فى ذكرى رحيله.. إدوارد أولبي .. المسرح من منظور سياسي

 فى  ذكرى رحيله..  إدوارد أولبي .. المسرح من منظور سياسي

العدد 526 صدر بتاريخ 25سبتمبر2017

 قدم لنا المسرح الأمريكي الكثير من القامات صاحبة الأعمال ذات القيمة الفنية الثرية التي نستطيع قرائتها والاستمتاع بها حتى وإن مر عليها سنوات, وفي هذه الأيام ذكرى إدوارد أولبي - هكذا ينطقون أسمه في بلاده-  الذي يعد من أهم مؤلفي المسرح الأمريكي في القرن العشرين, ومن أبرز مُعَاصريه. فقد حازَ على جائزة “بوليتزر-Pulitzer”  ثلاث مرات, كما حاز ثلاث مرات على جائزة “ توني Tony- Award  “.
وقد تحدث الكثير من النقاد الأوروبين عن أولبي وأسلوبه المسرحي الذي حمل الكثير من التأويلات, والجدير بالذكر ماقاله الناقد “ Stephen Bottoms “ في كتابه  (The Cambridge Companion to Edward Albee )  أن أولبي كان نموذجًا للكاتب الغاضب الثائر, كما أنه وصف شخصيات مؤلفاته بأنها تعكس تمرده” , فإذا ربطنا هذه الكلمات بنشأة أولبي سنجده ولد في واشنطن عام 1928، لإمرأة تدعى (لويز هارفي)، وكان والده لم يكن معروفاً ثم تبنته بعد ولادته بأسبوعين إحدى العائلات, وعَاش حياة مُتمردة في منزل “ريد وفرانسيس” تلك العائلة مُفرطة الثْراء التي تَبنته وأحْبته وأحاطته بالخدم, والمُربيات, والمُعلمين لكنه كان طفل عنيدًا, ودائمًا طريد مدرسة بعد الأخرى؛ وفي هذا المنزل توجه إلى دراسة الفن, ومارس تمرده على العادات والتقاليد في حياته الخاصة  قبل أن يُمارسها في كتاباته المسرحية حتى قال: “إننا جميعًا نهرب من بِيُوتِنَا, والفرق إِنني فعلتها حرفيًا”,  فنجده مُنذ التاسعة عشر من عمرهِ وهو مُنفصل عن أهلهِ حاملاً كتبه, وأسطواناته إلى قرية “جرينتش-Greenwich”   ينتقل من وظيفة إلى أخرى, وسَاعده ذلك في تكوين شخصية مُتميزة تتفقد أحوال المجتمع وتفاصيله, وفي ضوء هذا السياق قالت (جان جيو) الباحثة الاجتماعية: أن الكاتب المنعزل يبدع دائمًا فنًا منحطًا, فأستنادًا لهذا الرأي نجد أن اجتماعية آلبي تدل على إبداعه الفني.
 حينما بلغَ أولبي الثلاثين من عمرهِ تطورت مؤلفاته, ونجد أن دراسة المنطق السوسيولوجي أكدت على تأثر المؤلف بأحداث حياته,  بمعنى أن الكاتب إذا عَاش حياة مليئة بالتمرد والمغامرات فلابد أن يتأثر بها وبالسِّياق الاجتماعي والسياسي الذي عاصره أثناء إنشائه للعمل الفني.  ولم تتوقف مسيرة آلبي إلى هذا الحد بل زادت تألقًا في السِّتينات في ظل سِياق سِياسي, وثقافي مُثير للجدل فيما يخص الولايات المتحدة  بالحرب الباردة الثقافية, والترويج عن النموذج الأمريكي الأمثل. ومن هذا الأساس جاء جدلا على تصنيف مسرح أولبي, فذُكر دكتور عبد الرحمن  دويب عن ما يخص مسرحه  في كتابه (دراسات نقدية في الدراما المسرحية)؛ “قد  [رأى] .. النقَّاد أنه كاتب مسرحي ينتمي إلى كُتَّاب “المسرح العبثي”  ؛ ولكنه رفض ذلك بشدة؛ لأنه يكره النمطية أو وضع نفسه في قالب وإنما لأنه لم يسمع مطلقًا على ذلك النمط  سوى في مسارح المدينة ببردواي, ويزيد آلبي في هذا المعنى بقوله: مسرح العبث فن مندمج لنوع من الوجودية, وهى أيضًا وجودية نمطية لنواح من الفلسفة أساسًا عندما يشرع الإنسان في محاولة خلق معنى لنفسه من داخل وجودي اللامعنى في هذا العالم الذي لا يدل على معنى, ومزيدًا للمعرفة فإن المسرح العصري أكثر إمتاعًا؛ لأنه يتحرك بحرية وبدون أي قيود نمطية, خال تمامًا من النمطية, ليست له معالم واضحة, إنه منطلق بجنون, جنون ممتع” , وفي ضوء هذا نذكر شغف أولبي لاستخدام الحرية في الكتابة, والذي يُعْدُ ذلك أكثر إمتاعًا للمسرح المُعاصر, حتى أصبح لأولبي أسلوب ذات مذَاق خاص, ومُختلف عن كُتاب عصره, فإذا نظرنا لأسلوبه بشكل مختلف عبر استخدام المناهج النقدية, سوف نجد لتقنياته  تعبيرًا رمزيا عن أراء سياسية وأحوال اجتماعية تخص مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية.  بينما جاءت في تصريحاته عدم إنتماءه لمسرح للعبث إلا أن مسرحه لا يخلو من بعض التقنيات الفنية العبثية التى بتحليلها نجد لها مدلولًا اجتماعيًا, وسياسيًا أيضا,  وقال أولبي يومًا واصفًا مسرحه: “إذا تم تصنِيف روايات آرثر ميللرإلى اجتماعية, ومؤلفات يوجين أونيل إلى نفسية فإن كل رواياتي تُصنف سِياسية”.
ولا نستطيع أيضًا أن نتجاهل تأثرأولبي بمحاولات الأوربيين الأخيرة في المسرح, وبخاصة سارتر وكامي ثم بيكت ويونيسكو من بعد وللآخرين تأثير كبير عليه, سواء في الشكل المنطلق من قيود المسرح التقليدي, أو في المضمون العبثي الذي يسخر من كل شيء .
 وفي عام 1959م  استهل أولبي حياته المسرحية حين عُرضت في برلين مسرحيته “ قصة حديقة الحيوان” بعد أن طلق نظم الشعر بناء على نصيحة ثورنتو وايلدر الشاعر والمسرحي المعروف. وقدمت تلك المسرحية للمرة الأولى باللغة الألمانية في برلين الغربية عام 1959، ثم أنتجت بعد ستة أشهر في الولايات المتحدة الأمريكية “ , وفي هذه الفترة كانت تتمتع ألمانيا الغربية بالحرية؛ وأن وصاية الدولة أمر مرفوض,  بينما كانت تعاني ألمانيا الشرقية من فرض وصايا الدولة عليها, لذلك نلاحظ أن ممارسة الفنون كان بشكل أكبر في ألمانيا الغربية. ومن خلال آليات المنهج الاجتماعي نستطيع تآويل دلالة عرض هذا النص بتلك المكان؛ حيث تُعدُّ هنا ألمانيا الغربية تابعة للإتحاد السوفيتي التي ترى فيه الولايات المتحدة أنه عدوها اللدود, لذلك يعد عرض هذه المسرحية  في دولة مثل ألمانيا الغربية له علاقة بالحرب الباردة الثقافية.و من هذا الفعل يممكنا توويل أن هناك تفسير سياسي يتم على مستوى البنية العميقة في هذا النص, حيث قام بنقل صورة للمجتمع الأمريكي وسلبياته, بما أن تم عرضه لأول مرة في دولة تهاجم  أفكار الولايات المتحدة الأمريكية, ومتستخدمة الفنون كسلاح في هذه الحرب.  
 وتدور حبكة هذا النص حول شخصين يتحاوران في حديقة بمنتزه عامة, ثم ينتهي بهم الأمر إلى صراع أحدهم على المقعد الخاص بالآخر, وبعد أن يشتد الصراع بينهما يقوم أحدهم بقتل نفسه بالسكين معبرًا عن عدم قدرته على التواصل الإنساني مع الشخص الآخر.
وجاءت  تقنيات أولبي في هذا النص معتمدة على السرد ووصف حالة كل شخصية, و التي يمكن تفسيرها بشكل رمزي معبرا عن أحوال الولايات المتحدة أثناء فترة الحرب الباردة الثقافية , مثلا في اختلاف الطبقات وصراعها داخل المجتمع التي ظهرت في علاقة جيري و بيتر ووصف أماكن العيش لكل منها والتي تبرز المفارقات الطبيقية لهذا المجتمع, والتي تصل بنا إلى رصد وتأثير الرأسمالية على المواطن الأمريكي.  
كان  هذا النص  يمكن أن يصبح فيه كل شيء نمطيًا، لولا أن أولبي أراد نحت شكل آخر للمجتمع الأمريكي عبر استخدام تقنياته المنفردة في نوعها من خلال يوم عطلة رتيب  في مدينة نيويورك من خمسينيات القرن الماضي بواسطة حوار بين شخصيّتَي (جيري وبيتر) حيث كانت قصة حديقة الحيوان حالة نادرة لايوجد فيها شيء غير واضح, وعثر فيها أولبي على أسلوبه الدرامي الخاص الذي كان سهل ومثير للإعجاب, وأكدت مسرحيات مابعد قصة حديقة الحيوان على ذلك, فبالرغم من وضوح المسرحية إلا أن استطاع آلبي أن يتخلل فيها الرموز السياسية بشكل غير مباشر, وكل هذا يمكننا أن ننظر إلى مسرحه برؤية مغايرة مختلفة عن ماهو سائد,  فإذا نظرنا لعنوان النص يمكن أن يدل بشكل رمزي على أن كيان ونظام حديقة الحيوان هو رمزًا لكيان الولايات المتحدة بتلك الحقبة, وأن الترويج عن النموذج الأمريكي الأمثل ماهو إلا شكلًا زائفًا, حيث استطاعت السلطة الرأسمالية أن تسلب الإنسان الأمريكي حتى يصبح كائن معزولًا لايدري بما يحدث حوله وكل مايسعى إليه هو الحصول على المال وحصر جميع احتياجاته بواسطة المال, وهذا ما تريده السلطة, ويظهر ذلك بشكل أوضح في نصه “ من يخاف فرجينيا وولف” الذي دفعه إلى الشكل المطول ذي الثلاثة فصول, فأغلب الظن أنه أحسّ بأنه مسجون داخل المسرحية القصيرة, وأن حبه للتجريب لا يمنع المغامرة فكتب هذا النص عام 1962 . الذي جرب فيه لأول مرة طريقة المسرحية المطولة وأصبح بواسطته من رواد الحركة التجديدية في نيويورك ولندن.
 وتدور أحداث النص داخل منزل بالمدينة الجامعية التابعة لكلية صغيرة في نيوانجلند, ويسكن هذا المنزل زوجين (مارثا وجورج) يعملان أسَاتذة بجامعة والد مارثا, لكن تبدو العلاقة بينهم غير مستقرة فدائمًا في تشاجر مستمر, ومن خلال سياق النص نعرف أنه ذات ليلة قضاها الزوجين في حفلة بمنزل والد مارثا, ثم عادوا إلى منزلهم منتظرين ضيفان (نك وهنى) وهما متزوجان أيضًا, لكنهم أصغرمنهما سنًا, وعلاقتهما أكثر استقرارًا وأحترامًا من جورج ومارثا, وتبدأ أحداث النص, وصراعاته في ليلة واحدة يقضيها الأربع أشخاص معًا في مناقشات لاذعة شديدة القسوة والأبتذال, بجانب شربهم للخمر واللعب, وتنتهي المسرحية من حيث بدأت بغناء أغنية (من يخاف فرجينيا وولف) لكن بيسيطر صوت جورج على الفضاء بالنهاية وليس مارثا , وربما في هذا التغيير رمزًا للثورة على السلطة الرأسمالية والتمرد عليها, وكأن الكاتب يعطي المتلقي الأمل في التغيير. وبناء على هذا تصبح الشخصيات مدركة لذاتها.  
بينما تظهر المسرحية  أشبه بلعبة وضع قواعدها أولبي واستطاع أن يوظف تقنياته بشكل ذات معنى دلالي, فنلاحظ أنه لم يغفل عن ذكر ووصف الديكور وإدخال الموسيقى في الحدث بجانب استخدام المؤثرات الصوتية أيضا والإضاءة والألوان والحركات والإيماءات, واللغة, وشكل الحوار, وجميعها تقنيات مسرحية تجعلنا نرى المسرحية كعرض مسرحي بجانب أنه نص مقروء يمكن من خلاله أن نعيد تفسيره بشكل رمزي عبر المنهج الاجتماعي وآليات التأويل.
وفي ضوء حديثنا عن التفسير السياسي نعرض ماذكره عبد الرحمن دويب عن نظرة آلبي للصراع السياسي “  أن الصراع السياسي لا يعتبر مجرد انتخابات محددة, بل إن السياسة العامة لحكومة ما تضع فى اعتبارها التوازن الأخلاقي, الأسس الفلسفية, وأن الشعب الغير إرادى المهمل أداة لانهيار النظام, وبخاصة تحت ظل نظام كالديمقراطية, إنها ليست حلبة لتقرير مصير الديمقراطية أو أي مجتمع ما بقدر ماهى مدى الأمانة من عدمها, مدى المعقولية والتهرب في مجتمع ككل” .  
وهنا يوجهه أولبي أرائه نحو المجتمع, وأن الشعب مشارك في تحقيق الديمقراطية من عدمها, وأنه الأساس في خلق أي نظام. وهذا ماينقلنا إلى تناول تقنيات أولبي في نص “ قصة حديقة الحيوان” و” من يخاف فرجينيا وولف” من منظور سياسي, بواسطة منهج اجتماعي يساعدنا في نقل صورة المجتمع الأمريكي من أواخر الأربعينيات إلى الخمسينيات, من خلال الرموز السياسية التي ينفرد بها أولبي كأسلوب خاص به, وترك لنا أعماله وتقنياته خالدة وتوفي 16 سبتمبر 2016 في مونتوك بالقرب من ولاية نيويورك.                                            

 


رغدة محمد