شفيقة ومتولي منظومة مهترئة

شفيقة ومتولي منظومة مهترئة

العدد 611 صدر بتاريخ 13مايو2019

ضمن فعاليات النسخة الرابعة والأربعين للمهرجان الختامي لفرق الأقاليم وعلى خشبة مسرح المركز الثقافي بطنطا، قدمت فرقة ملوي المسرحية والتابعة لفرع ثقافة المنيا عرضها المسرحي (شفيقة ومتولي) تأليف أحمد يوسف علام وإخراج رأفت ميخائيل، الذي ارتأى قراءة التراث الشعبي لحكاية من الحكايات الراسخة في أذهان اللاوعي الجمعي للمجتمع المصري، مشتبكا مع الموقع الثقافي المنتج لذاك العرض، وواضعا نصب عينيه الفئة المستهدفة من الجمهور المقدم إليه التجربة في الأساس، وتلك قضية جدلية تحتمل الكثير من التأويل خاصة مع تغير الشرائح البشرية التي تتلقى ذاك المنتج الثقافي الذي تطور تطورا يوازي التغير البادي في ثقافات المجتمع المتمركز في اللاوعي للوصول إلى الوعي الكامل المغير للدلالة في مفهومها الأهم والأشمل.
ولأن منظومة القيم عدت – في أغلب المناحي – منظومة مهترئة على مستوى الثابت والمتغير، فقد ارتأى فنانو ملوي الولوج إلى التراث لكشف الاهتراء البادي على تلك المنظومة سواء أكانت منظومة أخلاقية أو مجتمعية أو ثقافية في التحليل الأخير.
“شفيقة ومتولي” هي قصة من قصص التراث الشعبي التي تم تناولها في شتى البقاع في الأرض المصرية شمالا وجنوبا في مختلف الوسائط الثقافية سواء مسرح أو حكي شعبي أو موال أو إذاعة أو سينما، وهي تروي الحكاية على محورين، المحور الأول حكاية شفيقة تلك الفتاة التي عانت من تقاليد المجتمع الصعيدي وتحكماته وإهماله لحق الأنثى في الوجود واختزال دورها في الحياة على الزواج والإنجاب بشكل شرعي أو المتعة والبغاء بشكل غير شرعي، وبين هذا وذاك تقع الفتاة بين المطرقة والسندان، فإما أن تقبل الزواج لأي مخلوق وإما الهروب وممارسة البغاء كرد فعل لغبن الفعل الممارس.
المحور الثاني حكاية متولي ذاك الشقيق الذي أعطى لنفسه حق تحديد مصير شقيقته، فقرر زواجها من أحدهم ولما رفضت شفيقة تسليعها كان التهديد والوعيد لها بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولأن الرجل في الجنوب يقاس بكلمته وقد أعطى الكلمة بزواج شقيقته وعلى الشقيقة تنفيذ الكلمة والرضوخ وإلا فقد الأخ شرفه، وعندما هربت الشقيقة وعلم الأخ أنها انحرفت عن الطريق وامتهنت البغاء قرر الثأر لشرفه المتمثل في انتهاك الشقيقة لجسدها ليعيد للرأس المنحني انتصابه وسط رؤوس الرجال.
وتعددت التأويلات لهذه الحكاية الشعبية مع إلباسها ثوب التاريخ تارة والسياسة تارة، والهروب من القراءة الأخلاقية (الضيقة) والخاصة بهروب الفتاة من منزلها ووقوعها بين براثن ممتهني البغاء، لتحمل دلالة أكثر عمقا خاصة باحتلال جسد شفيقة من قبل الغاصبين/ الخانعين/ الخاضعين/ القاهرين/ المقهورين - سواء بسواء - فعد جسد المرأة/ الرمز مستباحا ويبحث عن مخلص ليخلصها من الدرن المتحكم في حاضرها ومستقبلها، وفي قراءة فناني ملوي لشفيقة ومتولي تم التخلص من أي بعد موازٍ للحكاية، وتم التركيز على أخلاقيات الفعل مغازلا العادات والتقاليد ومشتبكا مع منظومة القيم، وتم قراءة الحكاية بشكل - (أخلاقي) - محايد بمعنى أننا أمام المحورين دون تجرد الفتاة شفيقة التي عشقت من تقدم لخطبتها وباتت تعد الأيام والساعات انتظارا لزفافها، والشقيق متولي الذي أعطى لقاطع الطريق كلمته بزواج شقيقته حتى قبل أن يأخذ رأيها أو رأي أبيها، وإلا فقد مكانته كرجل وسط الرجال متناسيا أن الفتاة مخطوبة لأحد أصدقائه، مما أدى بالفتاة إلى الهروب لتلتقطها أيادي تجارة المتعة والبغاء فصارت عاهرة، ولما علم متولي بما آل إليه حال شقيقته قرر قتلها قصاصا وفاقا ليطرح مبدعو العرض السؤال الأهم: هل قتلت شفيقة نفسها بهروبها من بيتها وممارسة البغاء؟ أم قتلها شقيقها بأن وافق على زواجها من قاطع طريق في حين أنها كانت مخطوبة لأحد شباب القرية؟ أم أن أهل القرية - المهمشون والمحايدون في العرض - هم من قتلوا شفيقة بسلبيتهم وخضوعهم وخنوعهم.
بدأ العرض باحتفالية لمجموعة من الشباب الذين اخترقوا صالة الجمهور على أنغام الربابة ليصعدوا إلى منصة التمثيل ملتحمين مع الشباب الراقص فوق المنصة هو الآخر، ومع حركات الممثلين نعي أننا في أحد موالد القرية ليتم عرض الأحداث بشكل بسيط نهاية بصراع متولي مع قاطع الطريق الذي انتهى برهان بين الاثنين كان نتيجته خسارة متولي لشقيقته وحياته في منتهى القول، ومع نغمات الربابة المميزة تم تعزيز الرؤية السمعية الموسيقية لبعض مقطوعات شهيرة (فارس بلا جواد/ ياسر عبد الرحمن) وبعض إيقاعات الدرامز ومقطوعات من ألحان كمال الطويل “بانوا بانوا” الأغنية الأشهر لفيلم (شفيقة ومتولي لعلي بدرخان) فتداخل وتعارض الإيقاع الموسيقي للعرض، والتزم مصمم الديكور بالمنظر الواحد المركب للتشكيل البصري مع كسره ببعض (البانوهات) لتوضيح الفرق بين منزل البغاء ومنزل شفيقة وساحة القرية، مع التزام الديكور بالشرح والإخبار عن مكان الحدث والحديث.
تميز (قاطع الطريق) و(الأب) في الأداء التمثيلي بشكل لافت ليعبرا عن رصيد ليس هين في التشخيص والتجسد مع ثبات في الأداء والرسوخ في الحركة ومخارج الحروف والانفعالات المحسوبة بدقة، فبعدا عن التكلف والاصطناع.
“شفيقة ومتولي” العرض الحاصل على تذكرة الوصول للمهرجان الختامي لفرق الأقاليم عن إقليم وسط الصعيد، عبر عن منظومة مهترئة من القيم البالية التي تحتاج إلى إعادة صياغة لتتماشي مع معطيات أكثر تعقيدا وتشابكا لتصل إلى ما يحق الوصول إليه.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏