المجهول حول رفض تمثيل مسرحية الحسين (1)

المجهول حول رفض تمثيل مسرحية الحسين (1)

العدد 589 صدر بتاريخ 10ديسمبر2018

من يقرأ عنوان المقالة، سيتعجب قائلاً: إن مسرحية «ثأر الله» لعبد الرحمن الشرقاوي (1921 – 1987) – بجزأيها: «الحسين ثائرًا»، و«الحسين شهيدًا» – من أشهر المسرحيات في تاريخ المسرح المصري، لما نالها من تعنت رقابي، وتشدد ديني من قبل الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية! وهذه القصة يعرفها الجميع! فهل هناك جوانب ما زالت مجهولة عن هذه المسرحية؟! وردًا على هذا، أقول: أعلم علم اليقين أن قصة المسرحية وما تعرضت له معروف للجميع، بل وأقرّ وأعترف بأن مراسلاتها الرسمية منذ أكتوبر 1970 إلى فبراير 1972 نشرها الدكتور أسامة أبو طالب في العدد الثالث من مجلة المسرح في نوفمبر 1979، وأعاد مصطفى عبد الغني نشر بعضها في العدد الخامس من مجلة المسرح في مارس 1988؛ وبناءً على ذلك، فإنني لن أعيد نشر هذه المراسلات؛ بل سأتحدث عن فترة قبلها، وفترة بعدها.. وهذا ما قصدته من عنوان المقالة؛ بأنها ستتعرض إلى «المجهول»!! أما سبب تناولي للموضوع الآن، فهذا راجع إلى أربعة أسباب: الأول، ذكرى ميلاد عبد الرحمن الشرقاوي السابعة والتسعين، وذكرى وفاته الحادية والثلاثين، حيث كان ميلاده ووفاته في شهر نوفمبر! والسبب الثالث، ذكرى مرور خمسين سنة على تأليف مسرحية «ثأر الله»، التي لم تُعرض على خشبة المسرح حتى الآن.. أمام الجمهور. والسبب الأخير، هو توفير مادة علمية تاريخية جديدة للباحثين؛ لعل أحدهم يخصص بحثه حول هذا الموضوع مستقبلاً.
أزمة قبل الأزمة!
يعتقد الجميع أن أزمة عرض مسرحية (ثأر الله)، بدأت عام 1970، عندما تصدى الفنان كرم مطاوع لإخراجها على مسرح حديقة الأزبكية!! وهذا ما تؤكده المراسلات المنشورة من قبل. والحقيقة أن هذا التاريخ، لم يكن بداية الأزمة؛ لأن هناك أزمة سابقة عليها تتعلق بالمسرحية نفسها، بدأت قبل عامين، وتحديدًا في أواخر عام 1968، وهذا هو أحد الجوانب المجهولة؛ حيث إن أي باحث سيظن خطأ أن الشرقاوي ألف مسرحيته في فبراير 1969، كما كتب بيده في نهاية مسرحيته المنشورة في جزأين. والحقيقة أن الشرقاوي كتبها قبل ذلك بعام، ونشرها أيضا ولكن ليس في كتاب، بل في حلقات بجريدة الجمهورية، طوال شهر رمضان عام 1968.
بطبيعة الحال، عندما ينشر أي مؤلف مسرحي نصًا مسرحيًا جديدًا، يلوح في الأفق سؤال، يقول: متى سيتم تمثيل هذه المسرحية؟ لا سيما وأن المؤلف من المشاهير، أو ممن لهم بصماتهم في الكتابة المسرحية، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي!! ومن خلال تتبعنا لهذه الحلقات المنشورة في الجريدة، لاحظنا اهتماما كبيرًا من القُراء، خصوصًا وأن الحلقات تُنشر في شهر رمضان، وتتحدث عن الحسين رضي الله عنه. وفي نوفمبر 1968، كتب الصحافي الشهير «كمال القلش» مقالة في الجمهورية، بدأها بهذه الكلمات: «كانت جريدة الجمهورية قد تساءلت لماذا نَحرم الناس من مشاهدة مسرحية الحسين على المسرح بحجة منع ظهور (شخصية الحسين) على خشبة المسرح.. وأوردت الجمهورية عددًا من الأمثلة التي ظهرت فيها شخصيات الصحابة في السينما والتلفزيون».
هذا الكلام يعني عدة أمور، منها: إن جريدة الجمهورية هي من طالبت بتمثيل المسرحية!! وأن هناك نصًا بمنع ظهور شخصية الحسين على خشبة المسرح!! كل هذا حدث قبل أن يفكر كرم مطاوع في إخراج المسرحية!! وبالبحث والتقصي، اكتشفنا وجود فتوى دينية بمنع تجسيد الحسين على خشبة المسرح، بسبب مطالبة الجمهورية بتمثيل مسرحية الشرقاوي!! لذلك أثار الصحافي هذا الأمر، وبدأ يسأل أهل العلم والدراية، مثل الشيخ أحمد حسن الباقوري مدير الجامعة الأزهرية، الذي أدلى برأيه في الموضوع، فنشرت الجمهورية رأيه هذا يوم 16 / 11 / 1968، فرد عليه الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوى بالأزهر. فقامت جريدة الجمهورية بنشر الرد الأخير، الذي يحمل في طياته رد الباقوري، ويحمل أيضا نص الفتوى الدينية. ولأهمية هذا الرد، سأنشره كاملاً، كما نشرته جريدة الجمهورية في أواخر نوفمبر 1968.
قالت الجريدة: «ذهبنا إلى فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري مدير الجامعة الأزهرية نسأله رأيه. وتفضل مشكورًا وقال رأيه دون المساس بأحد.. بل ومقدرًا كل رأي يخالف رأيه.. وقد أرسل رئيس لجنة الفتوى بالأزهر فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رأيه ورأي لجنة الفتوى.. وهذا نص ما وصل إلينا: نشرت جريدة الجمهورية في عدد السبت 16 / 11 / 1968 كلامًا منسوبًا إلى فضيلة الشيخ أحمد الباقوري يقرر فيه – إنه لا يعرف نصًا دينيًا يمنع ظهور الشخصيات الإسلامية والصحابة على المسرح أمام الجمهور.. ولا يعرف نصًا في الشريعة الإسلامية يحرم تمثيل قصة من القصص الإسلامية يراد بها تنمية شعور طيب إلخ. ويقرر فضيلته إنه من احترامه لوجهة نظر الفتوى والذين أفتوا بذكر إنه قد حدث وظهر صحابة الرسول في فيلم ظهور الإسلام إلخ.. ولجنة الفتوى بدورها تشكر للشيخ الباقوري ما أظهره من احترامه لوجهة نظرها، غير إنها لا تجد ملاءمة بين هذا الاحترام، وبين مهاجمة فتواها العلمية بما نسب إليه من كلام ينقصه التحقيق العلمي. وكانت اللجنة تنتظر من جانب سيادته تصحيحًا لما نشر عنه، ولكنها لم تجد في عدة أيام تصريحًا من سيادتك في هذا الشأن الخطير. فلم يسعها بعد الانتظار إلا تصحيح وجهة نظره هو فيما قال به، وأملاه على الناشر وأقر نشره بالسكوت عليه. وكم كنا نود لم علم الشيخ الباقوري بوجهة الدين فيما نحن بسبيله، ولو إنه كان كذلك لما أقدم على فتواه التي لم تجد لها دليلاً غير إنه لا يعلم نصًا يمنع من تمثيل الصحابة، والمفروض أن عدم العلم منه بالدليل يمنعه من الإقدام على الفتوى حتى يعلم الحق بالاستطلاع أو بسؤال أهل الذكر كما أمر الله بذلك. وهذا شأن أهل العلم قديمًا وحديثًا رهبة منهم لقول النبي – صلي الله عليه وسلم – (أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار). وكل ما رأته اللجنة جديدًا للشيخ الباقوري إنه رأى في مدينة جاكرتا بإندونيسيا تمثيلاً لشخصيات إسلامية دون إنكار من أحد هناك. ولو كانت جاكرتا هي مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لكان عملهم حجة إسلامية يثبت بها عند الشيخ حكم شرعي كما هو مذهب الإمام مالك ولكن جاكرتا ليست كذلك بل كان المفروض في الشيخ الباقوري وهو هناك يمثل الأزهر أن يصحح الموقف بعلمه الديني وألا يتلقف عن غير العالمين هناك ونحن نكتفي بهذا التقديم الموجز عن كثير نتحاشاه. وإلى هنا ترى لجنة الفتوى أن تنشر فتواها مرة ثانية ليعلم فضيلة الشيخ الباقوري وليعلم معه من يؤازرونه في اقتحام هذا المجال أن الفتوى مستمدة من نصوص القرآن والسنة، وليست كما قالوا – مفاجأة غريبة للحركة الثقافية. وأن الفتوى قاصرة على الصحابة، ومفصلة واضحة، ولعل في نشرها تبصرة وإحقاقًا للحق. وكنا نود أن يستريح الرأي العام من هذه البلبلة المصنوعة في ظروف نحن أحوج فيها إلى الهدوء، والاستظلال براية الدين وتوحيد الكلمة.
نص الفتوى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد، فنفيد بأن التمثيل في ذاته وسيلة ثقافية سواء كان على المسارح أو الشاشة أو التلفزيون، فإن كثيرًا من وقائع التاريخ، وأحداث السياسة ومواقف الأبطال في ساحات الجهات، والدفاع عن الأوطان ينبغي أن يتجدد ذكرها وينادى بها لتكون فيها القدوة الحسنة للأجيال الحديثة. وخير وسيلة لإحياء تلك الذكريات أن يكون القصص عنها بتمثيلها تمثيلاً واقعيًا. غير أن التمثيل قد يتجاوز الأهداف الجدية، ويتخذ وسيلة لما هو ممنوع، ولبث الدعاية نحو أغراض غير كريمة، وخصوصا في ما يتعلق بالتاريخ حول شخصيات من السابقين والتاريخ يكون أحيانا مشوبًا بما يحتاج إلى تمحيص من العصبات. وبما أن السابقين من الصحابة رضي الله عنهم لهم مقام كريم، وشأن خاص بين جماعة المسلمين، وأن شخصياتهم الإسلامية مستمدة من شخصية الرسول – صلى الله عليه وسلم – بسبب سبقهم إلى الإيمان برسالته والتفافهم حوله، وحسن اقتدائهم به ومؤازرتهم له في تبليغ الدعوة، وصدق جهادهم في سبيلها. حتى بلغ من شأنهم عند الله تعالى – أن القرآن الكريم أشاد بهم في كثير من آياته نحو قوله تعالى (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فهؤلاء المؤمنون هم جمهرة أصحابه، من المهاجرين والأنصار الذين بايعوا النبي تحت شجرة الحديبية على مقاتلة الكفار إذا ظلوا معارضين له في إتمام نسك العمرة، ثم تابعوه في الصلح الذي عقده مع الكفار بتوجيه الوحي له. كما أشاد القرآن بهم في قوله تعالى (والذين آمنو وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا، ونصروا أولئك هم المفلحون حقًا لهم مغفرة ورزق كريم). فهذا ثناء تردد كثيرًا في كتاب الله على الصحابة جميعًا، وفيه توجيه لنا، وإرشاد إلى أن منازلهم عند الله فوق منازل سواهم من الناس. وزيادة في التعرف بهم قال النبي صلى الله عليه وسلم (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا من بعدي) يعني اتقوا الله في شأن أصحابي فلا تستهينوا بأقدارهم ولا تجعلوهم من بعدي مثار جدل بينكم، ولا تعرضوهم للمساس بهم. وبما أن تمثيلهم على المسارح أو الشاشة قد ينحرف بهم إلى ما يمس شخصياتهم أو يميل بهم عن تاريخ الحق بسبب ما يتعرضون له أحيانا من أكاذيب القصاصين، أو أهواء المتعصبين لبعض ضد البعض الآخر من جراء الفتن والخلافات التي قامت حولهم في أزمانهم وانقسام الناس في تبعيتهم إلى طوائف وأشياع بسبب الدسائس بينهم – فإن اللجنة إزاء هذه الاعتبارات تفتي بما يأتي:
أولاً – عدم جواز ظهور من يمثل كبار الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن والحسين، ومعاوية، وخالد وأمثالهم رضى الله عنهم لقداستهم، ولما لهم من المواقف التي نشأت حولها الخلافات، وانقسام الناس إلى طوائف مؤيدين ومعارضين. ولا يجنح على هذا بما سبق من تمثيل خالد بن الوليد في روايته السابقة، فإن ذلك التمثيل لم يكن جائزًا شرعًا، ولم يكن فيما نرجح مبنيًا على فتوى من إحدى الجهات الشرعية، وهذا العمل الباطل لا يبرر العود إليه ثانيًا. أما من لم ينقسم الناس في شأنهم كبلال، وأنس، وأمثالهما فيجوز ظهور من يمثل شخصياتهم بشرط أن يكون الممثل غير متلبس بما يمس شخصية من يمثله. وهؤلاء قد مثلوا في فيلم ظهور الإسلام. كما أن تمثيل الحلاج في روايته التي استشهد بها بعض السائلين لا يعتبر تمثيلاً لصحابي، إذ الحلاج ليس في مستوى الصحابة، ولا قريبًا من الصحابة، وتمثيله لا يتصل بالجانب التشريعي كما هو الشأن في الصحابة – رضى الله عنهم.
ثانيًا – تفتي اللجنة بعدم جواز ظهور من يمثل زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – وبناته لأن حرمتهن من حرمته عليه الصلاة والسلام، وتحريم تمثيل النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر مفروغ منه، وقد قال الله في شأن نسائه (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) وبناته أولى، لأن كلا منهن كقطعة منه – صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا – من لم يثبت صحبته من الرجال المسلمين، وكذلك التابعين وأتباعهم لا مانع من ظهور من يمثل شخصياتهم متى روعي في التمثيل ما من شأنه ألا يخل بكرامة المسلم. وأما النساء المسلمات فيجب الاحتياط في تمثيلهن أكثر مما يحتاط في تمثيل الرجال المسلمين الذين لم يثبت صحبتهم، على المرأة التي تقوم بالتمثيل ألا يوجد مع تمثيلها اختلاط بأجنبي عنها من الرجال ولا يصحبه كشف ما يحرم كشفه من جسمها، ولا يكون معه تكسر في صوتها ولا حركات مثيرة للغرائز ولو مع ستر الجسم، إذا كان الأمر كذلك فلا حرمة في التمثيل إذا كان التمثيل لغرض علمي يعود على الأفراد والأمة بالفائدة. وأما إن صحبه اختلاط بالرجال الأجانب أو كشف ما لا يحل كشفه من جسمها أو وجد معه تكسر في صوتها أو حركات مثيرة للغرائز بجسمها ولو مع ستره أو كان لباسها يحدد مفاتن جسمها فإن التمثيل حينئذ يكون محرمًا على من تقوم بهذا التمثيل.
رابعًا – من لم يثبت إسلامه كأبي طالب وغيره ممن له عون أكيد في دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ونصرته لا مانع من ظهور من يمثله إذا روعيت صلة مودته للنبي عليه الصلاة والسلام وقرابته له بحيث لا يكون في تمثيله ما يخدش مقامه تقديرًا لما كان منه نحو الرسول عليه السلام من مناصرة وعون أكيد. هذا وإن المصلحة العلمية التي ترمي إليها مؤسسة المسرح من تمثيل الصحابة لا تساوي الضرر الناشئ عن ذلك، والقاعدة الشرعية – إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح – إلى هنا يتضح رأي لجنة الفتوى بالأزهر في منع هذا التمثيل. والله تعالى أعلم. [توقيع] محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.
استطلاع رأي
لم يتقبل كمال القلش الفتوى قبولاً نهائيًا، وفتح مساحته في جريدة الجمهورية لمن يريد أن يدلي برأيه في القضية، قائلاً: «نحن لم نقصد أن نخالف في الرأي لجنة الفتوى.. ولكن الذي نقصده من مواصلة استطلاع آراء المسؤولين ثقافيًا ودينيًا هو أننا لا نوافق على أن تعطى أي جهة من الجهات لنفسها سلطات المنع والتحريم دون سند قانوني ودون وجه حق وبطريقة تخنق الإبداع الفكري والفني. لهذا نحن نواصل هذا الجدل.. وسنواصل استطلاع آراء المفكرين والأساتذة الكتاب الإسلاميين. وسنرحب وسننشر كل رأي يصل إلينا ويحمل فكرًا (لم يسبق نشره) مؤيدًا أو معارضًا للقيود التي توضع على الحركة المسرحية والثقافية».. وبالفعل استجاب البعض لهذه الدعوة، وهذا ما سنتحدث عنه في المقالة القادمة!

 


سيد علي إسماعيل