العدد 948 صدر بتاريخ 27أكتوبر2025
لطالما كانت مصر سبّاقة لإبداع نصوص مسرحية تقرأ الواقع المصرى/ العربى: اجتماعيا سياسيا، وثقافيا، وهى بهذا السبق الثقافى المسرحى تراكم خبرة مشهودة فى الكتابة، وبالتالى يمكن اعتبارها مرجعا رئيسا لتصدير هذه الثقافة منذ بداية استنبات الفن المسرحى فى ثقافتنا العربية إلى الامتداد.
هذا المعطى الموضوعى والتاريخى، مكَن الكاتب إبراهيم الحسينى من استثمار هذا المناخ الثقافى العام.
الذى أسعفه على العَبّ من مصادره وخلفياته، تحقيقا لذخيرة مسرحية أضحت مائزة فى التأليف المسرحى المصرى المعاصر، وهو المناخ نفسه الذى منحنا علامات مسرحية رائدة فى هذا الفن، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: توفيق الحكيم، يوسف إدريس، نجيب سرور، على الراعى، وغيرهم.
فالإشارة إلى هذا المعطى، يَدلّ على أن الكاتب إبراهيم الحسينى يشتغل من داخل مَنجم الكتابة المسرحية العربية فى مهدها، وما نقرأه فى عمله المسرحى «وشم العصافير»، هو حالة استمرار إبداعية لمسير هذا الكاتب المُجدّ، وهو يراهن على تطوير الواقع المسرحى المصرى وتنويع خرائطه بالالتفات إلى المخزون الثقافى العربى والكونى من جهة، وأيضا فى محاولة لاستضمار الواقع المصرى/العربى بكل ما يعجّ فيه من أحداث ووقائع متعددة المشارب من جهة أخرى، وهو الأمر الذى يُورّط الكاتب فى مسؤولية الكتابة كتكليف يدفعه إلى البحث عميقا فى مسوغاتها، ومضامينها وكيفية الاشتغال الأنسب على إخراجها فى تركيب يراهن على احترام الذائقة المسرحية للقارئ العربى بصفة عامة، كما يضمن للكاتب نفسه المكانة التى تليق به كواحد من صُنّاع الإبداع المسرحى العربى المعاصر.
إن محاولة فهم العالم الداخلى لهذا النص الدرامى، تتطلب منّا ربطه بنصوص سابقة للكاتب إبراهيم الحسينى من أجل إدراك مدى السيرورة الأدبية والفنية التى تنحوها الكتابة لدى هذا الكاتب، وأيضا لتحديد السياق الأدبى والثقافى الذى أفرز لنا هذه التجربة، فمما لاشك فيه أن لكل كاتب أسلوبه فى الكتابة وفلسفته فى طرح القضايا ومناقشتها، وأيضا وهذا هو الأهم ملامسة تلك التقاطعات والتناصات التى تربط كتابته بكتابات سابقيه أو مُجايليه من كُتاب المسرح فى العالم العربى.
وإدراكنا لهذه الأرضية/ المُنطَلق يسعفنا على سبر أغوار هذه المسرحية واستخراج مدلولاتها التى ترمى إليها انطلاقا من معرفتنا بالكاتب وذخيرته القرائية/الكتابية السابقة أيضا.
لقد تناول الكاتب إبراهيم الحسينى عددا لا يستهان به من الموضوعات/ التيمات ذات الأهمية خاصة التى تكون ذات صلة بما هو اجتماعى/ سياسى، كموضوعات تُشكل هاجسا حقيقيا لكل كاتب مثقف، يعى أهمية دوره الذى يضطلع به داخل النسيج الثقافى المجتمعى العام.
وبوقفة تأملية فى مسار الكتابة لدى إبراهيم الحسينى، نُسلّم بتراكم تجربته المسرحية التى تجاوزت سبعة عشر كتابا نذكر منها على سبيل المثال: جَنّة الحشاشين، أيام أخناثون، مراكب الشمس، الغواية، مقام الشيخ الغريب، كوميديا الأحزان، سجن فايف ستارز، المكحلة واليشمك، ومسرحيات أخرى، إضافة إلى العمل المسرحى الذى نحن بصدد دراسته.
نستشف من خلال هذه العناوين، أن الكاتب يسعى إلى أن تكون ملمحا من ملامح المجاز، بحيث تقدم لنا معان بلغة غير مباشرة، مفارقة، فانتازية، غرائبية، مادام المسرح كفن تعبيرى، لا يستنسخ الواقع، ولا ينقل الحقيقة كما هى، بل يجعلنا من خلال الكلمة والفعل، أو من خلال كل العلامات اللغوية والميتا لغوية نعانق عوالم أخرى يصبح من خلالها المجاز أفصح تعبيرا، وأبلغ قولا من الحقيقة فى حد ذاتها، وهذا ليس غريبا على اللغة، وتقنياتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بمؤلف متمرس كابراهيم الحسينى.
ترجمت أعماله إلى أكثر من لغة أجنبية: كالإنجليزية والفرنسية، وحاز عددا مهما من الجوائز فى استحقاقات وطنية ودولية، وهو ما يدل على مراسه المشهود فى الإبداع المسرحى الذى استطاع أن يزاوج فيه بين لغة الكم والكيف معا، وكأنى بالكاتب إبراهيم حسينى، يراهن على الفرادة الإبداعية التى لا تقف عند حدّ الأرقام، بل يعززها بالنوع الإبداعى الخلاق أيضا، وهذا هو الأهم فى تجربة أى كاتب مسرحى حقيقى.
فكيف قدّم لنا إبراهيم الحسينى نصه الدرامى «وشم العصافير» وما تجليات المجاز فى هذا العمل، وما المضامين الكبرى التى انطوى عليها؟
يراهن الكاتب المسرحى المصرى إبراهيم الحسينى من خلال مسرحيته وشم العصافير على كتابة عوالم درامية تتفجّر فيها الحركة بقدر مستوى تَفجّر الكلمة، بمعنى أننا نستشعر أثناء قراءة هذه المسرحية، بأن مؤلفها يمتلك قدرة خَلّاقة على تعرية شخصياته الدرامية بكيفية فيها كثير من الإبداع ذى الفكر المُتوثّب، وهو يقتفى أثر رواد التأليف المسرحى الأوائل، إنه يرسم عوالم مسرحية تتكلم فيها الأحداث عن نفسها، وتدخل مع شخوصها فى تنافسية تَنمّ عن اتساق هذين المُكونين وتكاملهما.
إن هذه المسرحية وهى تُسمع إيقاعها المرموز للقارئ، تكون بمثابة تراجيديا معاصرة تنهل من راهن الواقع العربى المثخن بالجراح، والمنكوى بويلات الخيبات والأعطاب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى أفرزتها شعوب مغلوبة على أمرها، لا تستطيع الصدح بالتغيير، ولا القدرة على التعبير الحرّ، حتى مع الذات، فبالأحرى أن تخاطب بمحنتها الغير. ولكى يُعبّر الكاتب عن هذه المضامين الكبرى، لجأ إلى التلميح عوض التصريح، مادام المسرح بنية أدبية وفنية ينزع إلى الترميز الإبداعى، وإلى جعل مؤثثات الفضاء الدرامى علامات أيقونية غير بريئة، محاولا أن تكون بمثابة مدلولات تنسجم والحمولة الدلالية التى تُعبّر عنها، فالعصافير التى تحلق أو تكاد، أرادها الكاتب أن تكون شخصيات لها حضورها الرامز، فهى دليل على التَّوق للحرية والانعتاق، وهى ككائنات طائرة لا نستطيع القبض عليها، لأنها سرعان ما تفرّ إلى أعلى، أو إلى أى اتجاه قصيّ، ومادام الإنسان العربى المعاصر هو الآخر يرغب فى التحليق بعيدا عن مآسى الواقع، فإنه لا يقدر على فعل ذلك، لأنه مُطوَّق بكل أشكال القمع، والترهيب، والعنف، والتسلط، وغيرها من الكلمات المنتسبة إلى قاموس الإحباط والتيئيس المُمَنهَج، لترويض الذوات المتمردة على الطاعة، وتدجينها فى سياقات حياتية لا تعرف طريقها إلى كرامة العيش.
لقد عمل الكاتب إبراهيم الحسينى من خلال هذا العمل المسرحي- رغم مرور أزيد من عقدين على كتابته- على مَسرحة الواقع العربى، أو تسييسه لفكّ ألغازه وفضح ألاعيبه بكيفية تستحضر التاريخ، وتنتمى إلى الجغرافيا العربية، وتتقاطع أيضا مع التراث الإنسانى فى شموليته، صحيح أن الكاتب ينطلق من أرضية الواقع المصرى، لكنه سرعان ما يَتَوعّر إلى جغرافيات عربية فيها كثير من التشابه على مستوى انعدام المجالات الحيوية التى تُكبّل الإنسان العربى نحو الحرية والتقدم المأمول.
ينتقى الكاتب شخصيات بعينها للعب هذه الأدوار، وتفجير الكمون المعرفى والثقافى الذى يعتمل فى دواخله أثناء الكتابة، ولأنه لا معنى لاستنساخ الواقع فى عالم المسرح، كان من دواعى الإبداعية التى تضفى على النص المسرحى طابع التجديد والابتكار، أن يعمل الكاتب على تكثيف الواقع فى عالم مسرحى مُؤطَّر بالحدث، ومُسيَّس بشخوص تنطق بلسان واقعها، كما لو أنها ليست من بنات أفكار كاتبها، أو لنقل بأنها تنكتب بحرارة الحدث الذى تتأطر داخله. وتتحرك بِحُرقة مؤلفها الذى تسعفه مهارة الحكى على تفجير هذه الذوات التى انفردت فى لعب أدوارها، بمعزل عمّا يرويه الكاتب، فكان مقولها أقوى وهى تتحرك بإيقاعات درامية، تتوازى فيها قوة الكلمة بحرارة الحركة والفعل الذى يجسد واقعا عربيا مأزوما، ينقصه هذا الفعل المأمول، فى عالم صارت فيه الكلمات مُجرّد ظاهرة صوتية فارغة من أى معنى.
لقد انتقى الكاتب إبراهيم الحسينى شخصيات عمله الدرامى هذا، من واقعه المصريّ أولا، كما أنه جعل من هذا الواقع الصغير مسرحا لعالم عربى أكبر ثانيًا، فيه تتعاظم المآسى، ومنه تئن أصوات الرعايا، وعبره يتم التهجير والتفقير، ومن خلاله لم يعد يقوى المثقف على الكلام، بعدما وعى متأخرًا بلا جدوائية الأصوات، فى عالم ينقصه الفعل، فَفَكّر من خلال هذه المسرحية الجديدة أن ينقل هذه المعاناة إلى عالم الرّكح، وأراد لها أن تُعبّر عمّا يخالج دواخلها من أحاسيس ومشاعر مكبوتة، لكى تجد لها موطئ قدم فى مسرح يزاوج بين الكلمة والفعل، فى محاولة للبوح بالمخبوء فى اللا وعى العربى، وتفجيره مسرحيّا، بوتيرة إيقاعية فيها الكثير من الدينامية الحَيّة التى تُمارس فعلها الحيّ بكامل وعيها الشقى.
إن القارئ لهذا العمل المسرحى الذى يكتسى أهميته من أهمية المصادر المعرفية التى تؤطره، سَيتَنَبَّه إلى كونه عملًا له نسق معرفى يضفى عليه حظوة العلمية التى تجعل من الكاتب مؤلفا يؤسس نصوصه على خلفية معرفية رصينة تسم أعماله بالقيمة المضافة، هذه المصادر التى التفتت إلى التاريخ الإنسانى، والعربى على وجه التحديد، كما أنها نهلت من الذهنية العربية من خلال أنظمتها المتسلطة، ما يجعل المسرحية بأبعاد سياسية تُذَكّرنا بتسييس المسرح، أو بالمسرح السياسى لدى المسرحى السورى سعد الله ونوس، فثمة تقاطعات ملحوظة بين النَّفَس الدرامى لإبراهيم الحسينى ودراما الراحل ونوس فى هذه الزاوية تحديدا، كما نذكر على مستوى المصادر دائما، النَّفَس التراجيدى اليونانى من خلال تراجيديات كبار المسرح العالمى، ومن ناحية أنماط الشخصيات وأعمارها، يمكننا الوقوف على استحضار تفاوت الأجيال وتكاملها فى هذا العمل المسرحى، فالمرأة العجوز كدليل على الخبرة والتجربة الحياتية، والحكمة فى التعاطى مع الأمور، و الشباب كشخصيات متطلعة، من المفترض أن تتّسم بالتحديّ والحماس.
تَكمن قوة العمل المسرحى هذا فى كونه يتحرك بمنطوق الحكاية، وبمنطق التاريخ العربى والإنسانى المشترك، من خلال جملة من العبر، والرموز، والأيقونات، فحضور شخصيات بشكل عَرَضيّ على لسان الكاتب، عبر الإرشادات المسرحية مثل: صلاح الدين الأيوبى، أينشتاين، ابن سينا، أبو زيد الهلالى وغيرهم، دليل على خلفية معرفية تشكل ظلالا لهذا النص تستمد دلالاتها منها، وتصبح قناعا يريده الكاتب أن ينوب عنه فى إيصال رسائل مُشَفَّرة إلى المتلقى، ومن ثم فالمسرحية حُبلى بهذه الترميزات الدالة على أن الكاتب إبراهيم الحسينى كاتب شَغوف بالتاريخ، وقارئ ذكيّ لمأثوراته التى من شأنها أن تسم مسرحيته هذه بالفرادة والإبداع والأصالة أيضا، لأن التفاتة الحسينى لهذا التاريخ ليست نقلا حَرفيّا لدروسه وعبره، وإنما هى اشتغال إبداعيّ ذكيّ بنَفَس تجديديّ، ينتقى الرموز، ويلبس الأحداث لبوسا يتراوح بين ما هو تاريخيّ وما هو واقعيّ، واستشرافيّ أيضا، والكاتب بين هذا وذاك ينتهج أسلوبا خاصا فى الكتابة، من خلال المزج بين الواقعيّ والغرائبيّ، ولعل خير دليل على ذلك، التركيب المدهش الذى أراده لشخصيات مسرحيته، وكذا للسينوغرافيا التى أثّثت المشهد أو المشاهد الدرامية لهذا العمل، وهو ما يدفعنا للقول بأن الكاتب، استطاع بذهنية منفتحة على ما هو غير مألوف، غريب وعجيب، إلى تركيب عناصر متنافرة ومتعارضة، والجمع بينها داخل فضاء العرض، مما يدلّ على نهج إبداعيّ رمزيّ، يريده الكاتب أن يعمل على تفجير المعنى وتقوية دلالته، التى أضحت سمة تصاحب المسرح العربى فى صيرورته الإبداعية، فى مواكبته لمستجدات المسرح الغربى.
هذه العناصر المتنافرة مثل: الثلاجة غير المشغلة، المدفأة المعطلة، الجَوّالان، وغيرها، تنضاف إليها خلفيات الحكاية وجذورها التراثية الماتحة من التاريخ الأدبى والفنى الإنسانى، لكى نقول بأن المسرحية فعلا تُعدّ عملا فنيا راهنيّا باعتبار علائقه مع الحاضر من حيث التيمات المتحدث عنها (الفقر، العنوسة، سؤال الحرية، الاستبداد، الجوع، التسلط، الترهيب، البطش، الخيانة، اندحار القيم، القمع).. وأيضًا صلاتها بالماضى كتقاطعات مع أحداث تاريخية شهدها الإنسان ومازالت مستمرة فى التاريخ المعاصر، سيرا وراء المثل القائل «التاريخ يعيد نفسه»)
إذا كانت المسرحية مُركّبة من حيث الزمن، أو لِنَقُل بأنّ هذا الأخير هُلامى غير مُحدَّد، ولا يمكن القبض عليه بسهولة، مادام متشابكا وملتبسا، فإنّ المكان وإن دلّ على الأرض العربية فى الحاضر، فإنه يتقوى دلاليّا بنَفَس الماضى ويَتقنّع بقناعه أيضًا، للتعبير بشكل أقوى عن مستوى المآسى التى تصطرع بها الشخصيات المسرحية فى كتابة الحسينى، وحيث إنها كتابة منضبطة الإيقاع، ومنسجمة الأقوال والأفعال، فهى تبدو مُجسَّدة على خشبة المسرح، تتيح لنا كقراء أن نتمثّلها حيّة على الركح تضطلع بلعب أدوارها التى شيئت لها من طرف الكاتب، الذى يتملّص منها، لجعلها تتحدث بمنطوقها عن الحكاية، وتوصل مواجعها وأمانيها للقارئ بكيفية مستقلة، وهنا تتجلى فطنة الكاتب الذى نستشعر معه بهذه الدقة فى التصوير، وفى نحت شخصياته وجعلها تُفجّر مكنوناتها بتلقائية صادقة، تسعفنا على تَلَقُّف مدلولاتها بسلاسة.
لقد قسّم الكاتب إبراهيم الحسينى مسرحيته هذه إلى ثلاثة أجزاء عنونها اتباعًا بـ: القناع، الانتظار، والحجارة، وهى حالات مسرحية متكاملة من حيث البنية الدرامية رغم تفاوت عناوينها، وبفهم كل جزء على حدة يتبين لنا أن هذه العناوين تتدرّج مدلولاتها بشكل تصاعديّ يفى بالمضمون الذى أراده الكاتب لهذه المسرحية، كما أنّ اتّساق الأجزاء الثلاثة يضفى على بنائها الدرامى بعدًا منطقيًا، بحيث تستتبع أسباب وقوع الأحداث بنتائج مناسبة، رغم ما يكتنف هذه الأحداث من غرائبية تتمازج مع ما هو واقعى، كما قلنا سابقًا.
الثيمات والقضايا التى تناولها النص الدرامى:
يبدو أن النص الدرامى يروم مناقشة موضوعات قديمة/ جديدة، فقمع الحريات الفردية، والتجويع والتفقير، وبَثّ العداء بين الأخوة، أو سياسة فرّق تَسد، من الموضوعات التى اشتغل عليها المسرح العربى والعالمى سابقا، وهو ما نُمثل له من خلال الإهانة والإذلال والضّرب الذى يتعرّض له الأخ الأكبر فى الجزء الثانى من النص، من طرف « المتسلط» أمام أعين الأخ الأصغر» )الصفحة(14، لكن هذه القضايا تعود إلى الوجود مادام الفاعل فيها هو الإنسان، وأهواؤه المتضاربة التى تقوده إلى جعل المصلحة الشخصية فوق كل المصالح، ومن ثمة فهى موضوعات لا تتقادم بقدر ما تتمظهر بتمظهرات جديدة وفق ما يتطلبه الزمن ومتغيراته.
وما يلاحظ القارئ لهذا النص، كونه لا يقتصر من حيث الكتابة على صياغة الكلمات التى غالبا ما تجعل من النصوص المسرحية مجرّد نصوص أدبية للقراءة فحسب، بل يستنتج أن الكاتب عنى بالمنجز الأدائى للشخصيات، فكان اهتمامه بالكلمة على قدر اهتمامه بالفعل والحركة والأداء، مشتغلا بكيفية فيها تَمَرّس وخبرة على جزئيات التجسيد الحركيّ لهذه الشخصيات، بمعنى أن النص المسرحى مُعدّ مسبقا للعرض أمام الجمهور، رغم ما يكتنفه من تصوير يزاوج بين الواقعيّ والعجائبيّ، أو بين الحقيقة والخيال.
والدليل على هذا القول، تعزيز الكاتب للنص بعدد لا يستهان به من الإرشادات التى تصوّر الشخوص فى الحالات المتعددة، حتى تبدو فى كامل صُوَرها الإنسانية التى تطفح بالدرامية، ممهورة بحيويّة السينوغرافيا، حيث تتكامل عناصرها، وتتبلور أبعادها لإنتاج المعنى المطلوب.
ومن الاستنتاجات التى لا يمكن إلا أن نُنَوّه بها فى هذا النص، أنّ الكاتب فى غمرة انشغاله بهذه العناصر والمكوّنات كلمة وفعلا، سكونا وحركة، فى تفاعلها مع مُكمّلات العرض المسرحى، استطاع أن يجعل من الحكاية المستخلصة من التاريخ، ومن التراث الإنسانى فى عمومه، خيطا ناظما يتناغم مع هذا الكلّ الفنيّ، جاعلا من النص المسرحى سبيكة أدبية وفنية يرتهن فيها العرض، كما النص الدراميّ فى آن واحد، بمعنى أن هذا النص المسرحيّ تَوفّق صاحبه فى تطويعه لتفجير الكلمة عبر الفعل الأدائيّ للشخوص، فى فضاء دراميّ ملائم تتبدّى فيه الحالات الإنسانية المتعددة، بطريقة تجعلنا نقرأ المسرحية ونتخيل بُعدها الفرجوى، استنادا إلى كلّ هذه المُكونات والعناصر التى تتناسق وتنسجم مع بعضها البعض خدمة للعرض المسرحيّ، فما النص إلا تَعلّة له، وتمهيدا لِفِعله الأدائيّ، وهنا تبرز حنكة الكاتب، وخبرته فى الكتابة، وفى صياغة استراتيجية الإبداع المسرحيّ المأمول.
أولا- القناع:
عنوان أراده الكاتب للجزء الأول من هذه المسرحية قيد الدراسة، وهو عنوان مُبطن لدلالات مرتبطة بالفن الدراميّ نفسه، رغم ما قد يستولده النص عبر هذا المفهوم من دلالات لإفادة معانى جديدة، متّصلة بسياق النص وظروف كتابته.
فالقناع الذى تتّخذه شخصيات المسرحية وهى تتفاعل مع بعضها البعض، يكون صِنوا للتمثيل أو الدور المنوط بكلّ واحد منّا على مسرح الحياة والواقع، وكأنّى بالكاتب يستلهم هذه الرّؤية من الفكر الشيكسبيريّ، من خلال قوله: ما الحياة إلا مسرح كبير، وما البشر جميعا نساء ورجالا سوى لاعبين يعرفون متى يدخلون ومتى يخرجون، وكل إنسان يلعب فى وقته المخصص أدوارًا عدة.
وقد يتبدّى هذا القناع من خلال بُعدين متناقضين، فالأدوار التى يلعبها كلّ واحد منّا فى الحياة، إما أنها تلقائية وبشكل عفوى صادق، وإما تكون تمثيلًا قصديًا ينزع إلى الزّيف والنفاق، الذى يفتعل صاحبه سلوكًا أو مشاعر أو تعاملًا يريد به الإيقاع بالطرف الآخر.
لكن القناع الذى قصد الكاتب هنا توظيفه، هو النوع الثانى الذى يستهدف صاحبه تحقيق مصالح شخصية معينة، ولو استدعاه الأمر إلى الإضرار بالطرف الآخر، ومن ثمة تصبح الشخصية أو الشخصيات المُقنّعة داخل المسرحية تَتلبّس بلبوس متعدد وفق الحالات والظروف وتَبدّل المصالح، وهو ما نلاحظه من خلال شخصيات رئيسة فى هذا النص: المتسلط، الأمير وابنه، الأخ الأصغر، المرأة العجوز، الفتاة الراقصة، وغيرها من الشخصيات.
وبالعودة إلى بداية النص، يحاول الكاتب الحسينى أن يقحم القارئ فى أجواء المسرحية، كما لو أنها عرض يُنجَز أمامه، وذلك لما يوليه من عناية بمختلف مكونات الكتابة المتكاملة، أو ما يطلق عليه بالكتابة الرّكحية، وكأنى بالكاتب لا يقف عند حدود النص الدرامى، بل يعمل على محاولة إخراجه، فمن حيث الديكور نراه يبسط عناصره بكيفية جدّ دقيقة مراعيا جزئياته وأدقّ تفاصيله، وربما تدخل هذه العملية فى صميم استراتيجية الكتابة لدى هذا الكاتب، فهو لا يقف عند بيان الحوارات التى نصادفها فى أغلب النصوص المسرحية، ولكنه يسعى إلى الموازنة بينها وبين باقى المكونات الأخرى التى لا تقلّ أهمية، بل التى تُمكّن النص من العبور المنطقى/ المتدرّج إلى عالم الركح، وبالتالى إلى ذهنية المتلقى بكيفية مُقنعة وسَلسَة. ويبدو أن شخصية المتسلط فى الجزء الأول ستكون الأكثر حظوة لأنها تقود الأحداث، وتُسطّر لمجرياتها، بل تتحكّم فى مصيرها كما فى مصائر الشخصيات التى تلعب إلى جانبها.
يقودنا الديكور المحبوك بعناية إلى ولوج عوالم النص رغم ما يكتنفه من ترميز، فالفضاء الدراميّ مزدوج يتراوح بين الصحراء والقرية الصغيرة، ولاشك أنهما فضاءان أُريد لهما أن يكونا متناقضين، فالصحراء جغرافيا دالّة على الاغتراب والضياع، بعيدا عن أسباب وشروط العيش والحياة، بينما القرية تظل حيّزا جغرافيّا معبّرا على الاستقرار والأمن والسلام، ومن حيث الشخصيات فالمرأة العجوز التى تقبع فى القرية تحرص على أن تظلّ مَوئلا لهذا الاستقرار، فهى تحميه من الضياع، عن طريق الدعاء، والصلاة، وترقب أبنائها الغابرين.
الجائع والجوعى يرمزون إلى شرائح بشرية تَمكّن منها الجوع، وصارت ضحية وجب تقديم المساعدة إليها، وتجويعها إنما يكون من طرف المتسلط الذى يتحكم فى مصيرها، فهى لا تجد رغيفًا نقيًا، ولا أكلًا صالحًا، وإنما لم تعثر إلا على بقايا تفاحة مقضومة، فى حين نجد المتسلط يحتكر التفاح ويسلب غيره منه.كدليل على التحكم فى خيرات القرية، ومواردها الطبيعية، ومصادرة حقوق الآخرين.
ثمة جثتان معلقتان، كدليل على أنّهما ماتتا من شدة التجويع والتفقير المُسلّط عليهما من طرف المتسلط، وعُلقتا فوق الحبل، حتى تكونا عبرة لغيرهما ممن يطالبون بالخبز، أو الرغيف، أو ما يسدّ الرّمق، دفعا لكل تجاوز للأسياد، وثمة بالموازاة أيضا أشجار تقف عليها عصافير تزقزق كدليل على الرغبة فى الانعتاق والتحرّر، ضدًّا على سلوكات المتسلط، هذه العصافير التى لها حضور مكثّف فى النص، وكأنى بها ترمز إلى شخصيات تفعل وتحرّك الأحداث، بمعنى أن الكاتب أضفى عليها صبغة آدمية، كرمز للتحريض على الحرية والمطالبة بالحقوق.
لا شك أن الكاتب استعمل عددا من الرموز فى هذا النص، وهى وإن كانت مؤثثة لسينوغرافيا العرض، فهى ذات حضور أساس، تتجاوز طبيعتها كمواد جامدة، لكى تصير فى بينة الكتابة الحسينية كائنات أو قوى فاعلة تعمل على تفجير المعنى، وضمان الانسجام القائم بين عناصر السينوغرافيا وشخصيات المسرحية، خدمة للقراءة الدرامية من جهة، وأيضا تصويرا مقنعا لقراءة التلقى أثناء العرض.
ثانيًا-الانتظار:
عنوان الجزء الثانى من هذه المسرحية، التى عَمد كاتبها إلى تجاوز التسميات التقليدية المُتعارف عليها، كالفصل، والمشهد، والنَّفَس، وغيرها، وتعويضها بالجزء، وهو تَوجّه إبداعيّ يرمى إلى المغايرة، وإلى تحريك رغبة القارئ واستفزاز فضوله لِحَمله على قراءة المسرحية، كما أن الكاتب فضلًا عن ذلك، اشتغل بأسلوب التمثيل داخل التمثيل إمكانية أن يلعب الممثل أكثر من دور واحد فى المسرحية، المرأة العجوز التى تعود فى الجزء الثانى إلى شبابها، وأيضا التداخل الذى يحصل بين أحداث المسرحية وخاصة فى الجزء الثاني: (بينما نجد الأخ الأصغر فى حواره مع الغجرى، ينقلنا الكاتب إلى حدث آخر أثناء دخول الرجال الأربعة للحديث عن حكاية جحا)، وكسر إيهام التلقى إشراك الجمهور فى العمل المسرحى، مثل دخول المتفرج وانتقاده للممثلين:
المتفرج صارخًا: ما الذى يحدث، أجئنا نتفرج عليكم أم لتتفرجوا علينا؟! الصفحة 5، كما وظف الكاتب لعبة الأقنعة: كل متفرج يعطى قناعًا للعب دور ما وغيرها من الأساليب التقنية التى قطعت مع التنظير الأرسطى، الذى يقف عند الأسس الصارمة للبناء الدرامى التقليدى، كما أثبتها فى كتابه «فن الشعر»ـ لكن ليس معنى هذه التقنيات أنها عرقلت مسار الفكرة المتوخاة من طرف الكاتب، بل على العكس من ذلك، كانت عاملا مساعدا على تفجير المعنى بشكل ذكى، يستدعى متلقيا فطنا يعمل على القراءة الفاعلة، والتأويل المُنتج لإيقاعات هذا النص الدرامى.
والانتظار فى النص، معناه تَرَقُّب مستجدات الأحداث والمجريات، وهى عملية نفسية وذهنية تُمنّى النفس البشرية بالأفضل، ومتّصلة اتّصالا وثيقا بعامل الزمن، لأنّ هذه العملية إما أن تطول، أو العكس، والانتظار المقصود هو محاولة تغيير الواقع الذى قد تعرفه شخصيات المسرحية وانعتاقها من القيود التى يُكبلّها بها المتسلط، الذى يدلّ اسمه عليه، باعتباره هو المتحكّم فى المصائر، والذى يمكنه أن يمثل للقارئ كل شخصية قياديّة متجبّرة، فى مختلف المجالات، وبتعدّد الأمكنة والأحياز العربية.
ثمة موضوعات عديدة فى هذا الجزء منها: التسلط، والاستبداد، والاستعباد الذى يمارسه ذوو السلطة على الرعايا، هذه الممارسات صارت هاجسا حقيقيّا يسكن دواخل هؤلاء، ما يجعلهم خاضعين بشكل تلقائيّ لما هو كائن وما هو ممكن أيضا، فمثلا ما تنقله لنا شخصية الأخ الأصغر فى حوارها مع الغجرى:
الغجري: أحمال الكتب؟!
الأصغر: نعم.. كتب، وأدوات اختبار، وأشياء أخرى لا أعرفها أتى بها الأمير لِابْنه من بلاد بَرّه الغجري: وكيف تنقل أشياء لا تعرفها؟!
الأصغر: وبماذا تفيدنى معرفتها؟ الأمير وابنه إذا طلبا لُبّى طلبهما).. يلتفت حوله( فَابْن الأمير هذا بمفرده له نصف البلد).. الصفحة (15
الغجريّ: لكنى لا أرى معك حمارا أو عربة ليساعداك فى النقل
الأصغر: لا.. معى حمار الغجريّ: (مندهشا) أين؟!
الأصغر: هذا هو (يشير لأخيه) لصفحة 16
علاوة على ذلك، نجد فى النص ما يوحى بتخدير الشعب من خلال الموسيقى والمجون:
المتسلط: مزيدا من الرّقص.. أُحبّ المجون والخلاعة.. والبلادة أيضًا، طالما أراها على وجوه غيرى (الصفحة 16).
ثالثًا وأخيرًا: الحجارة:
لهذا الجزء الأخير من مسرحية «وشم العصافير» دلالة نقدية تُعبّر عن صوت المؤلف إبراهيم الحسينى، وهى دلالة توهمنا كقرّاء بنوع من التحوّل الذى قد تعرفه أحداث المسرحية، بحيث من المُفترض أن يتمرّد هؤلاء الجوعى، والمقهورين، ومن معهم من أهل القرية على الأوضاع المخزيّة التى يسبّبها لهم «المتسلط»، ومن والاه فى جبروته كالأمير، وابنه، لكن مع قراءتنا لهذا الجزء يتمّ تخييب أفق توقّعنا، لأنّ الأوضاع السّلبيّة للقرية ظلّت كما هى، رغم بعض المحاولات اليائسة، أو الخجولة التى لم تتمكّن من تغيير الحال، ولعلّنا نذكر على سبيل المثال، شخصية الغجرى، التى استنكرت ما أقدم عليه الأخ الأصغر من استسلام وخضوع لإملاءات المتسلط وحرسه، عندما قَبِل ببيع أخيه الأكبر، وتسليمه للعدوّ (المتسلط)، وفى هذا الجزء أيضًا نلاحظ تقنيات جديدة اشتغل عليها المؤلف، بحيث تضافرت لإنتاج المعنى المتوخّى من النص، من خلال توظيف تقنيات التقطيع السينمائى، وخيال الظّل عبر شخصية الأراجوز، وتداخل الأصوات، أو الشخصيات فى المشهد الواحد، وغيرها من التقنيات التى عمّقت الرّؤية الفنية والجماليّة لهذا النص.
ولعلّ هذا الأسلوب الذى انتهجه الحسينى يدلّ على كونه أراد لنصه الدرامى أن يعرف طريقه إلى الرّكح، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، بحيث نتمثّل النص كما لو أنه عرض مسرحيّ متكامل العناصر الفنية والجمالية، وهو ما يسم هذا النص بالفرادة والأصالة أيضا.
إن اشتغال الكاتب على تيمات النص المتعددة، ومن خلال هذا الجزء تحديدا، أسهمت فى بلورتها تقنية أعُدّها محوريّة، وهى المتعلقة بـ«الأقنعة» ذلك أن تعدّد الأدوار، واللّعب بالأقنعة، كفنّيات تخدم أسلوبا مسرحيّا احتفاليا نَظّر له العديد من المسرحيين العرب، ومن أهمّهم الدكتور عبدالكريم برشيد، فيه إشارة إلى اهتمام الكاتب بالخصوصيّة المسرحية العربية، والاعتراف بما يحمله تراثنا العربى فى رحمه من ظواهر فرجوية عريقة، كخيال الظّل مثلًا، وغيرها، جعلنا كقرّاء نتابع المسرحية بما هى أجزاء متسلسلة، فيها حركيّة وتشويق، وإبهار، وحثّ على المساءلة، واختبار لذهنيّة المتلقى، وجعله مشدودًا إلى أحداثها، كما لو أنها أحداث واقعيّة، وليست إيهامية، وهنا مَكْمن ذكاء الكاتب، الذى خبر انطلاقًا من مِراسه فى الكتابة، الاشتغال الذكى على هذه التقنيات، وجعلها تصبّ فى صميم المعنى العام، أو الرسالة المقصودة من النص.
إن دلالة عنوان هذا الجزء الثالث، كانت قُوّتها فى آخر أنفاس النص المسرحيّ، وهى أتت كردّ فعل مضادّ على التخاذل، والخضوع، والاستسلام، والهوان الذى أصاب شخصيات المسرحية، فى مواجهتها للمتسلط وأعوانه، بحيث لم يكن هذا الرّد من شخصيات مألوفة عاشت هذا الضّعف، ولكن كان من العصافير التى نابت عن أهل القرية فى الدفاع الرّمزيّ عن الظلم والقهر وكل أشكال التفقير والتجويع، والاستعباد، فكأنّى بالكاتب إبراهيم الحسينى عمد إلى تجريد شخصياته من كلّ قوّة، وتضامن، والتحام من شأنه إجلاء العدوّ، وَوَسْمها بالضعف والاستسلام، وهو ما جعلها متخاذلة، وقد تكون عاملا مساعدا على تكريس الوضع القائم، والرضى بالسياسة الديكتاتورية للمتسلط وأعوانه، فكان المصير هو الرّجم، والقصف الذى طال القرية وأهلها من طرف العصافير، كشخصيات درامية رمزية ذات حضور آدمى فعّال فى أحداث هذا النص المسرحى.
فلِتغيير الوضع بحسب النص، كان من الأنسب انتهاج سياسة الهدم وإعادة البناء مجدّدا، إذ يمكن القول بأنّ الكاتب إبراهيم الحسينى، أنهى مسرحيته بنَفَس سلبيّ، وبنوع من التشاؤم، لأنه لم يُمَكّن شخصياته من شرف التحوّل الذى يَقلِب الأوضاع، وينتقم للشّرف والكرامة والحرّية، وكلّ العبارات الدالة على الحياة.
يعمل المسرحى المصرى إبراهيم حسينى من خلال هذا النص الدرامى على خلخلة ثوابت الكتابة المسرحية عبر جملة من المتغيرات التى تأتى فى سياق استراتيجية الكتابة لدى هذا الكاتب، من قبيل استلهام النّفس المسرحى اليونانى حيث يحضر الإبداع الرائد لفحول المسرح الأوائل، وذلك عندما يثير فينا كقُرّاء مشاعر متضاربة بين الخوف والشفقة أثناء معاناة شخصيات فُرض عليها القمع والتسلط والتفقير): مثل شخصيات الأصغر، الجائع( وفى المقابل ثمة محاولة تحويل لهذا المنحى عندما تتبدى لنا كقراء إمكانية أن يلتئم هؤلاء المغلوبين على وحدة الكلمة، من أجل مواجهة العدو الواحد، لكن هذا المنحى التَّحَوّليّ لم يكتمل فى غياب الإصرار، ورفض الخوف، والتجرد من شبح التعذيب، وهو ما نحا بالكاتب إلى تصوير نصه الدرامى بِنقدٍ فيه الكثير من الرمزية التى غَيّبت شروط الحياة الكريمة، وأفقدت الأمل فى المواجهة، وجعلت الشخصيات فى موقف الضعف والهوان.
ومن الملاحظ أن الكاتب إبراهيم الحسينى، وهو القارئ للفعل المسرحى فى تعدده، استطاع تكييف نصه الدراميّ هذا مع المعطى الثقافى/الحضارى للفعل المسرحى العربيّ، لجعله سيرورة مسرحية تتأثر وتؤثر فى هذا الفعل، وباعتبار أن هويّة المسرح العربى، تستدعى من صاحبها التفكير الجدّى فى منح الحياة المسرحية العربية حيويّتها المأمولة، خاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار تلك الأسئلة التى رافقت تاريخ هذا المسرح وبعده الهويّاتيّ، حيث أثيرت أسئلة عديدة حول الفعل الأنطولوجى للمسرح العربى من عدمه، ومن ثمة، فالكاتب فى ظلّ كلّ هذه المعطيات الموضوعية استطاع أن يبدع عملا مسرحيّا يتنفّس بأوكسيجين هذه الأسئلة فى محاولة منه للإجابة عن بعضها، والدفع بالفعل المسرحيّ إلى عوالم جديدة، تخترق الكائن لصناعة أبعاد ممكنة التّحقق، بإمكانية الثقافة الموسوعيّة للمؤلفين المسرحيين العرب، ومن ضمنهم الكاتب إبراهيم الحسينى.
- ويمكن رصد الاستنتاجات التالية لدعم هذه الرؤية النقدية:
استلهام النّفَس التراجيدى بإضفاء البعد المأساوى على النص المسرحى (إثارة مشاعر الخوف والشفقة فى نفس القارئ)
-1 الاشتغال الذّكى على مُكوّنات الفضاء الدرامى، وجعله فى خدمة الأدائيّة المسرحية للشخصيات (تصوير دقيق لمؤثثات الديكور، وكأنى بالكاتب يتهيأ إلى إنجازه على الركح).
-2 تفعيل حَيويّة عناصر السينوغرافيا لتمكينها من الاتّساق المطلوب مع الشخصيات، خدمة لبلاغة العرض المسرحى المرتقب (العصافير الكائنة على شجرة التفاح، الكرباج الذى يعذب به المتسلط الجوعى والأخ الأكبر).
-3 تكثيف مكونات السينوغرافيا وأَنْسنة بعضها لتطويع وظيفتها، وتفجير كمون النص وامتداداته الدلالية (العصافير المترقبة فى الجزء الأول، الجثتان المعلقتان بالحبل).
-4 تعويض التّسميات التقليدية بأسماء مغايرة، لتقطيع النص والتمييز بين فقراته (الجزء الأول، الثانى، والثالث).
-5 استحضار التاريخ والتراث العربى والغربى عبر شخصيات ذات بُعد بطوليّ وفاعل فى الذهنية العربية المشتركة (إنشتاين، الأيوبى، أبوزيد الهلالى، جحا).
-6 تسييس النص الدرامى، واستلهام امتداداته فى المسرح العربى من خلال تجربة سعد الله ونوس عبر النقد السياسوى للأنظمة العربية، مثال (خضوع شخصيات القرية لأوامر المتسلط ومنهم شخصية الجائع الذى أُرغم على أكل الذراع الآدمية التى بداخل الثلاجة، وكذا تقديم الولاء وإظهار الرضى لابن الأمير المحتفى به).. وهنا يتقاطع المشهد مع مسرحية الفيل يا ملك الزمان للسورى سعد الله ونوس.
-7 تقنية الاستدعاء «الفلاش باغ» تداخل أحداث من الماضى مع أحداث من الحاضر استدعاء الأخ الأصغر فى حواره مع الغجرى لما حصل لأبيه الذى عُلّقت جثته على حبل القرية:
المرأة العجوز لزوجها: أُصلب عودك ولا تزعج الأولاد.. لا تخافوا يا أحبّائى انهض وخُذْ وضُمّ أولادك لصدرك، فغدا يأخذون ثأرك إظلام صوت طلق نارى.. صرخات عصافير.. بؤرة ضوئية حمراء على الجثتين المعلقتين على الحبل.. وعودة إلى مشهد الأخوين (الصفحة 15).
-8 استثمار تقنيات جديدة وأخرى تراثية فى بناء السينوغرافيا: التقطيع السينمائى، خيال الظل وشخصية الأراجوز.
بالجملة يمكن القول إن كل هذه الاستنتاجات التى تَوصّلنا إليها من خلال دراسة النص المسرحى «وشم العصافير»، تدخل فى صميم استراتيجية الكتابة لدى إبراهيم الحسينيّ، إيمانا منه بأن الكتابة للمسرح العربى تستدعى الإلمام بالنّسق الثقافيّ العربيّ من جهة، والكونى من جهة أخرى، وذلك لكى يمنح لهذه الكتابة إضافة نوعيّة فى إنتاج معنى النص المسرحيّ الجديد، القادر على الإجابة على بعض تلك الأسئلة المؤرقة التى أسالت كثيرًا من المداد وهى تسائل الثقافة العربية، والفعل الوجودى لفن المسرح فى رحم هذه الثقافة، وما أثير حول هذه الأسئلة من نقد ونقد مضاد.
- للإشارة اعتمدت من حيث الإحالات على نص مسرحية وشم العصافير بصيغة بى دى إف.