في الحادثة بين جون فاولز ولينين الرملي

في الحادثة بين جون فاولز ولينين الرملي

العدد 567 صدر بتاريخ 9يوليو2018

يشهد المسرح المصري الآن تجربة مثيرة ومدهشة، تشتبك مع السلطة والسياسة والإنسان، تدين إيقاعات النفي والغياب، وتنذر باحتمالات السقوط والاستسلام أمام واقع شرس، يحكمه فساد وحشي، استلب نبض الوجود، ودفء الحياة، وأعلن بصراحة عن موت الإنسان.
هذه هي مسرحية الحادثة، التي يقدمها مسرح الغد الآن، للمؤلف الكبير لينين الرملي، والمخرج الواعد عمرو حسان، تلك التجربة التي امتلكت إمكانات تحويل الواقع العشوائي المجنون، إلى واقع فني مغاير، مشحون بسحر الجمال، ووهج الثورة، وبريق التمرد، وحرارة الاشتباك الكاشف مع الحقيقة المراوغة، ومع مسارات الرغبة في امتلاك الذات، فمن المعروف أن الواقعية هي قيمة نسبية دائما، وأن كل عصر له نموذجه الجمالي الخاص، وواقعيته المختلفة، التي تتجدد وفقا لمتغيرات العلاقة بين الإنسان والعالم، وفي هذا السياق يظل أثر التجربة الفنية مرتبطا بإمكانات صياغته لواقع جديد، يرتكز على معطيات ثقافية محددة، وعلى رحابة جماليات واقعية التصور.
ويذكر أن المؤلف قد انطلق من وعي مشحون بعذابات سقوط كل أحلام العدالة، ومن يقين عارم بقسوة موجات الاستبداد والتسلط، لنصبح أمام مواجهة قاسية لتناقضات الذات والأعماق، اقترب فيها من تلك اللحظات النادرة، التي يصبح فيها المتلقي أكثر إدراكا لما يدور في عالمه.
أثارت مسرحية “الحادثة” ردود فعل عارمة في الأوساط الثقافية والمسرحية والنقدية، عندما عرضت للمرة الأولى في عام 1994، وفي هذا السياق يقول لينين الرملي: قرأت هذه القصة للكاتب الإنجليزي جون فاولز، وشاهدتها فيلما منذ سنوات، وشعرت على الفور برغبة شديدة في إعادة كتابتها مرة أخرى.. كنت قد قررت ألا أعد أي أعمال أجنية، بعد مسرحية “انتهى الدرس”، ومسرحية «علي بيه مظهر»، رغم نجاحهما، فالنقد الذي يتجاهل مئات المسرحيات والأفلام المقتبسة وبرداءة عادة، لا يعترف بمسرحية أقر كاتبها أنه استلهمها من عمل آخر. ورغم هذا فإنني لم أستطع مقاومة إلحاح هذه القصة، ووجدت نفسي مدفوعا إلى محاولة تقديمها للناس، ذلك أنني منذ اللحظة الأولى قرأتها قراءة مختلفة، فالقصة تكاد تكون شرقية لحما ودما، يبدو حدوثها في الغرب، كحدث استثنائي عارض، أما في منطقتنا فهي ليست حادثة، بقدر ما هي واقع يومي متكرر.
إذا كانت المناهج النقدية الحديثة لا تعترف بقراءة واحدة للنص، ولكن بقراءات كثيرة ومختلفة، بعد أن تخلص النقد من أسر الدلالة المقيدة، والمنظور الأحادي العقيم، ليصبح النص ساحة لتفجير المعاني والدلالات والآيديولوجيات، لذلك فإن لينين الرملي, كان يمتلك الشرعية الفنية والنقدية في استلهام قصة جون فاولز وتحويلها إلى عمل مسرحي، وقد أثبتت السنوات أنه من الأعمال الثرية المشاغبة، التي تبعث جدلا عارما مع وجودنا الشرس. وفي السياق نفسه، كان من العسير على مؤلف يمتلك الرؤية الفكرية الواعية أن يقاوم تلك الرحلة المثيرة في أعماق رجل متسلط، على المستوى النفسي والسياسي والاجتماعي، لنصبح أمام إدانة صارخة للعقلية العربية التي تنهار في دوائر الردة والانكسارات.
دخل المخرج الشاب الواعد عمرو حسان أعماق حادثة لينين الرملي، أجرى على النص تعديلات بسيطة، واستطاع أن يحول الرموز والدلالات إلى وجود فني متدفق يبعث توترا حيويا في وجود المتلقي، كما أنه كشف برشاقة عن آليات التسلط والرضوخ، التي تحرك وجود الرجل وتدفعه لفرض حصاره المريض على حياة المرأة، حين تتبنى هي أيضا مظاهر قهرها، وترى نفسها من منظور الاختزال الذي يبعثر كيانها. وفي هذا السياق، كشفت رؤى الإخراج عن موهبة عمرو حسان وخياله الخصب، وبصماته المتفردة، وتميز إيقاع العرض بالتدفق والحيوية، رغم دورانه على المستوى النفسي والسياسي العميق، وتضافرت خطوط الحركة، مع التشكيل الضوئي والمؤثرات السمعية، بأسلوب بالغ الحساسية، جاء مرتبطا مع الحالة النفسية المتقلبة، فتعمقت معه دلالات التسلط والرضوخ على المستويات الفعلية والرمزية والجمالية.
اتجه منظور الإخراج إلى شاشة السينما لنتعرف ببساطة على تلك الشابة المصرية، المعذبة بقهر وإحباط الطبقة الفقيرة الكادحة، ضجيج الشارع يبعث حضورا حيويا مدهشا، يتضافر مع صخب أعماق بطلة العرض التي تعمل في إحدى المؤسسات وتدرس في الجامعة، مسئولة عن أسرتها بعد مرض أبيها، تتجه كل مساء إلى محطة الأوتوبيس لتعود، لكنها لم تلحق به في تلك الليلة، وظلت منتظرة، حاصرتها العيون الوقحة والرغبات الحارة، فقد اعتاد الرجال أن يخترقوا حياة النساء، ويختزلوا المرأة إلى بعدها الجنسي الأنثوي. وفي هذا السياق، نلاحظ وجود ذلك الشخص الذي نراه يجلس على المحطة في هدوء يراقب كل ما يحدث أمامه، ثم يندفع بقوة إلى الفتاة فيخدرها ويخطفها ويذهب بها بعيدا.
في الفيلا الأنيقة الهادئة بعيدا في الصحراء، تتخذ الأحداث مسارها على خشبة المسرح، حيث تفيق الشابة لتجد نفسها وحيدة في مكان لا تعرفه، تصرخ فيأتي الشاب ويخبرها أنه خطفها، لأنها سكنت أعماقه، ولا يستطيع الحياة بدونها، قرر أن ينقذها من ظروفها الصعبة ومن الذئاب المحيطة بها. وفي هذا الإطار يتضافر الضوء مع الحركة ولغة الجسد والموسيقى، وتتقاطع المستويات ليظل المتلقي لاهثا خلف الدوافع المحركة للعرض، وحين تحاول زهرة أن تتحاور مع الرجل تدرك أنها أسيرة ذاته المريضة، وعليها أن تتعامل مع هذا الواقع المخيف.
يمتد الوهج الكوميدي الجميل، وتقرر الشابة أن تبقى معه لمدة أشهر حاولت أن تضلله وتهرب لكنها فشلت، خدعته ببراءة في سهرة الخميس، وتفتحت مسارات سقوط الرجل الشرقي، شهد الليل اندفاعها المجنون إليه، حين رأت أشباح الظلام، واكتشفت أن الشبح لم يكن إلا رجلها العاشق نفسه، فقد أراد أن يشعر أنه هو الأمان والقوة والحماية، وعبر جماليات الأسر الأسطوري تندفع الفتاة إلى إقناعه أنها تحبه بالفعل، تلك الحالة التي تبلورت عبر جماليات لغة الجسد والحركة وسحر الأداء، وهكذا تتصاعد إيقاعات الصراع، ويقرر الحبيب العاشق أن يتزوجا، فقد اقترب الشهر من نهايته، وسوف يدعها تعود لأهلها.
في تلك الليلة الفارقة شعرت الفتاة بآلام شديدة، طلبت منه أن يحضر الطبيب فتردد ثم خرج، نسي المفتاح ووجدته زهرة، وللمرة الأولى امتلكت فرصة الهروب والحرية، لكنها لم تفعل، ترددت وحاصرها الخوف، فقد تحالف واقعها المقهور مع تسلط حبيبها وأصبح من المنطقي أن ترضخ تماما للقمع والاستبداد، وحين يعود الرجل دون أن يأتي بالطبيب، تندفع زهرة وتغلق الباب بالمفتاح، وتلقي به من الشباك، ويعايش المتلقي حالة من الجمال الأخاذ عبر شراسة لعبة تبادل الأدوار، بعد أن فقد الرجل حريته وظلت هي تردد كلماته نفسها في البداية.. خطوط الحركة تأخذنا إلى رقصة الموت والحياة، وندرك جيدا أن الموت يتعادل مع القهر، ورغم أن الشابة الجميلة كانت تقطع المسار نحو النهاية المحتومة، فإنها استطاعت أن تسقط رمز التسلط، حتى وإن كانت ستفقد حياتها.
تنتهي التجربة اللامعة التي شاركت فيها النجمة القادمة ياسمين سمير، صاحبة الحضور الثري المتدفق، وشاركها الفنان الجميل مصطفى منصور, الذي يمتلك طاقات من الحضور والأداء الماهر، كذلك شارك في العرض ريهام أبو بكر، عمرو عثمان، محمد فوكس، عمرو أحمد، وأحمد سيد. كان الديكور للفنان محمد فتحي، والإعداد الموسيقى لمحمود صلاح، والإضاءة المتميزة لعز حلمي، والدراما الحركية لمحمد علي بكر.
 


وفاء كمالو