محمد أبو السعود الفيلسوف الشاعر الساحر

محمد أبو السعود الفيلسوف الشاعر الساحر

العدد 598 صدر بتاريخ 11فبراير2019

جلس محمد أمام مائدة الطعام المستطيلة الشاسعة وحوله بعض الأشياء التي يحبها: مذياع قديم يبث البرنامج الأوروبي، سجائر، كتب وأوراق متناثرة، وألوان كثيرة. كان هناك الكثير من الألوان والأقلام، وكانت هناك كراسة الرسم. وكان هناك محمد الفتى النحيل الحالم جالسا في صومعته. آه نسيت: وكان أمامنا أكواب الشاي والنسكافيه، وكنت أنا هناك، وكان هاني هناك. كان هاني من آتى بي إلى هنا.
في ديسمبر 2018 كنت أسير لاهثة وراء هاني، هو فارع الطول وخطوته سريعة. أعرف خطوته جيدا. لم يقده العمر ولا الوجع ولا الهزيمة نحو الإبطاء. مسرعا كان كعادته، فقط هو لا يلتفت إلى تلك السرعة، لكنها تطمئنني. أنا ألهث وراء هاني لأنه سيأخذني إلى محمد. لقد كان محمد من عرفني إلى هاني، ثم عرفني بعدها هاني إلى محمد، ثم عرفتهما الواحد إلى الآخر، ثم عرفاني إلى نفسي، وهكذا دواليك على مدار خمسة وعشرين عاما، نعمل ونتعرف ونغيب ونلتقي ونكبر ونتعرف ونعمل ونلتقي. المفاجأة المبهجة هي أن المصعد يعمل، رغم أن حظي التعس دوما ما يجعله يعطب في أية بناية أزورها. يسحب محمد المصعد دون أن يعرف أنني مع هاني. قد ينزعج هاني من أنني أكتب هكذا تفاصيل زياراتنا. لكنني لا أستطيع المقاومة. الكتابة ضد المقاومة. نصل هناك، لكن المصعد يأبى أن يفتح. الباب يرفض إخراجنا. أعرف أن حظي تعس. أرجوك ألا تفزع يا هاني. يمكننا أن نستأنس ببعض حتى تنحل المشكلة. يأتي محمد، يحاول دفع الباب. لا يفلح. ثم سرعان ما يبدأ في إلقاء سلسلة من التعليمات الإخراجية التي من شأنها أن تقود هاني إلى فتح الباب. أنا هادئة. ومتحمسة. سأراه رغما عنه وستنتصر خطتي أنا وهاني. لوهلة تحول المصعد الضيق في خيالي إلى خشبة مسرح صغيرة. هاني وأنا لا نختنق بداخلها. نحن صبورون. أنا أكثر صبرا من هاني. والمخرج بالخارج بالداخل. محمد المخرج. ولا حاجة بنا للقلق أصلا فالمخرج يرى الموقف من الخارج ومن الداخل. إنه يرى صدأ المصعد ورداءة الواقع وأزمة الموقف وهلع الممثلين، تماما كما يرى الكيفية التي سيصمم بها خطة الخروج من هذا المأزق. هو لا يوجد معنا في تلك الخشبة الصغيرة. ولا يراه الجمهور. ربما أنه لا يوجد جمهور من الأساس. لكنه يملك الرؤية، ويملك الأدوات لتنفيذها. كعادته، محمد يتفوه بعبارات قصيرة ومتناثرة. لو لم نسمع كلمة لفقدنا معنى العبارة كلها. لكننا مدربون. أنا مثلا بدأ تدريبي منذ عام 1993، منذ «دير جبل الطير»، وبعدها مباشرة هاني وفاروق. وإيهاب عبد اللطيف هنا وهناك. في «دير جبل الطير» مثلا أديت دورا صامتا اعتمد بكامله على الإيماء وتعبيرات الوجه. أقنعني الأستاذ أنني بطلة العرض. كاد الجميع أن يقول لي «بطلة عرض ماذا يا معتوهة؟!»، لكنني صدقت الأستاذ. نعم، هو لا يتحدث إلا قليلا لكنني أفهمه. إنه يبث في ثقة تجعلني أتملك الدور الصامت وأثق في قدرتي على جعله مشعا وكاسرا لتقاليد مسرح الثرثرة الإذاعية. هكذا، هذا أنا، أيقونة في الدير.
على مدار الوقت القصير للغاية الذي يلقي فيه تعليماته الإخراجية، أتجسد دور الأيقونة. أبتسم وحدي في الظلام - فقد راح النور عن المصعد - وأحافظ على صوت وإيقاع تنفسي كي لا يشعر المخرج بوجودي. أنا دور صامت. على وجهي رضا السيدة العذراء وفي عيني شقاوة الموناليزا. كانت هذه تعليماته في عام 1993، ما زلت أتذكرها في 2018. هاني لديه إمكانات عملية وتوافق عضلي عصبي نادر. يتمكن بالفعل من اتباع تعليمات محمد وفتح باب المصعد. يخرج هو أولا، ثم أتسلل من بعده، بينما المخرج في حالة مفاجأة خفيفة فالمفترض أنه أيضا كاتب سكريبت العرض - كحال كل عروض محمد أبو السعود - فكيف يحدث إذن أن تظهر ممثلة في غير مشهدها؟!
ابتلع محمد وجودي سريعا بمساعدة رفيقه هاني، وأدخلني إلى الصومعة. وعلى الرغم من يقيني أنه يكره الثرثرة - فهو صانع مسرح الصورة ومسرح الشعر والسحر - فإنني لم أجد سواها ملاذا. في تلك اللحظة فهمت تحديدا لماذا يلجأ المسرح التقليدي إلى الثرثرة التي تشبه المسلسلات التلفزيونية. دعونا نتخيل: نحن الآن في موقف يتعذر على المرء فيه أن يجد شيئا ذا قيمة يقوله، لكنه مع ذلك يشعر بإلحاح ما لاستخدام اللغة الكلامية. يعرف المرء أنه لايستطيع الحديث فيما يجب الحديث فيه، أو أنه لا يملك الشجاعة ولا الموهبة لبلورة مونولوج يصل إلى الجوهر ويلمس القلب. لذلك فالمرء - أنا أو صناع المسرح التقليدي التعساء مثلي في تلك الحالة - يملأ الزمن بالثرثرة الفارغة، كما يقولون بلغة أهل الكار «بيملا». لقد قضينا أعمارا نشاهد ونتلقن فنون «الملو» لأنهم نادرون أولئك الذين يستطيعون خلق القول/ الفعل/ الرؤية في إيجاز الفيلسوف وسحر الشاعر. لكن حدث أن ظهر أبو السعود في التسعينات. ظهر الفيلسوف الشاعر الساحر. وأعرف أنه يعرف أنني في تلك اللحظة أتبنى مواضعات مسرحية غير التي تعاهدنا عليها. لكنه يصبر. يتركني أثرثر ويعرف أنها ديباجة مسرحية سريعا ما ستنتهي كي نصل إلى مشهدنا الأساسي.
لقد أعد لنا هاني مشروبات رائعة. هنيئا لنا يا هاني.
حيلتي لمعرفة إذا كان محمد قد ضاق بي ذرعا أم لا هي أن أتابع حركة عنقه وعينيه. نحتاج أن نتنفس. الآن تظهر سمة أخرى لمسرحه: فضيلة الصمت. الصمت في المسرح هو لاولئك الذين يستطيعون مواجهة أنفسهم، أولئك الذين يستطيعون الاستغناء عن الآلة الكلامية، ومواجهة الوهن الذي نجده في أنفسنا عند الوجود في الصمت. الصمت هو بوابة الروح، هو جسر الانفتاح، هو عربة الخيال. في هذا «الكيو» تحديدا سيطلب منا المخرج ضبط الإضاءة في الغرفة، لأنه ليس مخرجا فحسب ولا مؤلفا فحسب. هو مصمم الفضاء البصري لكل عروضه. هو رسام العرض. نحاول ضبط الإضاءة لكن يبدو أن مسارح مصر كلها بحاجة إلى صيانة…
ماذا نفعل إذن يا محمد؟ هل نصدر بيانا كما فعلنا في مهرجان المسرح الحر الأول 1991 والثاني 1993 وكما فعلنا أيام بني سويف؟ ماذا نفعل؟…
يشعل سيجارة.
هاني يتحدث عن المسرح. لست واثقة أن هذا هو ما حدث في تلك اللحظة. لكنني هنا المؤلفة وهكذا تريد ذاكرتي للأحداث أن تسير وفق ما اتخيله. عبارة عجيبة.
تنفتح البوابة السحرية. ونلتقي بلا ثرثرة وبلا حواجز. تختلط السنون والعروض والمونولوجات والمعارك. يتحدث محمد عن أحداث في الماضي، عن دعابات، عن عروض، ومشكلات، وأشخاص. نضحك. أناكفه. دوما أنا أناكفه. يشعر أحيانا بوهن. يترك لي مساحات من الزمن للتدخل، لكني غير معتادة منه على تلك المساحات. هو دوما يقاطعني، دوما لا أتمكن من إكمال فكرة. لماذا الآن فقط يتيح لي كل تلك الدقائق لبلورة فكرة؟.. هيا يا محمد قاطعني أرجوك.. أرجوك قاطعني..
وقد قاطعني ونقل المشهد من الصالون إلى حيز مائدة الطعام التي صارت مرسمه المؤقت. انتقل محمد من الأريكة إلى مقعده أمام المائدة حيث يمد ساقيه على مقعد مقابل تحت سطح المائدة. انتقل هناك كي نسمع الموسيقى المنبعثة من المذياع المتهالك. وكي يرسم. يمكن للساحر بكل بساطة أن ينتقل من المسرح الكلامي إلى المسرح البصري، مثلما يمكنه - بكل بساطة أيضا - أن يجمع بينهما. فعندما يكون المخرج الفيلسوف شاعرا في الكلمة وفي صناعة الصورة، يكون هو الكاتب والرسام، يكون مبدعا لفضاء مسرحي متكامل وسحري. هذا السحر يا محمد كان مهنتك. لقد كنت ساحرا يا عزيزي. لكنك حتى في السحر كسرت القوالب، وخرجت عن الصورة التقليدية للساحر الحكيم الرزين، وكنت أنت الساحر الثوري المتمرد الذي لا يمكن لأحد التكهن بألعابه السحرية ولا بانقلاباته الفنية. من دي جيلدرود إلى أحمد يماني ومحمد متولي وشعراء التسعينات، ومن شكسبير إلى بينتر إلى لوحة تشكيلية، ومن توفيق الحكيم إلى أرثر ميللر وإلى جينيه وونوس وآخرين وآخرين، كنت تقفز من عالم إلى آخر ومن زمن إلى آخر، بينما ذهنك منجذب نحو قضايا القهر والسلطة وفقدان الإنسانية. الحرب والتعصب الديني والتسليع والتسلح والاستعمار والكولونيالية والتدمير و«تفتت بنية العالم إلى نتوءات عرقية ملتهبة في صراع دموي وكأنها حقا نهاية التاريخ» (بيان فرقة الشظية والاقتراب). مسرح اقتفاء اللإنسانية ونقدها. أنت رسام فذ يا محمد. ترسم بكلماتك وبيدك تاريخ عالم يدمر نفسه بنفسه. كيف يتسنى لليد نفسها التي تكتب بهذه البراعة أن ترسم وتلون بتلك المهارة؟ كيف يمكنك أن تكون شاعرا ومخرجا وفنانا تشكيليا ومترجما مؤلفا ومفكرا في نفس واحد؟ هذه العبقرية لن تموت.
لكنك أيضا مناضل من الدرجة الأولى، شيء ما في روحك يشبه صالح سعد - لا أعرف لماذا أكتب ذلك الآن - لذلك ربما كنتما الاثنين اللذين دعماني بالقوة نفسها عند كتابتي لـ«المسرح المصري المصري المعاصر وحقوق الإنسان: فن المطالبة بالحق»، وأمداني بوثائق مهمة تدعم بحثي. من تلك الوثائق بيان الشظية والاقتراب المنشور هنا، والذي تضمنه الكتاب في ملحقه (إصدار جديد في مطبوعات الهيئة العربية للمسرح، 2019). كنت أنت يا محمد مناضلا ضد العنف السياسي بجميع أشكاله، ذلك العنف السياسي الذي اكتملت بلورته في أعمالك منذ عام 1998 مع «لير» (إدوارد بوند) والتي تصفها بأنها «كانت بالنسبة لنا اكتشافا في عالم الكتابات المسرحية الجريئة الملتزمة بالبعد الكوني، والإنسانية، والمتحررة من إرث الثقافات الإقليمية والمتعمقة في قضايا تخص العالم بأجمعه، حيث بناء النظرة للتاريخ واللحظة المعاشة فيه بوعي تحليلي أعمق (…) إذا لم يتحدث المسرح عن العنف، وعن تشوهاتنا.. فعن ماذا يتحدث؟».
أجلس إلى جانبك. ليس هناك مكان آخر يمكنني الجلوس فيه. تفتح كراسة الرسم التي قاربت على الامتلاء. تكمل رسمتك. ياله من حدث يبعث على الانبهار. بهذه البساطة والسحرية تنقلنا من عالم الثرثرة الفارغة الخائفة، إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية واللوحات التشكيلية. هل هكذا أيضا كنت تنتقل بين عروضك؟ عفوا، سامحني، فلم تكن هناك أبدا ثرثرة فارغة في عروضك، إنها في مشهدي هنا فحسب. لكنك أيضا تعيد إخراج كل شيء وتضعني في المكان المناسب لي، أو لنقل المكان الذي أتوق إليه. مكان مساعدة الساحر. تلك التي تختبأ وتظهر فجأة من تحت الأرض، أو تتلقى الخناجر حول جسدها لكنها لا تصيبها، أو تنقسم نصفين بالمنشار ثم تلتئم، أو تلوح بالأقمشة وهي ترتدي تنورة قصيرة فلا يلتفت الجمهور إلى طريقة حدوث الخدعة القادمة. أنت ترسم إلى جواري.
بدقة شديدة ومتحدية للوضع القائم، تتقن رسم الخطوط. إنك تصنع أيقوناتك هذه المرة. ليست أيقونات عروضك ولا أيقونات «أحلام شقية»، بل أيقونات حياتك، ومماتك. إنك تخلق عالما مستوحى من التشكيلات المصرية القديمة، وحاملا لسمت الايقونات القبطية. هناك مركب الشمس، وهناك النهر - نهر النيل بالطبع - وهناك الندابات - طقس مصري أزلي - وهناك النخيل والشجر والزرع. حضارة زراعية نيلية بكاملها. وطقس الموت/ العبور في مركب الشمس نحو عالم آخر بعيدا عن الوجوه الرديئة المدمرة المقيتة. لكن هناك وجوها طيبة وحنونة، ماتزال بين المودعين على الضفة الأخرى. أتمنى أن أكون بين أولئك الطيبين.
من بعد عرضه الأخير في أغسطس عام 2017 «ماما أفريقيا» (إنتاج الهناجر)، اضطلع محمد بصناعة مئات اللوحات التشكيلية لتجسيد قصته عن بلقيس ملكة سبأ وسليمان الحكيم. بدأ في تلك الأثناء مشروعه الخاص بعيدا عن المؤسسة الحكومية وبعيدا عن الهناجر، فأسس مع شركائه/ الطيبين ستديو للورش المسرحية، وهناك تراصت لوحاته التي لا تحصى لتحكي بصريا حكايته الجديدة. لقد صار وقتها محمد مخرجا بصريا، كمرحلة جديدة من انصهار موهبته كفنان تشكيلي ومخرج سينمائي مع موهبته كمخرج مسرحي سيميل من تلك اللحظة إلى رسم عروضه بدلا من كتابتها.
يشرب محمد مشروبه الدافيء. يساعدني كي أتمكن من شحن هاتفي المحمول. ويكمل رسوماته. كم هو على يقين من أنه سيصل إلى الضفة الأخرى. هل أجلس معه الآن بينما هو في طريقه إلى تلك الضفة؟ هل هو معي الآن وكذلك هو في طريقه إلى الضفة الأخرى؟ في يد سيجارة مشتعلة، وفي اليد الأخرى القلم الذي يقل مركب الشمس إلى رحلتها. هو يبحر مركبته بنفسه. بقلمه. إنه يرسم طقسه الجنائزي قبل حدوثه. إنه يعد نفسه للرحلة بهذه الطريقة تماما كما فعل أجداده. ألهذه الدرجة يا محمد كنت شجاعا؟! لقد شعرت بروحك في تلك اللحظة وهي تتحرك، شعرت بقرينك في عالم الخلود وهو يجذبك. شعرت بتلك الحركة وهي ترتسم أمامي. كنت منبهرة بك. كعادتي. أنت الثائر الذي لم يسع يوما لمجد ولا مال، يودع نفسه، ويخلق طقسه بخياله المصري المسرحي الطقسي الصميم. بلا خوف، وبكل امتياز فني.
ذات يوم، قلت أنت في بيان جماعة الشظية والاقتراب: «عفوا للمجانية في المسرح، عفوا لارتجالات الخيال البعيدة عن واقع عالمنا، عفوا لاحتلال الفولكلور لخشبة المسرح.» في كل ما تفعله ليس هناك شيء مجاني، نحن هنا والان دوما، نحن أحياء ثوريون ولسنا متحفا لتراث.
تدعني أصور لوحاتك الصغيرة بهاتفي المحمول. فجأة أدرك أن هاتفي التافه هذا قد يصير أداة لحفظ الذاكرة والتاريخ، فنحن مجتمع ضليع في فقدان الذاكرة، نحن أسماك ضالة فقدت جماعاتها وصارت تسبح في مستنقعات المصارف الكيماوية المسممة. هل تدعني أيضا أبحر في مركبك يا محمد؟… دوما أنا طماعة هكذا!
تتصفح الرسومات، ورقة ورقة، كأنك تعرض لي مسرحية طقس الرحيل. وأنا أصور. هل يمكنني أن أوقف تلك ورقات؟ هل يمكنني أن أتحول فجأة إلى أبيجيل في «أباساديا،، القدم اليسرى لليل» (ساحرات سالم/ آرثر ميللر) بحيث إنادي على الطائر الأصفر - أو أية حيلة أخرى تافهة - فأوقف الزمن المسرحي؟! أو ربما أتحول إلى «فيدرا» التي كتبتها أنت وأخرجها هاني في الهناجر، أصرخ في العالم كي ندمر أسطورة السلطة والأب، ونستعيد إنسانيتنا ووثاقنا الجمعي؟ نستعيد جماعتنا الإنسانية التي فتتتها السلطة؟
«وكلمة جماعة التي ننعت بها أنفسنا هي في حد ذاتها تصنيف سياسي بشكل ما، لقد أخذنا وقتا لتحليل كلمة (جماعة مسرح) وتأكد لنا عدم انفصال المسرح - كفن ومؤسسة ووسيط ووسيلة مشروعة للتعبير - عن السياسة، والمجتمع. بل إن المسرح بصورة مثالية قد يكون أول الصور الطبيعية التي تتشكل في ذهم أي فرد إذا ذكرت كلمة مجتمع أو كلمة سياسة. والمسرح هو رحم في جسد المجتمع، فإذا كانت ولادة الطفل عملية ملحة وآنية لحظة اكتمال نضج الجنين، فكذلك العمل الفني المسرحي حيث تكون مهمة الطرح آنية وملحة من خلال جدل حي ومعاش إلى الناس عبر عالمهم والأحداث التي تغير حياتهم».
محمد، سأعتبر أن رحيلك كان مسرحيتك الأخيرة. أخرجتها بنفسك، وضعت نصها وسينوغرافيتها. رسمت لوحاتها وأيقوناتها. وكنت هذه المرة البطل. لم تكن بحاجة لممثليك البارعين، ولا لفاروق ساعدك الأيمن، ولا لهاني، ولا لي. لم تكن بحاجة لجهة إنتاج ولا لخشبة مسرح. حياتك ورحيلك كانا الحدث والمسرح. كنت أنت المسرح. وصار جسدك مسرحا لعرضك النهائي. أيها المناضل الحر الفيلسوف الشاعر الساحر..
«…لهو أمر يتطلب التحرر من القوالب الإنتاجية المعقدة تعقيدا شديدا يصعب معها حتى أن نفكر اللهم إلا أن نفكر في حيل ورقية ومهارات الحصول على موافقات وكفاح استخراج وثيقة وكوماندوز للتعامل مع الاحتلال الوظيفي للابداع. هذا الاستيطان الوظيفي يتيح لهذه الطائفة الوظيفية أن تفعل في الابداع فعلة نجمة البحر في الشعب المرجانية فتحول الروعة الجمالية إلى أشكال فطرية، والألوان إلى صحراء صلبة».
سأحتضنك قبل أن أغادر المنزل. سأحاول أن أتشبث بك. أو أن أستبقيك. كأنني أتمسك بتاريخ كامل، وعمر كامل. خمسة وعشرون عاما. لكن جسدك النحيل الهش لا يتحمل أن نتشبث به. أنا أعرف وأنت تعرف وكلنا نعرف. لقد ابتلعك المسرح، مثلما سيبتلع النهر تابوتك الصغير. لقد عدت طفلا يا محمد. ورسمت تابوت طفل ليحتوي جسدك الثائر المتعب. كنت دوما أشعر أنك الطفل. الأستاذ/ الساحر/ الطفل.
لا أعرف ما سنفعل الآن. ربما سنلحق بك تباعا. لا أعرف. ساعتبر وثيقة بيان الشظية والاقتراب هو وصيتك. وصيتك التي كتبتها منذ بداية الألفية، ونشرتها أنا كي أبحث عن فن المطالبة بالحق…
«يجب أن يتطور النظام بجانب الأفراد في أسلوب الإنتاج والتعامل الفني، ويتحرر لصالح الفن والفنان إذا أردنا ثقافة. ويجب أن يستقل.
أما عن صورتنا الآن كفرقة حرة، فنحن كالفرق المسرحية الأخرى، بشر بلا وطن، نقتات على المساعدات، يذبح مننا الكثير كل يوم منتظرين أن نوهب حق اللجوء. في الحقيقة لا فرق بين مشوهي ومنكوبي وسفاحي عالمنا المسرحي، وبين مشوهي ومنكوبي وسفاحي عالمنا السياسي الذي نحيا فيه». (محمد أبو السعود - 2001)


نورا أمين