العش البحث طوق نجاة للمرأة

العش البحث طوق نجاة للمرأة

العدد 573 صدر بتاريخ 20أغسطس2018

يعد الكثير من النقاد مسرحية «بيت الدمية» لإبسن، أحد أركان الدراما الحديثة، لكنها وقبل ذلك صرخة غضب وإعلان لثورة نسائية تستهدف المطالبة بحقوق المرأة في حياة أكثر حرية وإنسانية. ونتيجة لذلك، فإن دمية إبسن تعد واحة متسعة يذهب إليها أصحاب الآيديولوجيات المتنوعة لمعالجة قضايا اجتماعية شائكة متنوعة ومستمرة، ولتقديم رؤى جديدة عن علاقات التفاعل والتواصل بين الرجل والمرأة.
منذ بداية العرض نجد أنفسنا إزاء شبكة علاقات اجتماعية تجمع ثلاث شخصيات فقط اقتصها عرض «العش» من «بيت الدمية» ولكنها شديدة التشابك والتعقيد؛ حيث نجد هنا التأجيل الممتد طيلة العرض المسرحي عن المكاشفة لما تضمره الأنفس الثلاث حيال كل منهم للآخر خشية الاصطدام بالقادم المجهول أو الوقوع في الاندفاع الطائش للإعلان عن رغبة الانفصال التي لا حل بديل لها للتخلص من كثرة وتراكم الآلام التي تعاني منها الشخصيات.
مع الاقتراب من ليلة عيد الميلاد ووهج الاحتفال بها، تبدأ أحداث دراما العرض المسرحي «العش»؛ حيث يتمنى هلمر «الزوج» الاستمتاع بنورا كغنيمة بعد نجاح تجربة زواجهما وأسره لها داخل عالمه (عشه) متناسيا هذا العبء الذي تكابده من أجل استمرار الحياة. تنطلق حكاية العرض من واقعية هذا النص وعالمه الصغير المهدد بسقوطه رغم محاولة نورا الابتعاد عن اكتشاف هلمر أو مكاشفة النفس والمغالاة في تحمل قسوة هذا الزوج مع الاستسلام للفقر والامتلاء بالشك من رؤيته النفعية للعالم، ينسدل هذا الحصار النفسي الشاق والمجهد على الشخصيات الثلاث ناقلا للمتلقي صراع الحب والشك بين الرغبة في امتلاك التحفة الفنية «نورا» بهذا العش والسجن الذي أطفأ بهجتها، في مقابل رسوخ لحضور هذا الزوج ومن قبله الأب (الغائب الحاضر) في أعماق «نورا» التي يحركها يقين أن هلمر مالكها الوحيد.
في مقابل تلك العلاقة المعقدة بين نورا وهلمر، يظهر «العم رانك» العاشق المتيم بنورا الذي يخفي حبه لها في باطنه لكونه صديقا قديما لأبيها الراحل وزائرهم الدائم والوحيد، وهي الأسباب التي جعلت نورا تنظر له بوصفه بديلا لأبيها في عطفه عليها.
قدم عرض «العش» صورة مسرحية تعانقت فيها رؤيتا مصمم الرؤية التشكيلية للعرض ومخرجه ببساطة مكثفة من خلال الشباك المكشوفة للجمهور - التي أسدلت قبيل نهاية العرض لمحاصرة عالم العرض - التي حيكت في مقدمة المسرح حول الشخصيات الثلاث، مُشكلا البيت الذي قد يعني في هذ العرض الوطن الكبير (الذي يجدر به أن يكون بمثابة الحماية والأمان من قسوة الخارج)، وهو ما يجعل من الشخصيات الثلاث (وليس الزوج والزوجة وحدهم) يتمسكون به على أمل أن يقدم لهم الدفء داخل حتى العم رانك (الذي يعاني من عدم قدرته على إعلان حبه أو أمانيه في الفوز بقلب نورا) الذي كان يحلم بأن يجد من يعطف عليه ليستقر داخل عش بدلا من الانتظار وحده، لكن نورا هي من تقص شباك العش هذه المسجونة بداخلها لتخرج وتتركهما.
في مسرحية «العش» نحن بصدد ثلاثة ممثلين يقدمهم العرض داخل حكايته، يصلون برشاقة ويسر وقوة للمتفرج عبر أدائهم المسرحي، أداء يحمل في طياته نعومة الجسد المفعم بالطاقة رغم قسوة الآلام التي تعاني منها كل شخصية درامية وفق التتابع الدرامي لنهاية العرض؛ حيث يقوم كل منهم بأداء متنوع غير ميلودرامي يرتكز على لغة عربية سليمة إلى حد كبير بجانب إدراك الحكاية وفحوى الرسائل التي يؤكد عليها العرض، بالإضافة لتنوع الرغبات التي تتنازع الشخصيات من ممارسة الحب إلى الرغبة في الشعور بالأمان أو توفير متطلبات الحياة اليومية، نهاية بالاحتياج الشديد نحو التواصل والاهتمام، فنجد العم المتقدم في العمر رانك، الذي قدم دوره الشاب «ميشيل ميلاد»، بنقلاته الخفيفة والأكثر تفاعلا مع ذائقة الجمهور دون أي ابتذال بين الجد والهزل، متهكما على سخرية هلمر منه وعلى واقعه المزري، متحملا آلامه العضوية التي اتضحت في حركات جسده الهزيلة بصوت أجش متقطع وجسد واهن بتفاصيل واضحة في حركة سيره، ليؤكد أنه يحاول أن يعيش بمشاعره، وحقه في محاولة الحفاظ على التواصل مع هذه الأسرة الصغيرة مواجها وحدته التي طالما آذته.
غير أن هذه الدمية الآدمية نورا التي قدمتها «نانسي نبيل» لم تتجه إلى التمرد والثورة منطلقة بجسد غاضب وأصوات مرتفعة إمعانا في هذا الخروج من هذا العش الخانق، لكنها كانت في المقابل كطائر جريح منهك القوى ومحطم يتلفظ أنفاسه عند قرار الانفصال والخروج بصعوبة بعد نجاتها من محاولات هلمر لإعادة اصطيادها المتكرر عند ترك هذا العش، لتضع توازنا عند الغضب والحنق طيلة العرض في شخصية هلمر التي حافظ على هوية تلك الشخصية بالنظرات المهينة الدائمة والجسد الغاضب دوما حتى في لحظات الصمت من شخصية هلمر التي قدمها «إسلام علي».
«العش» من ديكور أحمد فتحي ودراماتورج فيصل رزق وإخراج إبراهيم أحمد بوشا، قدم ضمن فعاليات المسرح القومي للمسرح المصري في دورته الحادية عشرة دورة محمود دياب، من قبل فريق مسرح الألسن الذي يعد من الفرق المستقلة التي تخوض معركة وجودها مع الكثير من الكيانات الجديدة في الحركة المسرحية المصرية في القترة الأخيرة، كما رشح أحد أبطال العرض لجائزة أفضل ممثل ثانٍ.


همت مصطفى