ديستوبيا.. حالة استشراقية متناقضة

ديستوبيا..  حالة استشراقية متناقضة

العدد 635 صدر بتاريخ 28أكتوبر2019

اجتاحت التكنولوجيا عوالمنا وعقولنا حتى بات الشغل الشاغل للجميع هو تتبع مدى تأثيرها على حياة الإنسان وإلى أي مدى ستصل به، ووصل الأمر حد التنبؤ بما سنكون عليه، كنوع من أنواع الاستشراق القائم على الافتراض في أساسه، فالتركيز على التنبؤ جعلنا ندرك أسوأ ما في التكنولوجيا ومن ثم نبلورها ونضعها في قوالب ضخمة ونستنزفها في الجمل الحوارية والفنون بمختلف أنواعها.
وبما أن المسرح هو من أوائل الفنون التي تأثرت بالتكنولوجيا بعد السينما، وتعتبر التقنيات السينمائية بمثابة تطور في الشكل المسرحي التقليدي، إلا أن موضوعات المسرح ذاتها باتت تتبع الآثار الاستشراقية السلبية على المجتمع أكثر من أي نوع فني آخر، نظرا لكون المسرح فنا تفاعليا حيا بذاته، فيجد نفسه في مواجهة التواصل الافتراضي وكأنهما أعداء، ويستمر المسرح في استخدام التكنولوجيا وإدخال عناصرها على خشبته في الوقت ذاته الذي يوضح ضجره منها على الحياة العامة!
وفي ظل ذلك التناقض غير المبرر قدم العرض المسرحي “ديستوبيا”، المشارك ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الـ26، فكرة وإخراج محمد الخشاب، وتعني لفظة «ديستوبيا» أدب المدينة الفاسدة، أي هي المقابل الأول لليوتوبيا، فما هي إلا مجتمع خيالي فاسد غير مرغوب فيه، به مجموعة من المسوخ تجردت من إنسانيتها ويتمنى الجميع ألا يأتي عصر يواكبه، ويمكن تسمية العرض بالديستوبيا يحمل في ذاته مبالغة كبرى، فعلى الرغم من بشاعة تلك المدينة الفاسدة فإن العرض لم يقدمها على الإطلاق، بل حاول بين ثناياه أن يبرز فكرة «المسخ البشري» لكنها ضاعت في ظل الإفراط الحركي المستخدم داخل العرض.
فسار العرض بمنهجية تناول أثر التكنولوجيا على حياة الإنسان وبدأ في طرح أسألته التي تبدأ جميعها بماذا لو؟ ماذا لو تم تسخير الإنسان كآلة؟ ماذا لو تمت الرقمنة على البشر مثلما تتم على الحسابات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي؟ وغيرها وغيرها من الأسئلة.. وبمحاولات حركية حاول أبطال العرض الإجابة على الأسئلة، ولكنها محاولة لم تأتِ بجديد فحسب، بل ظلت في إبراز الصراع بين الإنسان والآلة دون جدوى، وكأننا جميعا ندور في حلقة مفرغة مع العرض لا نعلم ما النتائج ولا هم أنفسهم يعلمونها، ويمكن عدم وضوح النتائج جاء مقصودا لأنها نظرة بعيدة المدى، وهم فقط أرادوا لمسها واستشراقها كموقف يحتمل الحدوث، ولكن إذا كان الأمر هكذا بالفعل فلماذا يتم استخدام التكنولوجيا من الأساس في المسرح؟ فلو كانت التكنولوجيا ليست بمثرية لدلالات العرض المراد تقديمها ما كان لها وجود على الخشبة من الأساس، وبما أنه كان وجودها هو البطل الأهم في العرض، إذن كان لا بد من لمس ما تحمله في جعبتها من إيجابيات أيضا، فأسلوب تصيد المساوئ للتنبؤ بمستقبل أسوأ ما هو إلا حالة تشاؤمية بحتة تتنافى تماما مع طبيعة إخراج العرض ذاته!
فخلفية الفيديو آرت تحتل عمق المسرح بأكمله، تسلط عليها صور وأفلام بين المتحرك والثابت وكأنها في حالة أرشفة كاملة لكل حدث يتم على الخشبة، بينما الخشبة ذاتها لم تتمتع بأحداث كثيرة سوى مجموعة من الأداءات الحركية غير المُتقنة كادت أن تصل بالمتلقي إلى الصراع بين (الافتراضي والمعايش) بعض الشيء وفقط! فلا جدوى من كثرة عدد الرقصات التي لم تأتِ بجديد، وتخللها بعض الجمل الحوارية المؤكدة هي أيضا في ذاتها على ذاك الصراع، مما يضعف من بنية العرض، لأن أساسه مُهشم قائم على فكرة محورية واحدة دون غيرها.
كما أنها بالفعل فكرة مُستهلكة قدمت عشرات المرات خاصة في الوقت الأخير بالمسرح، وحضورها مجددا كان لا بد له من أن يكون حضورا طاغيا يثري دلالات مختلفة عن سابقيه.
وبالطبع إذا أردنا رصد المساوئ لا علينا بتجنب المميزات، وإن كانت تخلو جميعها من أي مميزات، فبالتأكيد كان استخدامها داخل العرض ما هو إلا تناقض بيّن يكشف إلى أي حد وصل استهلاك الأفكار دون جدوى!
فتقنية المسرح الرقمي ذاتها نوع من أنواع التكنولوجيا المُنتقدة داخل العرض والبطل الأول له في الوقت ذاته.
فالصورة المرسومة جاءت لتحل محل الكلمة من دلالات في الإضاءة ودلالات في الحركة، ويمكن محاولة التعبير الجسدي على الرغم من فقر دلالتها فإنها تُحسب للعمل ككل في محاولتهم للبحث عن طريقة تواصل جديدة غير الكلمة فوضع احتمالية تلاشي الكلمة من حياتنا جعل الجسد يستحوذ بعد الصورة على العرض ليصبح موازيا للكلمة في حياتنا العامة بل وفي أحيان أخرى بديل لها، حتى لا يفقد التواصل المباشر على اي حال بل يبقى منه ما يمكن بقاؤه حتى وإن سيطرت التكنولوجيا على فضاء الخشبة ومنه إلى أي فضاء/ عالم آخر أكبر، وباتت أكثر استحواذا فحسب.


منار خالد