شامان بعيون مغربية طقوس وإشارات لتجديد الفعل المسرحي

شامان بعيون مغربية طقوس وإشارات لتجديد الفعل المسرحي

العدد 525 صدر بتاريخ 18سبتمبر2017

بمسرح الغد بالبالون بالقاهرة قدمت فرقة مسرح الغد التابعة للبيت الفني  عرضها المسرحي الموسوم بـ “شامان” وذلك خلال شهر غشت(أغسطس) 2017
كما أشار أصحاب العرض في ملصقه إلى أن نوعه: أوبرا طقسية مما أثار فضول المهتمين للتعرف على النوع الذي يحمل ملامح المعاصرة والحداثة.
في البدء كانت: الأوبرا
الطقس الأول: الشابي يعود ثائرا
التسمية: شامان أو الرجل الطيب.لعل الإسم المُّحمل باللغة الإنجليزية له دلالات كبرى تشير إلى الإنسان الذي نصبو له جميعا لجعل العالم أكثر طيبة مما هو حاليا. وهو عنوان نجح في تحمل الافتراضات وعدم الدقة لتحفيز المتلقي للتعرف على ماهيته من خلال تتبع أطوار العرض كليا.وبعيدا عن التأثر بالأخر فالعبارة مُشًّبعة بحمولة ألسنية مناسبة للجيل الجديد الذي يستعمل تباعا الألفاظ والتعابير الأجنبية في المحادثات اليومية. ويبقى عنوانا مثيرا لغير العارفين باللغة الإنجليزية. مما جعله  يجمع بين البساطة والرمزية.
“سأعيش رغم الداء والأعداء...” هي مستهل العرض كصرخة جماعية لاستكمال الحياة والابتعاد عن العراقيل التي تمنع استمرارية البشر. كل شخصية تصرخ باللفظة: سأعيش فكلنا نصبو للعيش ونهرب من الموت.. الموت؟ نهاية والحياة؟ بداية. سأعيش رغم الداء والأعداء غنيت بايقاع صوفي يسلب الروح،ويحملها طاقات ايجابية مفعمة.هكذا قالها الرائع أبو القاسم الشابي الذي تحولت أشعاره أيقونات تؤجج الثورات بمتعة ورفض..
الأوبرا كما هو معروف فن امتزج فيه الفن الفردي والجوقة الموسيقية والخطبة والتمثيل والرقص. تاريخيا بدأت منذ 1600 من خلال جماعة “الأصدقاء” بإيطاليا بزعامة الكونت باردي(Bardi Giovanni).
في طقوس متنوعة يعطينا العرض شامان مفاتيح العيش السليم بشكل طيب للرجل الطيب الذي يجب أن نكونه،وعلينا أن نكونه. فهذه الأرض تحتاج للطيبيين فقط،وتتطلب منا أن نتحرر من كل شرورنا وعقدنا ومساوئنا.
الطقوس تحتلف حركيا وصوتيا وأدائيا. تتوزع بين فنون موسيقية وصوفية تطهيرية جماعيا. كأننا على عهد بالتغير المُفيد،الصالح لنا وللمجتمع الذي نشكله جميعا مهما كانت انتماءاتنا الفكرية والسياسية والفنية. وسواء كنا مصريين أو من بلاد عربية أخرى فهمومنا مهما تجزأت هي هي في عموميتها.حتى وان استهلت المسرحية بنشيد وطني مصري،امتنع ثلاث حاضرين من الوقوف له لكن المخرج أصر على ذلك في بادرة لاحترام الوطن حتى وإن كانوا أجانب.
هو تصور بيفرومنسي (Performance)عن تراجيديا إغريقية وصولا لنموذج مسرحي جديد سُمي: أوبرا طقسية،حيث تنوعت الأساليب الفنية بالعمل. فهناك من قام بتنمية الغناء بموسيقى ملائمة وألحان خفيفة مرنة.
الأوبرا في ماهيتها  هي عمل مسرحي غنائي متكامل يعتمد على الموسيقى والغناء،ويؤدى الحوار بالغناء بطبقاته ومجموعاته المختلفة. وهذا ما ما لمسناه ب”شامان”
الطقس الثاني:
الحكاية:
منْ تعود على شروط كتابة الحكاية التقليدي لن يجده عبر محكيات العرض،حيث الخيط الدرامي التقليدي غائب أو مُغيب-عمدا-وذلك بشكل ذكي مع استمرار حكاية الرجل الطيب الذي يهدف للعيش الكريم داخل بلده مصر. محملا بكل المباديء والمُثل الانسانية العمقية.لكن الحكاية يعرفها الحضور حكاية قد تبدو مكررة لكن لا يبوح بها أحد. نعرفها ولا نملك اللغة لنبوحها..حكاية تتغير كليا أو جزئيا بفعل أحداث تاريخية وحاسمة مرت بأرض الكنانة فقلبت رأسها على عقب وأثرت في الإنسان أولا وفي المناخ العام إجتماعيا،اقتصاديا،ثقافيا... فجعلته يطرح أسئلة مقلقة أو أسئلة آنية تفرضها المرحلة. أسئلة الوجود والغد والتحول...
غاب الخيط الدرامي القديم واسْتُبدل بخيط أخر واقعي يسهل تتبعه بقليل من تركيز لمجتمع تشابكت أصناف أطيافه وبدأت ملامح التغيير تصيب حتى المُثل والمبادىء الإنسانية التي تعطي للكائنات البشرية قيمة واختلافا.
رغم هذا نجح العرض في استكمال مقومات التعبير الدرامي فوَلّد أنموذجا أوبرالي معاصرا ومبدعا بجهود تطبيقية ونظريات تشخيصية حديثة. هي محاولة لاحياء المسرح الإغريقي الكلاسيكي،حيث هي ميزة من مميزات عصر النهضة. النهضة التي يطمح فيها صناع العرض.نهضة شاملة لمصر في كل الميادين.
 لا ننسى أن الاوبرا بموضوعها وألحانها تتفق وذوق وعادات العصر التي قُدمت فيه فتشمل-كما شامان- على الشعر والموسيقى والغناء والرقص والديكور والفنون التشكيلية والتمثيل الصامت والمزج بينها بدون فذلكات دراماتورجية معقدة.
الركح الغائب الحاضر:
العرض يقترب من العروض التجريبية الحديثة التي تفتح أبوابها للخروج من المألوف والمعتاد. حيث تم كسر الجدار الرابع منذ البداية وتم تجهيز القاعة بشكل مغاير يرنو لزمن الحكايا ومقاهي لمسناها في مسرح السوري سعد الله ونوس الذي قدم مسرحا عبثيا بنفس عربي.
تغيب الخشبة والمكان المرتفع(ركح)،ويحضر كل فضاء العرض ليشكل ركحا رمزيا يشارك فيه حتى الحضور. يجلس المتلقي بشكل دائري ويبدأ العرض في الجوانب ووالوسط بشكل حميمي يعطي فرص للمشاركة والمعايشة أكثر. يجعل المتفرج يتابع بشكل دقيق دون أن يبتعد عن مكان وحيد لو كانت الخشبة المعتادة.
هو عرض تمرد على الأشكال الفرجوية المتعارف عليها وحمل ذكاء فنيا لزعزعة انبتاه المتلقي وإغراقه كليا بالعرض. نموذج آخر للتمثيلية الروحية والجسدية،باستخدام الرقص والغناء والتمثيل وإنشاد كورالي متنوع وشيق بفواصل من موسيقى الآلات المناسبة لكل شخصية درامية والمصاحبة بأصوات بشرية في اتحاد نغمي وفقا لطبقاتها الصوتية. فتحول الحوار إلى غناء بجانب الكورال والأدوار المنفردة والعزف المنفرد.
الممثل المنغمس في الجماعة:
شارك بالعرض 13 ممثل وممثلة شكلوا فريق التشخيص الذي قدم فرجة ممتعة على مدار الساعة تقريبا. فتنوعت الحركات الأدائية والتعابير الكلامية وإبداعاتهم التشخيصية(اللعبية)والموسيقية والفنية. ولم يتميز ممثل عن آخر  بفارق،كاعتراف جماعي للبطولة الجماعية التي تتطلبها المسرحية التي تناشد العودة للروح الجماعية والابتعاد عن الأنانية للتعاون للعيش الأحسن ضدا لكل ما يهدد العالم من إرهاب وتشظي انساني مُعَولم. مع تميز الممثلين العازفين الذين سلبوا لب الحضور بعزفهم الفردي والجماعي.كما نجحوا في خلق لغة بصرية تفاعلية مع الحاضرية عن طريق البصر والملامح خصوصا.
توزع الممثلون بشكل مدروس وملائم في الفراغات، مع تصور إخراجي ذكي حافظ على التنوع البصري العام.  فالمكان على شكل مربع بأربع زوايا على شكل كواليس لتغيير الملابس وتغيير الآلات الموسيقية التي يعزف عليها البعض. الآلات شكلت عناصر(مأنْسنة) ومتجانسة حضرت كشخصيات مصاحبة لها حكايا ولها أزمنة لحنية واجتماعية.. لها روح وقصة تحيكها عزفا.
الطقس الأخير:
الإخراج: ميزونسين أوبرالي فخم وثري:
التصور الإخراجي استعمل تنوعا بصريا ومشهديا،عبر تحركات مختلفة. مع استغلال علمي لكل فضاء المكان. تسجل للمخرج الشجاعة الأدبية في النهل من هذا الأسلوب الذي عرف استجابة كلية للمتلقي وشارك قلبا وقالبا مع كل فصول العرض دون أدنى فترة ملل أو هروب من المتعة السمعية البصرية المقدمة. حرك المخرج الممثلين كأنهم فوق رقعة الشطرنج،وحتم على عين المتلقي العارفة التركيز والتتبع والالتفات عند تشتت الجماعة.
السينوغرافيا والإكسسوارات:
تربعت دائرة خشبية بوسط الفضاء، مع ثلاث سلالم بدأت أرضا ووقفت،وأخرجت كنعش لميت.تموت الأعمال الخيرة،أو تموت الانسانية؟  
أحضربرميل واحد،كأنه على موعد على انفجار ما... و علق حبلان في أعلى سقف القاعة،واستعملا للتسلق بشكل رمزي ماتع.فلن نبقى حبيسي أمكتنتنا وعلينا العمل والجد للرقي بأنفسنا دون انتظار أو سرقة ما جناه غيرنا.
وُظفت الدمى والأقنعة بشكل مناسب ودرامي،وشكلت عملية نزع الأقنعة مشهدا دراميا معبرا يدعونا ضمنيا للوضوح والصدق والاكتفاء بوجه واحد حقيقي . قفصة النخيل،شكلت إشارة لسمو ولصعود للتمكن من حلاوة البلح. فمن جد وجد حكمة نعرفها لكننا قد نتناساها عمدا.
حضرت آلات موسيقية: العود،الكمان،الدفوف،دف إفريقي وآلات نفخ،كونطرباس وأوكرديون... فكل آلة تعكس روحا تعاني وتحاول البحث عن نفسها عزفا مع طغيان للآلات النفخية الشجية. فلا حدود بين الألات في تنوعها وبين الفنون لكي تتآلف جميعا ضمن الفعل الدرامي لتكوين وحدة ضخمة.آلات النفخ وُظفت بشكل مناسب لكل مشهد درامي.
وأما الغناء فلقد تنَّوع-كما في الأوبرا- فكانت أغاني شامان عبارة على الفرديات،الثنائيات،الثلاثيات والإلقاء المنغم أو الرسيتاتيف(Recitativo)،وكذا الغناء الجماعي أو ما يُعرف بالكورال وبمصاحبة فرقة موسيقية(هم الممثلين) بآلالات مختلفة ومتكاملة.
اعتمدت الرؤيا الإخراجية على ثلاث أنواع ألبسة مناسبة بحسب المشهد الدرامي وتسلسله:
الأول: عبارة عن سروال وقميص  قد يبدوان متعارف عليهما بلونهما الأسود كاستهلال ظاهري لبدأ مراسيم الأوبرا الجديدة التي ستقدم.
الثاني:  رداء أبيض يميل لما عرفناه في لباس الرهبان في الزمن الإغريقي كعودة لزمن المسرح الجميل ولعيش الإنسان وقتها بشكل طبيعي وبرغبة للعيش الكريم. الأبيض رمز النقاء وعدو الأسود:الخير والشر.
الثالث: يحيل للزمن البائد حيث العصور الحجرية مع قناع لكل شخصية كأن أصحاب العرض يشيرون لدرجات الوحشية التي بدأ عصرنا يعيشها أو عاشها مؤخرا. نتابع مع كل قناع حركته وجسده الذي لا يعكس الدواخل دائما. القناع هو الاختصار الحالي لإنسان الفترة الذي يختفي ورائه في كل فتراته حتى في المواقع الاجتماعية التي تمتلىء بحاملي الأقنعة مزدوجي الشخصيات حد الاغتراب. يعرينا العرض ونحن نزيل القناع مع كل شخصية ويدفعنا داخليا للتحرر من قناعنا والعيش كما نحن بدون أدنى رتوش تذكر. هو لباس همجي خفيف يعرينا من دواخلنا الشرسة.
الإنارة التي ضبطت ايقاع كل نفس درامي وكل فعل أوبرالي بشكل مُقنع سهلت غوص المتلقي في هذا العلاج التطهيري الجماعي لمحاربة الشر والتشبث بالأمل مهما كان.
اللغة تنوعت بين العامية والفصحى وان شابت الأخيرة بعض الهفوات البسيطة نحويا والتي يمكن تداركها والاشتغال عليها وذلك درأ للجمهور الناشئ من اللحن اللغوي وخصوصا وأن العرض تابعه صغار السن الذين التزموا بشروط الفرجة . هي ملاحظة تكرر كثيرا لكن قد لا تعطى حقوقها انشغالا مع تفاصيل أخرى للعرض.
ختاما العرض يستحق الحضور ويشكل ثورة على العروض التقليدية والتي تساهم في الفرجة الفنية في زمن سريع نحتاج دوما للتذكير لكي نتخطى السواد.


عزيز ريان