«جريمة فى جزيرة الماعز» جرأة مخرج لم يخذلنا

«جريمة فى جزيرة الماعز»  جرأة مخرج لم يخذلنا

العدد 659 صدر بتاريخ 13أبريل2020

هى جرأة بالتأكيد, بل هى مغامرة أن يتصدى مخرج مسرحى مصرى للمسرحية الإيطالية «جريمة فى جزيرة الماعز» للكاتب الإيطالى «أوجوبتى» الذى نشرها فى أربعينيات القرن المنصرم, وترجمها الى العربية الفنان الراحل «سعد أردش» فى ثمانينات نفس القرن, ونشرتها سلسلة المسرح العالمى الصادرة عن دائرة الثقافة والفنون الكويتية, وقد تناولتها السينما المصرية فى معالجتين سينمائيتين فى مطلع تسعينيات القرن العشرين, كتب المعالجة الأولى وأخرجها «على بدرخان» فى فيلم «الراعى والنساء» وقام بالآداء التمثيلى فى الفيلم «سعاد حسنى, أحمد زكى, يسرا, حنان ترك», وارتكزت معالجة «على بدرخان» على الغوص فى أعماق النساء الثلاث والبحث فى دوافعهن الإنسانية لعلاقتهن بالرجل الذى اقتحم حياتهن, أما المعالجة السينمائية الثانية فقد كتيها «وحيد حامد» وأخرجها «خيرى بشارة» فى فيلم «رغبة متوحشة» وقام بتمثيله «نادية الجندى, محمود حميدة, سهير المرشدى, وميرنا مجدى» وارتكزت معالجة «وحيد حامد» على البحث عن الكنز المفقود فى المكان.
ولا زالا الفيلمان يعرضان من وقت لآخر على شاشات التلفاز, ولا زالت أحداث الفيلمان تعلقان بذاكرة المشاهد وآداء أبطالهما كل على تنويعته, ومن هنا كان وصفنا للمخرج المتميز «محمد الطايع» بالجرأة, بل والمغامرة لإقدامه على إخراج مسرحية «جريمة فى جزيرة الماعز» الذى شارك بها فى المهرجان المسرحى لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد مع فرقة من الهواة, وبإمكانيات مادية محدودة.. فكيف أقبل «الطايع» على كل تلك التحديات؟
لم يشأ «الطايع» أن يقدم النص الذى كتبه «أوجوبتى» كما هو, بل وضعه بين يدى الدراماتورج «محمد عبدالمولى» الذى قام بتكثيف الفعل الدرامى, وعمق أبعاد الصراع بين الأرملة «أجاثا» وبين «بيا» شقيقة زوجها المتوفى, ولم يعد الكره المتبادل بينهما لمجرد رغبة «بيا» فى الرحيل, بل تمتد الى تعاليها على «أجاثا» ورفضها من البداية زواجها من شقيقها البروفيسور وهى مجرد إبنة لبائع الخمور فى المدينة, ليجعل الدراماتورج ذلك الصراع بين المرأتين متجذرا فى الزمن, ويغذى ذلك الصراع بدوره صراعهما على الرجل (أنجلو) لاحقا, وهو ما ترجمه المخرج بتلك المواجهة المتحدية الصامتة بين المرأتين فى أول مشهد يجمع بينهما, ويعكس  رؤيتهما المختلفة حول استضافة «أنجلو» الذى اقتحم حياتهن آتيا من بلاد بعيدة بعد أن زامل البروفيسور فى السجن لعدة سنوات حتى مات بعد أن أوصاه بالذهاب الى أسرته, وبعد أن أخبره بالكثير عن خصوصيات «أجاثا» لنجدنا أمام ثلاث إناث «أجاثا, بيا, وسلفيا» الفتاة المراهقة إبنة «أجاثا» ولكل منهن عالمها الخاص, وإن اشتركن ـ ظاهريا ـ فى عالم واحد يرتكز على محورين, أولهما : البروفيسور, فهو الزوج, الشقيق, والأب, وثانيهما هو تلك المزرعة وقطيع الماعز, والبيت الصغير الذى يعشن فيه حياة يومية ساكنة ومتشابهة فى التفاصيل, ومشاعر تفتقد الى الحميمية التى تربط بينهن حتى يقتحم «أنجلو» ذلك العالم الساكن والآسن لتلك النسوة الثلاث, ليتحرك بمجيئه السكون, وتتسع دوائر المياه الآسنة التى يحركها لديهن مجيئه.
إن «أجاثا» التى خلت حياتها من الرجال بعد أن هجرها الزوج منغمسا فى علاقاته بتلميذاته, دون أن يصون تحديها للجميع والزواج به, وإنفاقها أموال إرثها على شراء الأرض وقطيع الماعز, واتهمها بالبرودة وجفاف المشاعر وعدم صلاحيتها لرجل, مما جرح كرامتها, فأوصدت بابها دون الرجال, ونذرت حياتها للأرض والماعز وتدبير معيشة الأسرة, «بيا» تعيش بدورها حياة جافة خالية من الرجال وحفلات الرقص والموسيقى ونسق الحياة الذى كانت تحياه فى «فيينا» حيث كانت تعمل مدرسة للغات.. إن «بيا» قد استكانت للعيش فى تلك البقعة من الأرض النائية والمنعزلة عن العالم حتى سرقها قطار العمردون أن تفقد الأمل فى مغادرة هذا المكان والذهاب الى المدينة لكن يظل ذلك مجرد حلم ورغبة دون فعل حتى عرف التغضن طريقه الى جسدها, وتعيش غير محبة لأرملة أخيها وإن كانت تشعر تجاهها بالإكبار , معجبة بقوة شخصيتها وقدرتها على الجلد والحسم, أما الفتاة المراهقة «سلفيا» فهى زهرة غضة لم تتفتح بعد, تؤرقها تلك الحياة الرتيبة والمناوشات اللانهائية بين أمها وعمتها, وقد جعلها الدراماتورج والمخرج أقرب الى عمتها «بيا» فى تلقائيتها, وكرد فعل طبيعى لجفوة أمها وصلابتها, وتشعر «سلفيا» أيضا بفقد الأب وحرمانها منه لسنوات طويلة, ومن هنا جاءت سعادتها بقدوم «أنجلو» ذلك الذى أحدث قدومه تحريكا لكل ماهو ساكن لدى الشخصيات النسائية الثلاث ويقود الحدث الدرامى الى الأمام عبرالكشف عن دواخلهن وطبيعة العلاقات التى كانت تربط بينهن, حيث «بيا» ـ كأول مستقبل له ـ التى كانت قد استسلمت لآثار الزمن عليها كأنثى الى الدرجة التى تبوح فيها لأنجلو»ليتك قابلتنى من قبل وأنا لا زلت صغيرة» وحين يعطيها الثقة فى ذاتها, وأن الزمن قد أنضجها كالخمر الذى تزداد قيمته كلما طال زمن تعتيقه, مما يحرك روحها وجسدها وتتعلق به كفرصة قد لا تتكرر فى حياتها, وتصر على استضافته, مواجهة «أجاثا» متحدية رفضها لوجوده فى الليلة الأولى, ونفس الرجل حين يضع يده على طبيعة شخصية «أجاثا» المتخفية خلف قوة شخصية وصرامة مفتعلة, وإن حقيقتها كأنثى تنضوى على فرس جامح يحتاج الى فارس ماهر يسطيع أن يقود لجامها, وحين يتمكن «أنجلو» من ذلك تتحول الى أنثى معطاءة بلا حدود وتستكين للرجل وتستمرئ وجوده فى حياتها , وتلبسه ملابس زوجها السابق, وتواجه ابنتها فى تحد رافضة رغبتها فى طرد الرجل الذى احتل مكان الأب فى الفراش, ورعاية قطيعه من النساء, ونفس الأمر هو ما يحدث مع «سلفيا» الفتاة المراهقة التى يتملك جسدها هى الأخرى, مستغلا أحتياجها لبديل أب وفى ذات الوقت احتياجها لرجل تعيش معه تجربتها الأولى, وحين يتملك «أنجلو» النساء الثلاث ويحكم عليهن قبضته الذكورية, ويتأكد أنه أصبح سيدا للمكان يتحول دفئه الى قسوة شديدة فى معاملتهن, لا يكاد يفيق من سكره ونومه, ونهمه فى تناول الطعام حتى يفرض عليهن عدم مشاركته الطعام, وانتظاره حتى يفرغ منه ثم يأكلن من بقاياه بعد أن وقفن على خدمته, فيقررن ـ دون اتفاق ـ ضرورة الخلاص منه, ولكل منهن دوافعها المختلفة حيث كانت ترغب كل منهن فى الإستئثار به لنفسها دون الأخريتين, كان لكل منهن أيضا أسبابها فى تلك الرغبة التى تراها «عادل».. إن «بيا»  تراه فرصتها الأخيرة التى لن تتكرر , «أجاثا» ترى فيه حقها الذى حرمت منه طويلا, وكنزها الذى عثرت عليه بعد حرمان ودواء أعاد لها كرامتها التى جرحها الزوج من قبل, وجديا قويا استطاع أن يشبع رغبة العنزة الشبقة, أما «سلفيا» فقد حقق لها بديل الأب , الذى حرمت منه, وأيضا الرجل الذى حقق لها تجربتها الأولى كأنثى, وحين تتأكد النسوة الثلاث من خروج «أنجلو»عن الدور الذى كانت تظنه يقررن الخلاص منه بوضع السم فى طعامه  ليجلسن حوله يراقبن تناوله للعشاء الأخير ولحظاته الأخيرة, يجعل الدراماتورج والمخرج ذلك التضامن فى الخلاص منه بديلا عن قيام «أجاثا» فى النص الأصلى بتركه فى البئر وإسقاط سلم الحبال فى القاع, وهو مايحسب لتلك الرؤية الجديدة فى العرض حيث الثلاثة جرحن منه ومن ثم مبررا للإشتراك فى الإنتقام دون أن تكون «أجاثا» بمفردها هى المنتقمة إذ أن الجرح متساو لديهن.. وتواصل العنزات الثلاث حياتهن وسيرتهن الأولى قبل مجيئ القادم إليهن, لينجح بذلك الدراماتورج «محمد عبدالمولى» فى إعادة صياغة النص يرؤية تؤكد وعيه بمفهوم عمل الدراماتورج الذى ارتكزت رؤيته على رسم أبعاد جديدة للشخصيات الأربع وتكوين شبكة علاقات تربط بينها تؤدى بالضرورة الى النهاية التى آلت اليها أحداث العرض, دون أن يكون حبيسا داخل رؤية «أوجوبتى» ودون أن يكون بعيدا عن سياقها أيضا أو يتعارض معها, وأعطى نفسه مساحة من الحرية غير الجائرة لينسج عبرها رؤيته الخاصة وهذا هو الدور الصحيح لمفهوم الدراماتورج.. ذلك المفهوم المفترى عليه والمراوغ الغائم لكل من يدعيه بلا معرفة.
ويتعامل « محمد الطايع» مع تلك الرؤية لينفخ فيها روح التجسيد والحياة عبر عناصره المسرحية التى يجيد «الطايع» تشغيلها لتتكامل الرؤية الكلية للعرض مع إسناده تشكيل الفضاء المسرحى للمتميز الدكتور «محمد سعد» الذى جعل من خلفية خشبة المسرح بيتا بسيطا أقرب للكوخ المصنوع من الخشب الخشن ليتساوق مع خشونة الحياة التى يعيشها أصحابه فى مكان منعزل  لا تتوافر فيه سبل الدعة ورغد العيش, وأمام الكوخ من يسار المسرح  بئر ماء محاط بمجموعة من الحجارة الخشنة أيضا, ليترك «محمد سعد» بذلك أكبر مساحة ممكنة من الفضاء المسرحى تحتمل الحركة التى يمليها الصراع بين شخصيات, إحداها كمهرة جامحة, وقفزات جدى فوار مفعم بالقوة والرغبة والسيطرة, ومراهقة مفعمة بالحيوية والنشاط, ورقص امرأة تهفو الى استعادة سيرتها الأولى الممتلئة بحفلات الرقص والغناء, ولم تخل اختيارت المخرج لممثليه من مهارة تؤكد قدرته على تسكين كل فى الدور الصحيح له, فجاء اختياره للفنان «أحمد أبو عميرة» صاحب البنية الجسدية القوية لتؤهله ـ مع مهاراته التمثيلية ـ للقيام بدور «أنجلو» الذى سيحتوى بفحولته رغبات ثلاث نساء إحداهن شديدة الشبق المكبوت لسنوات ينتظر من يوقظه ليحلق معه فى جموح بلا حدود, وثانيتهما «بيا» تستحلب ثٌمالات ما تبقى  لها من أنوثة كانت  قد عرفت طريقها الى الغروب, وثالثتهما «سلفيا» تتعرف على هذا العالم بانطلاق الشباب وجموحه غير المحسوب, وجاء آداء «أحمد أبو عميرة» عاكسا فهمه لأبعاد الشخصية الخارجية والداخلية ومراحلها الدرامية الثلاث, حيث بدأ كرجل باحث عن عمل ومأوى, ناعما الى حد العذوبة حتى يكتسب ثقتهن فى البداية, ثم كرجل يعرف كيف يضع يده على مفاتيح كل شخصية من النساء الثلاث, ويعرف كيف يتسلل  داخل كل شخصية حتى تسلمه جسدها  غارقة فى نشوة الإمتلاء, حتى يصل الى المرحلة الأخيرة ليتجبر معهن ويذلهن, وينجح «أبو عميرة» فى آدائه لتلك المراحل الثلاثة وكأنها لثلاث رجال مختلفة.. ولم يكن هناك أفضل من»ريهام عبد الرازق» للقيام بدور»أجاثا» بما تملكه «ريهام» من موهبة تمثيلية تجعلها (غول) تمثيل فوق خشبة المسرح, تلك الموهبة المكتنفة بخبرة طويلة جعلتها تمسك بتلابيب شخصية «أجاثا» المركبة التى أحبت وأعطت بلا حدود ثم جرحت من رجلها الذى وثقت به, فتضطر الى تلبث روح القوة والصرامة لتستطيع أن قيادة مسيرة أسرتها الصغيرة «بيا, سلفيا» ورعاية قطيع الماعز الذى تعتمد عليه فى تدبير سٌبل العيش, والحياة التى تسير كبندول ساعة, لذلك قابلت «أنجلو» بجفاء فى البداية, حتى يواجهها ويزيل عنها تلك القشرة الهلامية التى تتشرنق بداخلها  لتخفى بها رغبتها الجسدية الجامحة وحرمانها من الرجل ورغبتها المكبوتة فى فارس يستطيع أن يكبح ذلك الجموح, فتزول مقاومتها وتستسلم لأحضانه لتروى ذلك الظمأ المؤجل وتتحدى فى قوة رغبة ابنتها فى رحيله, وتعلن تحديها كذلك لما يتهامس به الناس حول وجوده كرجل غريب بينهن, فلا شيئ يهم وحين تدرك أنه ليس لها وحدها تشعر بجرح كرامتها وتستدعى جرحها القديم وتتضامن فى حسم على ضرورة الخلاص منه, وتؤدى «ريهام عبدالرازق» دور تلك الشخصية المركبة شديدة التعقيد فى براعة فائقة ليضاف تصاعديا الى رصيدها المتميز فى سلسلة أدوارها السابقة, وتفاجئنا «شريهان قطب « فى دور «بيا» تلك المضطرة للعيش فى المكان لعدم إمتلاكها مكان آخر، والكارهة لأرملة شقيقها والمقدرة لها فى ذات الوقت لقدرتها على قيادة سفينة حياة الأسرة.. إن «بيا» متعالية على «أجاثا « كأبنة لبائع الخمور الوضيع، وهي ممتنة لها أيضا ً لتوفيرها هذا المكان بما ورثته من ثروة أبيها ، إن «بيا» تعتقد أنها قد نزلت من قطار الأنوثة إلى الأبد دون أن تصل إلى محطتها المرجوة حتى يجيئ « أنجلو» الذى يحيى بداخلها ما ظنت أنه قد مات بعد أن تكلس ، فتسعد بالرجل وترغبه لها وحدها ، وتغفر له ما ظنته أنه مجرد نزوة حين رأت «أجاثا» عارية ًبفراشه، ولكنها تضع له السم فى الطعام حين تتأكد من قسمة الرجل على ثلاثة .. إن « شريهان قطب « تعكس فى أدائها ببساطة دون إفتعال كل تلك المتناقضات فى الشخصية بل وتتألق فى ذلك الأداء ، ويضاف إلى الجميع أداء « تقى عادل» لدور «سلفيا» تلك المٌعانية من جفاء أمها، والحرمان من الأب الغائب وخلو حياتها من ألوان البهجة لمن فى مثل عمرها الغض، فيفرحها وجود «أنجلو» وتتشبث مع عمتها لإستضافته ، وتعطى له نفسها بسهولة ، إلا أنها تتحول إلى نمرة كارهة له بعد أن تشاهده مرتدياً ملابس والدها ، وبعد أن تشاهد أمها عارية فى غرفته ، وتؤدى « تقى عادل» بشفافية تتناسب مع عمر الشخصية التى لا زالت ترى الحياة بمنظور الأبيض والأسود دون معرفة بالرمادى ، وتكون « تقى» قادرة على أن تنحت لنفسها مكاناً بارزا إلى جانب خبرة «ريهام عبد الرازق، أحمد أبو عميرة وشريهان قطب».
وكغازل ماهر يغزل المخرج «محمد طايع» من كل تلك العناصر عرض «جريمة فى جزيرة الماعز» ليؤكد به إمتلاكه لرؤية فنية مغايرة للرؤى المعالجة من قبل فى السينما, كما يؤكد رؤيته فى النص الأصلى بقراءة جديدة له دون تخطى السياق الذى طرحه مؤلفه بل يضيف إليه ما يساهم فى تأويله, سواء عبر الكلمة أو معادلها البصرى الذى شكله بحرفية عالية .


أحمد هاشم