وقت التجوال الخوف والألم في العلاقة بالآخر

وقت التجوال الخوف والألم في العلاقة بالآخر

العدد 586 صدر بتاريخ 19نوفمبر2018

عجيب هو أمر العروض الراقصة التي تحاول السباحة في دهاليز العلاقات الإنسانية فتجد نفسها مرغمة على الوقوف عند الحدود الدنيا من تفسير العلاقات والتشوهات الإنسانية، تقفز في مساحة الفضاء بأفق يحاول الاستجابة مع الأفكار والطموحات ويجد نفسه مضطرا لبعض اللحظات الحركية كدليل لمتلقٍ شغوف بمعرفة الحكاية، هنا تبدو الحركات والأشكال وكأنها تسافر ثم تعود من دنيا بعيدة كي تقف وتقول لك هل استوعبت الدرس؟
حقيقة أخذني العرض الروسي الراقص «وقت التجوال» للمخرجة - ليديا كوبينا - الذي حصل على جائزة أفضل عرض مسرحي في مهرجان الصواري المسرحي للشباب في دورته 12 لعالم العروض التي تعتمد على التعبير الحركي كوسيط وحيد لتقديم رؤية للعالم، هنا ستلمح ذلك الوعي الفضفاض الذي يزخر بكثير من الأفكار والأطروحات الشيقة عن علاقة الأنا بالآخر الغريب أو القريب أو عن علاقات الحب والخوف والطموح والرفض والعراك والتصحر، فالآخر قد يكون المعين أو الحبيب أو العدو أو الأرض الرخوة المحايدة التي تستجيب لحفر العلاقات بين البشر المولعين بالمعرفة والسباحة في بحور لم يطأوها أو يستسيغوها بالقدر الكافي، والحكاية في كليتها تدور في فلك محاولة الاستيعاب والطموح في إذابة ذلك الجليد الناشئ بين الأنا والآخر، قد تستغرق الرحلة لحظة إنسانية صادقة وقد تستغرق الدهر كله، هكذا علمتنا الحكاية وهكذا بدت سباحة فريق العمل من بداية اللحظة الأولى التي يمكن إرجاعها للولادة العجيبة للإنسان، فتلك الأناوات التي تنحصر في شرنقة واحدة تفور بكثير من الطموح وتحاول التعرف على ذلك العالم العجيب الذي يحيط بها.
لن تقابلك هنا حكايات راقصة مكملة لبعضها البعض بقدر ما سوف تقابلك حكايات تبدو كدوامات وأطر مكتملة التكوين كل منها تمثل حكاية ما أو وعيا ما، أطر درامية مكتملة تمثل في مجموعها كثير من القضايا الإنسانية التي أشرنا إليها، واللافت أن فريق العمل يحاول قدر الإمكان أن يبني مجموعة من الرموز مع كل مشهد جديد تقربه من التلقي البسيط الذي يحاول فك رموز اللعبة الدرامية والتفاعل معها، وقد اشارت الورقة المصاحبة للعمل لكون العرض (مستوحى من الصور المرتبطة بموضوع العلاقة بين الإنسان والوقت تلك العلاقة التي دائما متناقضة ومأساوية ومتضاربة وأبدية حول فقدان الوجود والإدراك الجسدي لتدفق الوقت ومدى الحياة ووحدة الناس في الكون).
في كل مرة يبدأ الإنسان ذلك الكائن المهزوم أو الوحيد في محاولة جديدة لبناء علاقة ما مع الكون من حوله حتى لو كلفه ذلك الدخول في عراك مستمر مع موجودات الطبيعة من حوله (ناس – شجر – طين) تبدأ العلاقات في التشكل ومن ثم بداية تعارف أو بداية علاقة قد تؤدي للعراك أو التفاهم قد تؤدي للحب أو الخصام والنفور، من هنا يمكننا القول إن طبيعة العرض تسمح بإنتاج إشارات كلية قد تغيب عن المتلقي ولا تبقى في خياله كثيرا وهي مسألة تمثل خطورة كبيرة على ذلك النوع من العروض فالمتلقي المتفاعل والمهتم حتما ستذوب ذاكرته لكون الحفر هنا بسيطا ويقف عند البدايات لا يملك خصوصية كبيرة أو حفرا ذا قيمة كبيرة يشير لقضايا وحضور متماسك، هو فقط حضور جميل ويصنع صورا موحية سريعة التكوين سريعة الهدم، يزين ذلك التكوين عادة تشكيل سينوغرافي مميز بألوان مختارة بعناية فائقة صادرة من كشافات مسلطة من زوايا دقيقة كي تصنع وتساعد الصور التي تنتجها مجموعة الراقصات المتشحات باللون الأبيض.
تكون العرض من مجموعة مشاهد معتنى بصورها النهائية من حيث جودة الحركة أو إنتاجها لإشارات دالة أو حتى تأسيسها لعمومية القضايا المتناولة، وسواء دخلت الذوات الإنسانية في عراك أو تراضي أو تسامح أو حب فالسمة العامة هي التكوين السريع الذي يعتني بزوايا الضوء واللون ويعطي دفعة قوية للشكل كي يبني صورا لامعة عند المتلقي المشغول بتلك الجودة ولا يعنيه ماذا خلف تلك التشكيلات الساحرة من معانٍ مأساوية أو واقعية أو حتى رومانتيكية، وعلاج الزمن في هذه الحالة جاء إلينا برهانات شبة محايدة أو قل رهانات لا تعطيك نفسها بشكل كامل، على أن هناك دائما في مؤخرة الرأس قدرة هائلة على إنتاج المعاني والمواقف الفعالة، وحتى حين انتهت العلاقات بالعودة مرة أخرى لشرنقة البدء كان التكوين يراهن على جذب المتلقي نحو نهاية مرضية لتلك الذوات التي خرجت من الشرنقة ثم عادت إليها من جديد وما ذلك الخروج والعودة إلا دائرة كبيرة تدور فيها الإنسانية المعذبة في محاولة فهم الآخر والكون من حولها.
يمكنك أن تلحظ في دنيا العرض أيضا قدرة أولئك الراقصين ووعيهم الفارق في إنتاج أشكال ومفاهيم عالية الجودة من خلال استخدام موتيفات قليلة موحية (كبعض أغصان الشجر وإطارات السيارات الممتلئة بالطين الأسود أو البني الداكن).
كنت قد دخلت بعد العرض في نقاش طويل مع مخرجة العرض أنا بإنجليزيتي الضعيفة وهي بإنجليزيتها المشوهة أيضا لكنني سعدت بكونها قد استوعبت تماما وجهة نظري التي ترى أن هذا النوع من التكوين الجمالي لن يجد مستقبلا مهما لو أنه فقط وقف عند العموميات من القضايا والسبيل الأساسي لمستقبل تلك العروض هو البحث عن رهانات قوية يشتبك فيها فريق العمل مع قضايا ملحة بشكل مؤسس يخوض في قلب وفلسفة موضوع ما ويطرح بقوة وجهة نظر فريق العمل جماليا وبمنطق لا يميل للعموميات التي تعني الحفر على الرمل بريشة فنان لا يثق تمام الثقة في استيعاب المتلقي للموضوعات المعقدة.


أحمـد خميس