التجربة.. رحلة في عالم رجل بلا وجه

التجربة.. رحلة في عالم رجل بلا وجه

العدد 528 صدر بتاريخ 9أكتوبر2017

يُحكى أنه في يوم ما من عام 1828م في مدينة نورمبرج الألمانية ظهر في شوارع المدينة صبي في السادسة عشر من عمره يُدعى «كاسبر هاوزر» يدّعي أنه قد قضى حياته وحيدا تماما في زنزانة مظلمة طولها متران تقريبا وعرضها متر واحد مع سرير قش للنوم ولعبة حصان خشبي فقط، كما ادعى أنه كان يجد الخبز والماء إلى جانب سريره كل صباح، وكان عندما يستيقظ يجد أن القش تغير وشعره قد قص وأظافره مقلمة، كما أدعى هاوزر بأن أول إنسان كان له معه اتصال كان رجلا غامضا زاره قبل الإفراج عنه بوقت ليس بالطويل، يحرص دائما على عدم الكشف عن وجهه له، كما قال إن هذا الرجل علمه أن يكتب اسمه من خلال قيادة يده، كما تعلم كيفية الوقوف والمشي، وزعم أيضا أن غريبا علمه أن يقول عبارة: «أريد أن أصبح خيالا، كما كان والدي» (باللهجة البافارية)، ولكن هاوزر ادعى أنه لم يكن يفهم ما الذي تعنيه تلك الكلمات، حيا هاوزر فيما بعد حياة مختلفة عن الآخرين؛ مليئة بالألغاز والمواقف غير المفهومة أو المبررة، وذلك حتى وفاته في عامه الواحد والعشرين في ظروف لا تقل غرابة وغموضا عن بقية حياته.
استمرت تلك الحكاية مشهورة ومتداولة - حتى يومنا هذا - بين أوساط متعددة ومتنوعة، فحياة «كاسبر هاوزر» وما أحاطها من غموض وغرابة قد طرقت أبوابا عدة دامت مغلقة أمام علماء النفس والأنثروبولوجيا والفلاسفة وكُتاب الرواية ومبدعي المسرح - من أشهرهم الكاتب النمساوي بيتر هاندكه - في كل أنحاء العالم لأعوام كثيرة، فبسبب حكايته هذه منهم من تساءل عن ماهية (الإنسان) نفسه.. ذلك الكيان المعقد المليء بالتنويعات والاختلافات التي تعتمد في أساسها على التطور والاكتساب، ومنهم من تعامل مع الإنسان ككائن اجتماعي تقوم حياته على خلق دوائر من التواصل والعلاقات الاجتماعية والحميمية، فبين هذا التعامل وذاك قد حاول المخرج المسرحي «أحمد عزت الألفي» أن يجد همزة وصل تجعلنا قادرين على فهم تلك النفس البشرية بكافة تعقيداتها، مستندا على حياة «كاسبر هاوزر» وذلك من خلال تجربته الأدائية «التجربة»، التي قدمت ضمن فعاليات ختام الدورة 24 من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، وذلك على خشبة مسرح «الجمهورية».
في فضاء مسرحي مغلق بسياج حديدي من كل الاتجاهات - بشكل يجعله أشبه بمصيدة الفئران - وبوضعية جمهور مراقب للأحداث من خارج ذلك السياج وكأنه يشاهد عرضا من عروض ترويض الحيوانات المفترسة، نجد شخصا يقف خارج السياج وكأنه الناجي الأوحد منه، لنعرف بعد ذلك بأنه «كاسبر هاوزر» ذلك الفتى الذي عاش في القبو لمدة ستة عشر عاما، وبكلمات متقطعة وجمل متشظية نبدأ من خلالها في اكتشاف طبيعة الحياة التي قد عاشها كل تلك الأعوام في الأسر، ليعترف بعد ذلك بأنه تظاهر بالموت حتى يعفو عنه «المُجرب» الخاص به كما أنه قد قرر بأن يقوم بقلب الأدوار، ليصبح منذ هذه اللحظة في موضع «المُجرب» بدلا من «التجربة»، لندخل بعد ذلك في عالم التجربة، وذلك من خلال أربع شخصيات - أطلق عليهم لقب فئران التجارب - لم يتعرضوا منذ ميلادهم لأي مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية.
ليبدأ المُشاهد من هذه اللحظة - أيضا - في الدخول إلى عالم التجربة، الذي يمتلك «هاوزر المُجرب» كل أدواته، وذلك بداية من الفضاء الذي يتكون من مستويين مختلفين، حيث يقف هو في المستوى الأعلى وذلك ليُعطي دلالة على أنه من يمتلك اليد العليا في حياة تلك الشخصيات التي لا حول لها ولا قوة والتي تقف في المستوى الأدنى، ولكن على الرغم من ذلك فإنها ذات المساحة الأكبر، مرورا بإضاءة تعمل على التوجيه المُركز على لفئران التجارب بشكل يوحي بأنهم تحت المجهر، وصولا إلى تمريره للخبرات التي يود هو أن يكتسبها فئران تجربته بشكل تدريجي وغير كامل.
إن العرض لا يمكن أن يتم وصفه بأنه يعتمد على دراما كلاسيكية بشكلها المعتاد والمعروف، وإنما هو يحتوي على درامته الخاصة التي تستند إلى مراحل - ضمنية - لاكتساب «تلك الفئران» لبعض الخبرات، وذلك بداية من محاولة الوقوف على الأقدام مرورا بمرحلة اكتشاف الذات - بالاعتماد على المرآة واكتشاف الآخر بالتواصل عن طريق التلامس، واكتشاف المكونات الأساسية مثل الألوان والأوزان والأشكال الهندسية، وصولا إلى مراحل التفكير ومحاولة التعبير عن المشاعر والذات والرغبة في الحرية، وهذا ما أدى إلى دمار تلك «العينات» في نهاية التجربة وذلك لأنها ارتقت وقررت أن تصبح شخصيات مكتملة الكيان بدلا من كونها مجرد «فئران تجارب»، وهذا ما يجعلنا نستطيع أن نوصف العرض بأنه عرض اعتمد في قوامه الأساسي على استخدام «سيناريو» خاص يتكون من مجموعة من النقلات والفصول التي تتقدم باستخدام بعض الأدوات مثل تسليطات الإضاءة وقطع الديكور وأجساد الممثلين أنفسهم الذين يمكن أن نعتبرهم جزءا مكونا لكيان التجربة، وذلك في محاولة من صناع العرض في إنتاج مجموعة من المعادلات البصرية/ السمعية لإيصال الأفكار، ذلك الأمر الذي أصبح كالسلاح ذي الحدين في بعض الأوقات، فالعرض اعتمد على الإغراق في الرمزيات التي تتحكم بدورها على إفهام المتلقي لمعنى العرض، ولكن دون أن يضع أي قواعد منظمة لتلك الرمزيات في بعض الأحيان، وذلك بالإضافة إلى فكرة الأفعال التكرارية التي استمرت إلى فترات طويلة بقدر قد يقلب الأمر من تكرار يُفيد بهضم التجربة البصرية وإدراكها بشكل حسي من قبل المتلقي إلى حالة من حالات الملل التي تجعل المتلقي ينشغل بصريا، وبالتالي ذهنيا عن بعض مراحل التجربة.
فأن تصبح شخصا «بلا وجه» أو «هوية حقيقية»، وكأنك مجرد رقم في تعداد كبير من الشخصيات الموجودة في ذلك العالم، هي واحدة من أهم الأفكار التي اعتمد «الألفي» على عرضها، والتي ظهرت في إصرار «هاوزر المُجرب» على تمرير عبارة «إنني أود أن أصبح مثلما كان إنسان آخر ذات مرة» داخل عقول فئرانه، ذلك الأمر الذي جعلهم لم يستطعوا أن يتعايشوا ويصمدوا وقتا طويلا، وذلك في ظل تعلمهم لمجموعة من المكتسبات الحسية الأخرى، مثل الأكل والتواصل الجسدي والسمعي والبصري التي تعمل كعامل ضد لفكرة أن يصبح الشخص «بلا وجه»، وهذا ما أدى إلى حتمية انهيار تلك الشخصيات وذلك عن طريق الموت أو الانتحار، وهذا ما يجعلنا ندُرك أن «الألفي» قد حاول استخلاص بعض الأفكار من شخصية «كاسبر هاوزر» للكاتب النمساوي «هانديكه» دون الأخرى، في محاولة منه لاستخراج معانٍ جديدة قادرة على مواكبة طبيعة المتلقي الآني.


رامز عماد