مشرب شاي طرح أبوي يدين وصاية الآخر

مشرب شاي  طرح أبوي يدين وصاية الآخر

العدد 522 صدر بتاريخ 28أغسطس2017

يشير “جان فراسنوا بيار” إلى التخوف من أن تكون الهويات الثقافية الشهيرة ــ ويقصد بذلك ذات الطبائع والطقوس الخاصة ـــ في طريقها إلى الزوال عن طريق التحديث والأمركة والتلفزيون، عبر أشكال توحيد أنماط المعيشة، بينما تشتد في الوقت نفسه الحاجة إلى الانفصال في إطار هذا الكون، فى عصرنا الحالى لا سبيل للتفرد، الكل يدخل المفرمة الكبرى، لنصبح ذوات واحدة تتطبع بحياة بعينها، مثل المفرمة التي جسدها فيلم The Wall في السبعينيات، فالأطفال يعبرون بشكل سريالي داخل مفرمة وتصبح وجوهم مشوهة واحدة.
في عرض “مشرب شاي” فرقة بني سويف القومية، الذي عرض ضمن المهرجان القومي للمسرح، على خشبة مسرح العرائس، المسرحية من إخراج “أحمد البنهاوي” وإعداد وأشعار “محمد عبد المعطي”، مأخوذة عن نص “قمر أغسطس” لـ “جون باتريك” يتجلى ثلاثة شباب وثلاث فتيات من وسط الجمهور في الصالة، وهم يصرخون باسم الإنسان، بحثا عن الأرض، عن الكيان، فهم يمثلون الضياع، نتاج الحروب والمعارك والثورات والاستعمارات والدمار التي حلت بكثير من البلاد، شاردين في البحث عن أرض ما، يغنون ويصعدون إلى الصالة، وهم يسألون بعضهم البعض، سؤالاً وجوديًّا: من أنت؟
 يرتدون ملابس من الخيش كأنهم أشلاء، بقايا منثورة من عوالم مدمرة، يتجولون بحثا عن وطن ما، هنا تستوقفنى ملاحظة على الأداء التمثيلي، رغم أنه لا يشوبه أي ملل، ولكن يصاحبه الكثير من التعبيرات الحركية والجسدية مع كل جملة تقريبا ـــوخاصة مع الكورس- وهذا يبدو مفتعلا بعض الشيء.
أحد أفراد الكورس معه ورق مسرحية يعرضه على باقي أفراد الكورس ـــوعلينا أيضاـــ نص اسمه “مشرب شاي”، تقتبس إحدى الفتيات جملة من “ألف ليلة وليلة” على لسان شهرزاد الشهيرة، التي تستهل حديثها لبدء سرد حدوتة النص المسرحي، وبذلك قد أوضح لنا المخرج لجوءه إلى خطوط ملحمية داخل مسرحيته، فالحدوتة تدور بعد الحرب العالمية الثانية عندما حاول الجيش الأمريكي السيطرة على إحدى قرى اليابان، فالحروب هي رغبة الساسة وكبار الدولة، أما الشعوب فهي من تدفع الثمن دوما.
المسرح به أربعة مجسمات شديدة التعبير والبساطة، برع فيها د. نبيل الحلوجي، تتألف بيوت صغيرة من الخوص عن يمين ويسار المسرح، كمنازل فقيرة، في الخلف يتجلى الشعب الياباني بملابسه التقليدية “الكيمونو” يغنون ويتراقصون في هدوء وسكينة، فالشعب الياباني من الشعوب التي تحافظ على طقوسها وتسعى إلى ممارساتها دوما، فجأة نسمع أصوات رصاص وطلقات نارية فيهرب الشعب الياباني فزعا، هنا يتدخل الكورس مرة أخرى، الذي يظهر كل حين لكي يوضح ويحكي لنا، سواء من منطق سد الثغرات الزمنية، أو من خلال تفعيل سمات المسرح الملحمي، والتي تهدف إلى وجود كورس يحكي ويسرد موجها كلامه مباشرة إلى الجمهور، وأحيانا تبدو لغته شبه تعليمية، يواكبها الكثير من الأشعار والأغاني والتعبيرات الحركية غير المبررة دراميا.
فبعد أن اجتاح الجيش الأمريكي الأراضي اليابانية، يتجلى بانوه مرسوم عليه علم أمريكا ويجلس أمامه قائد عسكري أمريكي، يدعى “يوردي”، يقوم بتكليف أحد الضباط ويدعي “فيسبي”، لكي يذهب إلى قرية “توبيكي”، بهدف تعليم أهل القرية معنى ومفهوم الديموقراطية، وبشكل ساخر يؤكد القائد “يوردي” للضابط “فيسبي” أن واشنطن هي الراعية، فهي التي تسمع وترى وتفكر!
“أمريكا” تعرف ما يحتاج إليه العالم الآخر/الثالث، أكثر من شعبهم نفسه، ومرة أخرى يقوم الكورس بالغناء حول أن العالم يرى “أمريكا”، وعيون “أمريكا” ــبالتالي ــ ترى العالم، ويقدم الكورس استعراضا وهم يرتدون قبعات الـCowboy، كإشارة إلى الأمركة. يظهر اليابانيون مرة أخرى، لكن هذه المرة بدون رداء “الكيمونو”، بل يرتدون زيا رديئا من الخيش، العالم الأمريكى يرى فى بعض الشعوب تفردا وحالة أسطورية تخيفه وتقلقه، مثلما سخر الضابط من الزي الرسمي الياباني، بوصفه دلالة واضحة لهذا التفرد.
ثم تتجلى النبرة الحكيمة من خلال شيخ كبير في القرية، يدعو الآخرين إلى توحيد صفوفهم، وأن يصيروا يدا واحدة، فهو يحذرهم بوضوح أن أكثر سلبيات الاحتلال والجيش الأمريكي تأثيرا، أن يجلعهم يتحدثون بلغة الأنا، ويصيرون أرواحا تائهة متفرقة، وهو ما يصنع فجوة بين الإنسان والعالم خارجه، كما أنها تجعل الإنسان متوحشا، يسعى إلى النجاة بمفرده بصورة أنانية.
ما أن وصل الضابط “فيسبي” مع “سكيني” إلى قرية “توبيكي” ـــالتي كانت قرية “سكيني” قديما قبل عمله فى مكتب القائد “يوردي”ــ حتى يختفي أهل القرية، ولا يستمعون إلى عرض “فيسبي” الذي يريد أن يعلمهم الديموقراطية، لكن الشيخ الكبير يطلب شيئا واحدا، هو “مشرب شاي”، هنا يثبت الكادر وينزل بانوه على شكل منزل صغير، ويأتى صوت playback يشرح فيه ما هو “مشرب شاي” وهو مكان يتجمعون فيه لمشاورة أمورهم ولعرض أفكارهم، فهو طقس قديم يريدون إحياءه، وكأنهم يحاربون هذا الاستيطان والاستعمار الأمريكي عبر الطقوس والعادات اليابانية الأصلية، للحفاظ على أرواحهم الأصلية من عملية الأمركة، حينها لا يستطيع “فيسبي” تعريف الديموقراطية ويتلجلج، وكأنها ستار زائف يخفي الرغبة الاستعمارية.
الضابط “فيسيبي” يبدأ بشراء ملابس جديدة لأهل القرية، الذين يغنون عن مدى سعادتهم، وتنقلب “العشش الصغيرة” لوجه ملون ومبهج، فلقد ذاب الضابط “فيسبي” داخل القرية ووقع في غرام الفتاة “لوتس”، وارتدى “الكيمونو”؛ إلا أن القائد الأكبر “يوردي” سحب الضابط “فيسبي” من القرية وأولى المهمة لضابط آخر، في حين يدعو الشيخ الكبير أفراد القرية إلى العمل والجهد.
فالتوجه الأمريكى يلجأ دائما إلى تفكيك التقوقع الثقافي للشعوب الأخرى، تقوقع ناتج من الحالة الطقسية والأسطورية والعادات التي تجلعهم منغلقين على ذاتهم، فهي النموذج المدرسي والمنهجى الذي يريد أن يثقف ويعلم الآخرين، فيشير “برتراند راسل” إلى أن التقنيات الحديثة حققت قدرا من الرقابة الحكومية، وهنا جاءت أمريكا لتعلب دور الأب الواصي، وخاصة تحت ضغط الحروب، لكن رؤية العرض رغم أنها تدين هذا الأب الأمريكي؛ إلا أنها لعبته مع الجمهور، وصارت تلقنه المعلومات والنصائح كالطفل الصغير، مثلما يفعل النموذج الأمريكي. 


اميرة الوكيل