«حبوس» سلطة السماء أم سلطاتنا على بعضنا البعض

«حبوس» سلطة السماء أم سلطاتنا على بعضنا البعض

العدد 602 صدر بتاريخ 11مارس2019

جاءت الوجودية كتيار فكري وأدبي في القرن العشرين يؤكد على حرية الفرد الحرية الكاملة لاختيار ما يريد أن تكون عليه حياته، وقناعاته، مما يعني أن الرب ليس بمسئولٍ عن سعادته وشقائه، والمسئولية تقع كاملة على عاتقه، وبينما أتت هذه الأفكار من بعض الفلاسفة المسيحيين المؤمنين وآخرين ملحدين، منهم الدنماركي «سورين كركغارد»، والمفكر الفرنسي «بليز باسكال»، والألماني «كارل ياسبرز»، والروسيان «شيسوف، وسولوفييف بيرد يائيف»، وذائع الصيت الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي اقترن لفظ «الوجودية» باسمه وهو صاحب المقولة الشهيرة (الجحيم هو الآخرون). ونتيجة ما التبس على المفكرين والفلاسفة من مقصد الوجودية واختلاق بعضهم ما سمي بالوجودية المؤمنة والوجودية المُلحدة، أكد القس جبريل مارسيل على فكرة أنه لا يوجد تناقض بين مفهوم الوجودية والدين المسيحي، أي (الإيمان) بمفهومه الواسع.
ونتيجة الكثير من التخبطات الفكرية والعقائدية، والضغوطات التي أحاط الإنسان نفسه بها في عالمنا هنا والآن، ولأن المسرحي مفكر ومفكك للواقع ولكل معطياته ومفرداته، وهو ذلك الإنسان الذي يُسائل الواقع ولا يقبل بالمعطيات دون براهين وأدلة، جاء ضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، تنافس العرض المسرحي (حُبُوس) لفرقة الوطن المسرحية للمملكة العربية السعودية، وهو من تأليف صالح زمانان، وسينوغرافيا وإخراج نوح الجمعان، وتمثيل (شهاب الشهاب، عبد الله الفهيد، صالح الخشرم). وعلى مستوى النص، فهو ينتمي إلى الفكر والكتابات الوجودية، حيث يطرح الأسئلة طيلة الوقت على الواقع وعلى الآخرين، نصا يعاني أبطاله الوحدة والفراغ ومجموعة من المخاوف الإنسانية، ويتماس مع وجودية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وجاء معضدا لفكرة أنه لولا سجننا لأنفسنا ما كان سهلا أن يسجننا الآخرون. وإن كان استلهاما أو يمكننا القول إنه (اقتباسا) من الإطار العام لنص (لا مخرج NO EXIT)، إلا أنه يختلف في توزيع الأدوار والشخصيات والمساحة المكانية التي تجمع بها هؤلاء الشخوص، وإن كان أبطال سارتر قد اجتمعوا في العالم الآخر، تحديدا في الجحيم الذي لحقوا به بعد الممات لينظروا على حياتهم السابقة بعين الانتقاد والاستنكار أحيانا والدفاع المستميت عن مواقفهم أحيانا أخرى، كان أبطال (حُبُوس) السجين والسجان والساعي، بمكان مغلق محدد كونه السجن – أي ما زالوا على قيد الحياة أزمتهم الحقيقية مع الواقع المُعيش، الذي هم بصدده حتى هذه اللحظة، يفجر بينهم الصراع كما هائلا من الهموم والضغوط، الطموحات والإحباطات، الذكريات والماضي، الغيرة والتراشق، والنزاعات الأزلية منذ بدأ الخليقة، التي بدأها (قابيل وهابيل) وصاغ المؤلف الدراما بحيث جعل لأحدهم سلطة على الآخر، بحيث إن السجان وفقا لوظيفته هو من يمسك بزمام الأمور، الخروج والدخول من وإلى السجن. وخلال جلوسهما سويا تعلو نبرة الاحتدام وتنخفض مرارا وتكرارا، لنجد أنفسنا متسائلين، وفقا للواقع الافتراضي الذي فرضه المؤلف، يمكن للجسان الخروج من هذه الزنزانة، فلما يُصر على البقاء؟ إلا أن شخصا ثالثا يُعلن أنه (ساعٍ) يفاجأنا بين الحين والآخر باقتحامه الزنزانة، ودخوله هذا الحيز المكاني غير مبرر ولا معقول، يصاحب أداءه التهكم والسخرية، وكل تارة يدخل بهوية مختلفة ورسالة مغايرة عن ما قبلها، وهذا الاقتحام دون سيطرة عليه، أو القدرة على منعه يرمز إلى سيطرة الرب وقدرته على الوجود أينما ووقتما أراد. ولكن رغم هذا الوجود، إن كان ماديا أو غير مادي، فإن جدلية الحوار بين السجين والسجان تكشف عن أن إرادة الإنسان هي محددة مصيره ونصيبه من السعادة والشقاء، فالله لا يريد بنا العذاب، وأن هذا العذاب الذي يحياه كل من السجين والسجان، حتى وإن كان بيد السجان أن ينجو منه، فهو من صنيعتهم ومن رغبتهم هُم بالألم والعذاب. وهنا وعلى الرغم من أن الكاتب قد اتخذ قالبا يبدو متحررا من الخضوع للأفكار الإيمانية، فإنه يعود ويستند على جذور الإيمان وعموده الفقري في كل مرة يبتعد فيها، بأن الإنسان وهو فيه من روح الرب قادر على الاختيار وتحديد المصير، ورغم ذلك فهو في الأحداث يُصر على سجن نفسه في مجموعة من الـ(حُبُوس).
اعتمد المؤلف في كتابته على المعالجة التي امتزجت فيها الميلودرامية بالكوميديا، بهدف كسر الإيهام، وأعمال عقل المُشاهد، والسخرية من الخلافات المحتدة والمفتعلة بين طرفي النزاع (السجين والسجان)، وتعمد ظهور الشخصية الثالثة وهي المعادل الموضوعي للرب بصورة هزلية ساخرة، لتنبيه المتلقي لرسالة السماء بأن كل ما يحدث على الأرض وما يقع بين البشر في الدنيا وما يتسبب لهم من خراب ودمار يقع بسبب وقائع تافهة ليس لها ثقل في العالم الموازي.
وعن صياغة العرض بصريا، فقد اعتمد السينوغراف الخلفية القاتمة كإطار عام للأحداث والمناخ الذي يحيط بالشخصيات الدرامية، فيما ارتكز المشهد المسرحي على بعض الموتيفات البسيطة التي تُشكل الزنزانة ومحتوياتها القليلة، لتصف حالة الفراغ والخواء الداخلي للسجين والسجان، هذا تضافر مع الإضاءة التي لعبت دورا مهما في تكوين المشهد بصريا، والتي اعتمدت على اللون الأزرق الليلي في التأكيد على لا نهائية الليل والسكون الذي يخترقه فقط ضجيج صوت نزاعهم.
وينتهي العرض نهاية عبثية تشير إلى استمرار الوضع على ما هو عليه، واستمرار حالة الحبوس التي يأسر فيها الإنسان نفسه دون تدخل من أحد، إسقاطا على أن الحرية التي يبحث عنها كل من السجين والسجان، ليست بيد أحد غيرهم، وأن الحرية بشكل عام لا تمنح بل تؤخذ بإرادة كاملة من النفس الساعية نحوها ولن تذهب لمن يرضخ ويقنع وينتظر إتيانها إليه.


رنا عبد القوي