نبيل بهجت: وضع الأراجوز على قائمة اليونيسكو انتصار لفنون الشعب والشارع

 نبيل بهجت: وضع الأراجوز على قائمة اليونيسكو انتصار لفنون الشعب والشارع

العدد 591 صدر بتاريخ 24ديسمبر2018

مع إدراج الدمى اليدوية التقليدية «الأراجوز» بقائمة الصون العاجل للتراث غير المادي، كان لزاما علينا البحث عن الجندي المجهول وصاحب لواء هذا النصر الذي بذل جهدا وفيرا منذ سنوات سعى فيها للحصول على هذا المكسب الثقافي المهم؛ حيث قام بإعداد الملف المصري الذي تم تقديمه لليونيسكو، هو د. نبيل بهجت.. فنان ومخرج ومؤلف أولا، ورئيس قسم المسرح بكلية الآداب جامعة حلوان، هو أول من تقدم وسعى وطلب وحاول واجتهد وتضافرت حوله جهود وزارتي الخارجية والثقافة، حتى نجح وكان أول من أعلن النصر والاحتفال بتكليل مجهود ثمانية عشر عاما من البحث والتقصي والجمع والترتيب والحفظ والتوثيق لإحياء الأراجوز نبض الشعب المصري.
د. نبيل بهجت أيضا هو مؤسس فرقة «ومضة» لعروض الأراجوز وخيال الظل.. فنان ممارس لهذه الفنون، تَعلّمها على يد الفنانين الشعبيين، بالإضافة إلى كونه مُخرِجًا وكاتبًا وصانعًا لـ«دُمَى الأراجوز وخيال الظل»، وأستاذا جامعيًّا بقسم علوم المسرح بجامعة حلوان. قدم للمسرح من خلال فرقة «ومضة» أكثر من 23 مسرحية عُرضت بلغات مختلفة في الكثير من الدول، وكذلك قدّم 6 معارض للدُّمَى في مصر وإسطنبول ونيويورك وباريس وبنسلفانيا، ويقتني «مركز أطلانطا للدُّمَى» بأميركا 42 دمية من أعماله، منها ما هو معروض بشكل دائم في المتحف العامّ للمركز. درَّب بهجت عددًا من الفنانين داخل مصر وخارجها من خلال ورش العمل التي أقامها، وسعى من خلال عروضه لخلق لغة مسرحية تعتمد مفردات الفرجة الشعبية (الأراجوز، وخيال الظل، والراوي)، وله منهج خاص به استحدثه لتعليم هذه الفنون والتدريب عليها من خلال ورشه العامة وداخل الجامعات لخلق كوادر جديدة، قدم للمكتبة العربية أول توثيق للأراجوز المصري، ويُعِدّ آخَرَ عن خيال الظلّ للمحافظة على تراث حملة هذه الفنون من الكنوز البشرية. وله الكثير من الكتابات في مجالات مختلفة وإسهامات فنية متنوعة، كذلك شارك في الكثير من المهرجانات والمؤتمرات حول العالم. أسس «ملتقى الدُّمَى الشعبية»، والمهرجان الأول لخيال الظل والأراجوز بالتعاون مع يونيسكو «مدرسة الأراجوز المصري وفنون الدُّمَى».

• أولا أقدم لك التهنئة بتكليل الجهود باعتراف اليونيسكو بالأراجوز؟
• أظنُّ أنَّ مصرَ جميعا لا بد وأن تحتفلَ بهذا اليوم. فالأراجوز رمزٌ مصري، وهو أحد رموز الشخصية المصرية، وتسجيله على قوائمَ اليونيسكو حدث مهم لمصر وللثقافة المصرية، كما أنه العنصرُ المصري الثالثُ الذي يُسجَّلُ علي القوائم العالمية.

• ماذا يعني هذا الاعتراف؟
• أنا أعتبر فوز ملف الأراجوز الذي قمت بإعداده بتمويل شخصي مني وكان نتيجة جهد استمر لـ18عاما بمثابة جائز نويل التي تمثل أعلى اعتراف عالمي بالأدب الرسمي، ويمثل هذا التسجيل أعلى اعتراف عالمي بالفنون الشعبية وهو انتصار لفنون الشعب والشارع وانتصار للمهمّشين من أبناء العالم انتصار للإبداع الشفاهي الذي ظل يصل إلينا من شخص لشخص. عملت على هذا الحلم منذ وقت طويل وها هو العالم كله يتحدث عن هذا المنجز الكبير ويعترف بالفن والأدب الشعبي المصري كجزء أصيل ومؤثر في الثقافة الإنسانية بعدما كان سُبَّة.. سعادتي عظيمة لإعادة الاعتبار لهذا الفن الذي ناضلت من أجله كثيرا.. تهافت البعض الآن على الأراجوز ما هو إلا أثر لهذا النجاح العظيم. لقد أعطيت قبلة الحياة له.

• لماذا وكيف اخترت التخصص في فن الأراجوز بالتحديد؟
• لقد حفظت ذاكرتي أول عرض رأيته لرجل عجوز بجلباب أبيض في شارع سعد زعلول بمدينتي الصغيرة «أبو كبير» وأنا ابن الرابعة، من تلك الساعة أدركت أن هذا هو مسرحنا، فعشت عمري أدافع عن هذا المسرح لأجل هذا الرجل الذي أبهجني عرضه في طفولتي. كبرت ودخلت المسرح، كنت دائمًا ما أشعر بغربة بيني والعلبة الإيطالية، وأشعر أنها صُنِعَت لظروف البيئة الغربية كي يتجمعَ الناسُ وقت البرد. أما مسرحنا فهو مسرح الساحات المفتوحة الأفق.. الصحاري.. الحقول.. الأسواق، حيث يتجمع الناس. لذا اتجهت جهودي تحديدا منذ قرابة 18عاما لإحياء الأراجوز وخيال الظل، فأسست فرقة ومضة، وشعارها «أن لدينا ما يستطيعُ أن يُعَبِّرَ عنا»، بعد أن لاحظتُ أنَّ كل شيء يتغير، فمصر «تخرج من نفسها» كما وصفتها في ذلك الوقت.

الأمانة سرٌ أعظم

• هل واجهتك صعوبات كونك أستاذ جامعة وتهتم بالأراجوز؟
• بالطبع واجهت انتقاد الجميع لي وقتها «إنت عايز تبقي بتاع أراجوز؟ عيب.. إنت أستاذ جامعة..» كانت تلك هي الكلمة الأشهر على لسان الجميع، وكنت أُجيب بسخرية ابن عطاء الله يقول: «إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك» أنا أراجوز لأنه مصري.. أنا أراجوز لأنه منا. وبدأت رحلتي لأنه من الناس وأنا منهم ومعهم وبهم وهكذا كان الرهان والتحدي.

• ماهي المشكلات العملية التي واجهتك؟

• كان أول ما واجهني عدمُ المعرفة بأي شيء عن هذا الفن.. فلم نكن نعلم من يلعبه.. وأين وكيف.. وما هي نصوصه.. وبدأت رحلتي في الموالد أبحث عنه، إلا أنه اختفى.. اختفى من معظم الموالد. ثم علمت أن شارع محمد علي يحتفظ ببعض اللاعبين، وقبلها علمت أن مولد فاطمة النبوية به نصبة أراجوز، كذلك مولد السيدة زينب به عربية أراجوز، وفي الباطنية التقيت بمحمد كريمة متجولا في الشوارع، وفي فاطمة النبوية التقيت بصلاح المصري، وفي السيدة زينب التقيت بسمير عبد العظيم وحسن سلطان، وفي مولد النبي بقرية في الهرم التقيت بسيد الأسمر، وفي شارع محمد علي التقيت بالعظيم أو كما أقول البصير الذي أنار بصائرنا صابر المصري (العم صابر المصري). كان كل شيء سرًّا لا أحد يريد أن يخبرني بشيء أو يعلمني شيئا، وعندها فقط اتخذت قرارًا بالمعايشة أن أذهب إليهم في أماكنهم.. طوال اليوم أجلس في مقاهيهم أصادقهم.. وقد كان. فبعد شهور فتحوا لي قلوبهم وعقولهم وبيوتهم أيضا فعلموني لغة السيم الخاصة بهم.. كانت الأمانة سرًّا أعظم لا أحد يخبرك كيف تُصنع أو كيف ينطق الأراجوز. بدأتُ الخطوات وبدأتُ في التعلم كيف تُصنع الأمانة، وكيف تَنْطِق، وكيف يُصنع وسيط العرض (البرفان – العربة الباردة – الخيمة) وما هي الدمى، والأسماء المختلفة لها.

بريق في الظلام

• كيف فكرت في نشر هذا الفن بعد أن تعرفت عليه؟
• قررتُ أن أقومَ بعمل جيلٍ جديدٍ فكانت أول ورشة لطلابي من قسم المسرح وبعض الفنانين، تعلموا فيها قواعد الفن على يد الفنانين الشعبين حملة هذا الفن، ثم جاءت فكرة تأسيس فرقة لتقديم عروض الأراجوز وخيال الظل «فرقة ومضة» التي كانت مفتاحا لصناعة الأمل ومضة أي بريق في الظلام.. ومضة هي الأمل.. وهذا هو المعني الذي قصدته وكان أول عرض لنا.

• كيف كانت ردود الفعل نحو ومضة؟
• قدمنا الأراجوز للعالم في 30 دولة لدرجة أن عرض الافتتاح لمهرجان الطفل في الكويت بدورته الثالثة كان عن الأراجوز عندها أذكر أنني جمعت الفرقة وقلت لهم لقد نجحتم وتركتم أثرا فعليا على مدار الدورات التي سبقت تلك الدورة كنّا نقدم عروض الأراجوز لا يزعجني ما أراه اليوم من محاولات بعض المشتغلين بالمسرح تزييف الحقيقة بالتعمية وكثرة الكلام بغرض التزييف بقدر ما يسعدني حديثهم عن الأراجوز بعد أن تنكروا له لأنه لم يكن من الفنون الرفيعة.

• هل قمت بالإحياء توظيفا أم استلهاما أم إبقاءً؟
• لقد وظفت نمر الأراجوز التراثية كما هي لتبقى للناس دون تدخل مني وكان الرهان أن نستعيد كرامة فنوننا من الذين تنكروا لها وها هم الآن يتنافسون عليها بعدما جحدوها زمنا طويلا ولولا كتابي الأراجوز المصري الذي قدمت فيه نصوص الأراجوز بجمعها من لاعبيه الحقيقيين من حملة التراث لكان الآن في غياهب النسيان.
• إلى أي مدى نجحت محاولاتك لإحياء فن الأراجوز؟
• أقولها بفخر لقد نجحت في أحياء الأراجوز.. لقد نجحت ومضة تلك الفرقة التي تبنت الأراجوز وضمت أعظم فناني العرائس: عّم صابر المصري. أنتجت فيها ولها 36 عرضا تأليفا وإخراجا. عندما بدأت تجربتي في إحياء الأراجوز وخيال الظل منذ قرابة 18 عاما كان جميع المشتغلين بالمسرح بأنواعه المختلفة دمى/ كبار/ طفل يتنكرون للأراجوز لأنه ليس من الفنون الرفيعة ويؤكدون دوما أنهم ممثلون إذا اضطرتهم الظروف للاقتراب منه على استحياء.. حيث كانت الكلمة في حد ذاتها سبة وشبهة ولم تكن هناك صورة للأراجوز متداولة غير تلك الصورة التي أطلقها متحف الدمى بولاية أتلانتا وهي لا تمت للأراجوز بصلة.. كان الكل يتنكر للأراجوز وينسب نفسه للمسرح بوصفه من الفنون الرفيعة ومسرح الطفل.. حرصت أن أطلق مئات الصور على الشبكة العنكبوتية كي أصحح صورة الأراجوز لدرجة أن معظم الصور المتداولة الآن من تصويري وهو ما يشعرني بالفخر.. كذلك حرصت أن أوثق أرشيفا بالفيديو به عروض الأراجوز من اللاعبين الشعبيين وفِي أماكنهم الطبيعية وعدد هائل من اللقاءات التي كنّا نذهب إليها بالمجان والاستفادة الوحيدة لنا أن نعرف الناس بخيال الظل والأراجوز فأصبح للأراجوز سجلا هائلا على الشبكة العنكبوتية بعدما كان يتعذر أن تجد مقطعا له من الفيديو أو صورة واليوم أراقب بفخر هذا الكم الهائل من محاولات تأكيد البعض على أراجوزيته.

• ما الخطوات التي اتبعتها للحفاظ على هذا التراث؟
• تلك مهمة أخرى وهي صناعة أول أرشيف للأراجوز، إذ لم تُسَجَّلْ عروضُه أو تُحفظ في كتاب، وأخذت على عاتقي هذه المهمة، حيث سجلت عروضه وكتبت كتاب «الأراجوز المصري»، الذي حرصتُ على نشره في المجلس الأعلى للثقافة المصرية باللغتين العربية والإنجليزية، ومعه 19 فيلمًا وثائقيًا لتسجل نمر الأراجوز حية. ثم جاءت خطوة أهم وهي كيف نحافظ على حملة هذا الفن الشعبي ككنوز بشرية؟ استطعتُ وقتها إقناع الوزير فاروق حسني بتخصيص أجر شهري لعدد من اللاعبين، كذلك تخصيص بيت السحيمي لعروض الأراجوز وخيال الظل وذلك بأن نقدم عرضا أسبوعيا لم يتوقف من حينها وحتى الآن يعتمد على الأراجوز وخيال الظل وغيرها من المفردات الشعبية، وانطلقنا منذ قرابة 15عاما كل يوم جمعة ببيت السحيمي حتى الآن وبدأت سلسلة العروض.

• إذن لجأت للدولة لتمويل مشرعاتك الخاصة بالأراجوز؟
• رفضت منطق الإنتاج السائد أن تتحمل ميزانية الدولة التكلفة الإنتاجية للعروض، كذلك أرفض منطق التمويلات، لذا حرصتُ أن أنتج كلَّ العروض من جيبي الخاص، ومن ثم تسويقها لدى وزارة الثقافة والجهات المختلفة عالميا ومحليا، ولقد كانت موافقة الوزير فاروق حسني على تخصيص رواتب شهرية لحملة هذا الفن هو انتزاع باعتراف محلي لفنون الأراجوز.

تطورنا لا بد أن ينطلق من جذورنا

• كيف حققت الانتشار الدولي؟
• انطلقنا عربيا لنأخذ اعترافًا عربيًّا بأن تلك الفنون تمثل مسرحًا كاملاً، خاصة وأنني كمخرج ومؤلف لتلك العروض حرصت على أن أصنعَ مسرحًا تكونُ لغتُهُ خيال الظل والأراجوز والراوي، مسرحًا أدواته مصرية وعربية. وبدأت سلسلة من العروض والورش في دول عربية، قدمنا مئات الورش والعروض داخليًّا وخارجيًّا حتى جاء عرض مسرح بلومسبرج ببنسلفانيا، لنقدم سلسلة من العروض من تأليفي وإخراج مشترك مع المخرجة لوري مكانتس، وبالفعل ذهبنا لتنفيذ 30 ليلة عرض، وإذ بالمشروع ينجح ونقدم 121 ليلة عرض لأربعين ألف مشاهد لانتزع اعتراف عالمي لفنون الأراجوز وخيال الظل. وبعد تلك الرحلة قدمنا عروضنا في أكثر من 30 دولة بلغات مختلفة شاهدها مئات الآلاف من المشاهدين، ولا أبالغ إن قلت ملايين خاصة مع إضافة العروض التلفزيونية. وهكذا انطلقت الفكرة من قواعد ثابتة ثقة بثقافتنا في أن «لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا» وأن مصر «لا تمتلك منتجًا بحجم الثقافة تستطيع أن تسوقه وتعتمد عليه» وثقة أننا «لسنا بحاجة لتمويلات كي نصنع فنًا» وأننا «نستطيع أن نخلق سوقا فنية راقية». أنتجت 36 عرضًا جميعها من تأليفي وإخراجي تعتمد تلك اللغة المسرحية الأراجوز/ خيال الظل/ الراوي بشكل أساسي وعناصر شعبية أخرى. قدمت مئات الورش حول العالم نفذت 12 معرضا للدمي الشعبية عرضت بباريس - تركيا - نيويورك - الكويت – مدريد، كثير منها في متاحف الدمى حول العالم.. قدمنا عروض بلغات مختلفة وقمنا بإنتاج مشترك مع فرق من دول مختلفة مثل المكسيك - أميركا - إيطاليا - الصين - الكويت وغيرها.. أقمنا خمس دورات لملتقى العروسة.

• وماذا بعد؟
• لقد مثل اعتراف اليونيسكو إشهارًا عالميًّا لفن الأراجوز، وتأتي الخطوة التالية بالمشروع الذي قدمته بعمل مدرسة سيتكفل بها اليونيسكو لتدريب كوادر شابة على هذا الفن انطلاقًا من الأساس الذي وضعته من سنوات وهو خلق جيل جديد وربطهم بالسوق الفني.. لقد تحقق حلمي طالما: ناديت به أن لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا لدينا نماذجنا وفنوننا العظيمة أن مشروع تطورنا لا بد أن ينطلق من جذورنا لا من جذور تجربة الآخر. أقول لشباب مصر إذا أردت أن تصل للعالمية فعليك أن تغرق في المحلية.


أحمد الشريف