتتح العرض على رجال متحفزة تجلس على طاولة بوجوه مكفهرة؟ ونساء واقفات، مقصيات عن الحوار الدائر، ومهمشات في يسار خشبة المسرح، إنها أسرة من الريف الأوربي تدل ملابسها على مطالع القرن العشرين، يتبادل الأب والابن الحوار من طرف الطاولة إلى الطرف الآخر، الابن ينشد تجديد الحياة ودخول الكهرباء، وإضاءة بيتهم بمصباح إنارة، والأب على الطرف الآخر، يرفض محافظا على العالم الذي كابد في تكوينه، ومؤكدا على استقرارهم وحفاظهم على ما تواضعوا عليه من تقاليد “لقد جعل الليل للنوم” يقول الأب، الابن يبشر بالنور، والأب يخشى ويحذر، الابن يؤكد على طلبه في مصباح صغير، والأب يذكرهم بشقائه الذي شيد به عالمهم. هل نحن هنا أمام وجهتي نظر، قوة العمل المكبلة، وغزو التكنولوجيا. مع المفتتح إذن يواجهنا الصراع الدرامي، عبر طرفي الطاولة، طلب للتقدم، وتحذير من أن لكل جديد تكلفة من حريتك. تنحاز النساء إلى وجهة نظر الابن، فيستسلم الأب “التقدم جيد على كل حال” ، فيكون المصباح، ويكون نور، لينفجر الأداء الراقص، وتتحرر الأجساد كإعصار، وتتألق خشبة المسرح بالطاقة وهي تنطلق مفعمة بحب الحياة ومنتشية في أرجاء المسرح، مع موسيقى  “ “André Pignat و “Johana Rittiner-Sermier “ التي نلمح فيها أصداء قوية من كارمينا بورانا “ لـ “كارل اورف” .
بهذا الانطلاق الفاتن، للإعلان عن انتصار حجة الابن على الأب، نرى المصباح، اللمبة، الكرة المضيئة، في صدارة المشهد، بين كفي مؤدي ماهر، يملك قدرة هائلة على التحكم والسيطرة على الكرة التي تتوالد، فتصبح اثنتين وثلاثة وأربعة، و كأن الكرة تمتلك حياتها الخاصة وحركتها المستقلة، وتوالدها الذاتي، كشأن التكنولوجيا في عالمنا، بمصاحبة أغنية تشبه تعويذة ، وبينما تتعملق الكرة وتصبح اكبر وأكثر إضاءة يدحرجها الرجل إلى المرأة الأم التي تتلقفها بفرح، ويتحول الرقص إلى ما يشبه رقص القبائل الإفريقية في تعازيمهم، لنشهد انبهار النساء بالتقنية الجديدة، ويتبعهن الرجال، فيظهر الشقاق الأول في الأسرة، من خلال الرقصات التي صممتها  “جيرالدين لونفات” .
الابن يذهب إلى الحرب، على خلفية تحريض خطب الزعماء في الراديو، الأمهات حزانى على فقدان أبنائهن، عندما يرجع الابن محطما من الحرب يجد صدر أمه رحبا، يروي لأبيه أهوال ما رآه ، يطلب منه انه لابد من التحديث وتطوير حياتهم، فالعالم كما رآه كبير،لابد من أن نجعل حياتنا أفضل لأن الموت يترصدنا، يظل الأب رمز الأصالة والحفاظ على التقاليد والخوف من التقدم في تقريعه، وتحذيره من التطور الذي يطال أسرته.
مصباح المعرفة، أم مشعل الهياج ؟
في ظني أن العرض يقوم على ثلاث مشاهد أو ثلاث حركات كونترابنطية تتواشج فيه الموسيقى والرقص والغناء والتمثيل والأكروبات ، تنتظم كلها من خلال الرجل الممسك بالكرة، فمن راحتي يديه توجد الكرة ثم تتحرر منه، وتتوالد وتستقل، ويبدو أن رمزية الكرة لا تقف عند حدود المصباح الكهربائي، أو التكنولوجيا، وإنما تضرب في الميثولوجيا القديمة، حيث شجرة الحياة، التي تستبطن بذور التقدم، وثمرة المعرفة، وهي ثمرة مغوية، تجلب الخطيئة الإنسانية، وتحول بين الانسان ونفسه، وهو ما يتوازى مع أغنية “ Magnificat” لمغنية العرض “جوهانا ريتني سيرمييه” التي تؤكد على التأرجح بين وجهي الطيب والشرير للحداثة، وهذا التأرجح والتمزق لن يثني الأسرة على قرار المضي نحو التقدم. ثم ما هو التقدم؟ هل هو المسيرة الإنسانية المستعينة بوسائل التكنولوجيا ؟ لقد خرج الجني من القمقم، ولم يعد تحت السيطرة، والثورة التكنولوجية فاقت ما سبقها من ثورات، حتى أنه في كل رقصات مجموعة الرجال والنساء بعد ذلك دليل من التصميم الكريوجرافي على فقدان محور التماسك والارتكاز، وكأننا بصدد أداء أشبه بالجنون المنطلق.
الابن الآن يعمل في مصنع، وينضم إلى معشر العمال، أصحابه العمال يريدون له ان يكون بلشفيا، لكنه لا يريد سوى أن يفقد أصحاب رؤوس الأموال سيطرتهم، وفي استلهام لحركات “شارلي شابلن” المتشنجة في الفيلم المُنذِر العصور الحديثة (Modern Times) 1936، نرى وقع رقصات العمال، المؤذنة بالثورة البلشفية، وهكذا تصطخب الأجساد بالحركات المتكررة، ورقصات تعادي حيوية الجسد، وتجعل منه آلة تكرر أفعالها، كأننا تحولنا إلى روبوتات، وتغلب الطابع الهستيري على السلوك، وتفشي العداوة ونذر الاقتتال، ما يحول دون أي تواصل، ثم يجيء صخب وتمرد، وانفصال بين رغبات الرجال وأحلام النساء، ومجتمع جديد مشوه يولد .
“لقد عشنا مثلما عاش آباؤنا فقراء لكن لم ينقصنا شيء”، يقول الابن الذي صار أبنا لأبنه .
 
التكنولوجيا بوصفها سبيل للتحرر أم سياج يحول دون التفاعل مع العالم ؟
الموسيقى روح، تلف الكون وتحتويه، فبالضرورة تلف كل مجتمع، وتحتضن أسرة العرض، فيتحول المؤدون إلى كورس في مأساة إغريقية، ورقصهم يصبح حركة دائبة لا يمكنهم السيطرة عليها. تنقلب الحيوية إلى هوس في الحركة الثانية من العرض، كنشوة لقاء، أو هي اقرب لحشرجات موت موشك. إيقاع لاهث، وغناء متسارع ، ورقص متواصل، وكأن الحركة أيضا اكتسبت في بعد من الأبعاد استقلاليتها، ولا يمكن للأجيال المتلاحقة كبحها، بل كل ما يمكنهم معها مسايرة جنونها اللاهث.
الجملة اللاتينية المكررة والمحرفة من صلاة الشكر المسيحية، تذكرنا بأمر الله على مريم العذراء وهي تتكرر في غناء متصاعد، تذكرنا بأم النور، وبالابتهال لها كأم للبشرية المخبولة والمريضة بالتكنولوجيا، معها تبدأ الحركة الثانية من العرض، من خلال نفس المؤدي الذي استبدل الكرات المضيئة بقضيبين متماثلين فضيين على أطرافهما كرات صغيرة مضيئة.

لماذا تظل الرغبات الملحة للإنسان غير متحققة؟
ينهمر العرض المعتمد على نص “توماس لوباتشر”، في رقصات متوالية، وأغنيات، تتطور خلالها ملابس الممثلين، من ملابس للريف الأوروبي إلى ملابس معاصرة بكرافتات للرجال وتنورات قصيرة للنساء، متتبعا الطفرات والقفزات التطورية التي بلغها الإنسان المعاصر، حتى يمسك الراقصون بهواتفهم المحمولة، بهدف التواصل مع كائنات غير مرئية، بينما من يشاركونهم الرقص، غير حاضرين في أفق تعاملاتهم، يطال التطور قشرة الحضارة بينما تظل الروح كما هي، يمزقها التوق والرغبات والأشواق ذاتها. يتصل الأب هاتفيا بالابن الذي هجرهم ليطمئن عليه ، فيسأله الابن “هل أنت سعيد؟” يقول الأب ببساطة: “إننا نعمل ما بوسعنا”، يصرح له الابن بتعاسته، فيطلب منه الأب أن يعود، فالعالم مريض، الابن مؤرق وتائه، يبحث عن المعنى من وجوده، بينما يتهمه الأب بأن ما يفعله هروب من الواقع. إن الإنسان الذي هجر فلاحة الأرض، ليستهلك منتجات المصنع، وهجر المصنع ليلتصق بشاشة الكمبيوتر وهاتفه المحمول، لم يتغير جوهره في شيء، ربما كان أثر التطور عليه هو تشوه علاقاته الاجتماعية، وضمور ألفته، وإحساسه المتعاظم بالغربة. تغيرت الملابس والأدوات وتقدم الزمن، وظلت النفوس يعتمل داخلها نفس الاحتياجات والمشاعر، لذلك تعود الرقصات في المنتهى بنفس حركات البداية، وكأننا محكومون بالعود الأبدي، عبر عنه المؤدي ذي الكرات التي صارت قضيبين بعودته في نهاية الحركة الثالثة وقد تحول القضيبين إلى قوسين فضيين يتشكلان بيده، ليصبحا دوائر تدور حول نفسها في حركة دائبة لا تنتهي.
وفي خطاب تعليمي يوجهه الأب إلى الجمهور، ليختصر توجه العرض ومرماه، في بساطة لا تتواءم مع تركيبة العرض المدهشة، متحدثا لنا، بأن الطاقة هي النار التي حملها برومثيوس إلى الإنسان، وأننا جميعا نملك الطاقة اللازمة، التي توسع حقل إمكاناتنا، ويتوقف الأمر على استخدامنا لهذه الطاقة وإمكانياتها اللامحدودة. فهل باستخدامها سنكون عادلين أم ظالمين. هذه الإضافة المباشرة في ظني ما كان هناك داعٍ لها، لكنها لا تنتقص من الحالة العامة الممتعة للعرض، ومن الاقتراحات الجمالية الثرية التي شملت كل تفصيلة فيه، والتي استطاعت أن تجعله يحلق بنا ، وبنفس القدر يغوص داخل أعماقنا، شأنه شأن الرحلة الأوديسية، فبالرغم من أن رحلة هذا المحارب التعس، الذي جاب خلالها بلدانا ولقى فيها أهوالا، إلا أن رحلته في الأساس ليست موجهة للخارج، بل إلى معرفة الذات وتفحصها، وهذا شأن هذه الملحمة الغنائية الدسمة. اوديسا للتقدم، بدأت بطلب إضاءة مصباح، ومع انتهاء العرض ظل المصباح مضاء ووحيدا وحزينا.
العرض يطرح الإشكالية الملتبسة بين الإنسان والتكنولوجيا ، في إطار اوبرالي ثري، ورغم الحركات الراقصة العنيفة لا تجد راقصا ينهج، بل ظلت على الوجوه تلك الإيماءات المعبرة في سكينة أو ألم .


محمود حامد