يهوذا ..محال أن يغفر للخائن

يهوذا ..محال أن يغفر للخائن

العدد 621 صدر بتاريخ 22يوليو2019

هناك واحد من الحواريين أو تلاميذ المسيح الإثني عشر هؤلاء الذين عاشوا مع المسيح تعلموا منه وشهدوا معجزاته الكثيرة، كما أنه كان المؤتمن على الصندوق في عهد المسيح، الذي قام باستغلاله وسرقته لكثير من الأموال، ولا يذكر إلا وتستدعى في الحين ذاته فعلته التي التصقت به كحبل الوريد في جسد الإنسان، وهي خيانته للسيد المسيح عليه السلام، حيث سلم المسيح لرؤساء كهنة اليهود لقتله مقابل مبلغ من الفضة، فقد وقع اختيار كهنة اليهود له تحديدا لوعيهم الشديد بتلك النفس الهاوية، ذلك الذي لم يراوده الشعور بالندم عما فعله بالسيد المسيح إلا بعد أن تحققت خيانته وأودي بحياة المسيح بسببه، ومن ثم انتهى به الأمر بعد أن شعر بالندم وعدم قدرته أو الآخرين على مغفرة تلك الخطيئة، إلى الانتحار. إنه يهوذا الذي باتت قصته معروفة يدركها الجميع ويعي جيدا أن الخيانة تيمتها الوحيدة، فماذا حين تُستدعى تلك القصة الذي يدرك المتلقي تفاصيلها جيدا على خشبة المسرح؟ فهل ستصبح دراما باهتة لا يبالي بها المتلقي أم أنه في قدرة المخرج أن يصوغ من تلك الدراما وجبة إبداعية جيدة الصنع؟
ولعل هذا بالفعل ما بحث عنه المخرج كريم عبد الكريم من خلال العرض المسرحي “يهوذا” الذي قدمه على خشبة مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية، المأخوذ عن نص “ليلة انتحار يهوذا” للكاتب عصام عبد العزيز، حيث جسد عبد الكريم قصة يهوذا على شاكلتها دون أدنى تغيير في أحداثها، حيث استند إلى أحداث حقيقية حدثت بالفعل، ليس فيما يخص يهوذا فحسب بل وفيما يخص معجزات السيد المسيح، المذكور أنها قد حدثت بالفعل كمعجزة الضرير الذي أعاد له المسيح بصره، وغيرها، وأنه لأمر لم يرجوه المتلقي أو يطمح بأن يراه متغيرا خاصة وأنها تحتك بصورة مباشرة برمز ديني – المسيح عليه السلام. ففي حين يدخل المتلقي قاعة العرض وهو يطوي أحداث القصة بذهنه غير مبالٍ بالحوار الدرامي الذي يُخيل إليه أنه لا شيء سوى محاولة لسرد قصة معلومة، يأتي عبد الكريم ليكسر توقع المتلقي تجاه الحوار الدرامي، فلم يكن كذلك بالمرة بل نجح في أن يثير انتباه المتلقي للفعل الدرامي منذ بداية العرض وحتي أسدل ستاره، وتحديدا بالمشاهد الخاصة بالشياطين التي تعكس ما يدور بثنايا شخصية يهوذا من قبل حواره معهم وذاته، ويمكننا القول إن تلك المشاهد كانت الأقدر والأفضل لما بها من فكرة قد تكون سائدة في عالم الدراما بمختلف أنواعها، ولكن يكتفي بأنها بدت كمحاولة للتخلص من قالب القصة النمطي وإضافة سمة تجديد لقصة يعي المتلقي حيثياتها بالفعل.
ومن ثم يأتي تشكيل فضاء العرض كالعنصر الأقدر في جذب المتلقي الذي من المفترض أن تزج به رؤية المخرج في تجسيد تلك الدراما عبر عناصر السينوغرافيا، ولا سيما الأداء التمثيلي للاستمتاع، وقد جاءت سينوغرافيا العرض تنحو تجاه هذا النسق بداية من الديكور الذي اتسم بالبساطة في التنفيذ بما يتناسب مع الحدث الدرامي وتشكيل العلاقات المكانية، فقد رأى المتلقي في اللحظات الأولى من فتح الستار خشبة المسرح فارغة سوى من مقعد صغير على يسار المسرح فحسب، واستغلال عمق المسرح لخلق مستوى أعلى عن المستوى الرئيسي للخشبة، فقد كانت المساحة الأغلب للأداء التمثيلي، حيث غلب الأداء الاستعراضي على نصف مشاهد العرض تقريبا، فربما لو استخدم قطع ديكور أكثر من ذلك لعاق ذلك حركة الممثلين على خشبة المسرح وأفقد العرض الكثير من جماليته، وهذا إن دل على شيء فسيدل على وعي المخرج بآليات العرض وحاجته لتشتبك خيوطه التي من المفترض أن تتسق بدورها لتنتج في النهاية كوحدة واحدة متضافرة، والأزياء التي تتفق إلى حد كبير مع البعد الزمني والمكاني للفعل الذي يدور في عهد المسيح، بالإضافة إلى الإضاءة التي بدأت خافتة لتدل على الخديعة وتخفي كهنة اليهود خلف يهوذا لتحقيق مرجوهم الشخصي، ثم لحظة الإنارة المفاجئة بقدوم المسيح على خشبة المسرح كدلالة على التنوير ورفع البلاء.. إلخ، ومن ثم أخذت الإضاءة تترنح بين الأحمر والأصفر الخافت من جديد بمجرد أن تحقق يهوذا من تسليم السيد المسيح إلى كهنة اليهود، والذي يكتشفه المتلقي من خلال السرد وانعكاس ظل صلب المسيح في عمق الخشبة، والتي تستمر باستمرار الفعل الدرامي حتى قبيل أن يسدل العرض ستاره بثوانٍ، حيث يمزق الجنود اللوحة التي انعكس عليها ذاك الظل ويجد المتلقي يهوذا منتحرا مصلوبا بالطريقة ذاتها.
وقد كان للمكياج دور بارز في خلق معادل بصري وتحديدا في تجسيد مجموعة الشياطين، حيث وضع المكياج حتى على أجسادهم، ولذا بدت تلك المجموعة بصورة فنية مبتكرة، وقد لعب المخرج والكيوجراف على خلق خطوط حركة بصورة ديناميكية تتناسب مع دراما العرض، فقد سبق وأن ذكرنا أنه قد غلب الأداء الاستعراضي على دراما العرض وتحديدا في المشاهد الخاصة بالعلاقة الإشكالية بين يهوذا والشيطان، لتتحقق وظيفته في دفع يهوذا لخيانة المسيح من خلال ذلك التصميم الديناميكي وانسيابية الحركة حتى مع وجود بعض الحركات العنيفة، فلم تكن هناك حركات مجانية أو عشوائية.
وجدير بالذكر أنه لولا إمكانات الممثلين ومهاراتهم العالية ودقة وعيهم جميعا بمكنونات الشخصيات التي يؤدونها وأدق تفاصيلها واهتمام كل ممثل بتقنين الانفعالات وتطويع حركة الجسد بما يتناسب مع دور كل شخصية وحاجة المشهد الدرامي حتى في ظل مشاهد الاستعراض، لما بدت مشاهد العرض في صورتها المتقنة تلك. فنحن بصدد عرض حدد أولوياته في طرح تيمة اتخذت من قصة يهوذا خطا دراميا لها من خلال إعطاء معادل موضوعي بصري متناسق إلى حد كبير سواء على مستوى الصورة أو الأداء، فلم يخفق المخرج سوى بإقحامه لإحدى الشخصيات التي تدخل إلى خشبة المسرح لتلقي جملة مباشرة أشبه بالحكمة بلا داعي، مما أفقد العرض جمالية أن يكمن تأويله ضمنيا، بالإضافة إلى بعض الأغنيات التي بدت كذلك بصورة مقحمة ليس إلا، دون مبرر منطقي.


رنا أبو العلا