طقوس حقائق وأرقام مثيرة

طقوس حقائق وأرقام مثيرة

العدد 560 صدر بتاريخ 21مايو2018

تعود نشأة المسرح إلى الشعائر والاحتفالات الدينية، فيحكي لنا التاريخ مثلا عن مراسم الاحتفال بتتويج سونسرت الأول من الدولة الوسطى (الذي حكم في الفترة من 1971 ق. م حتى 1926 ق. م) في مصر القديمة وما صاحب ذلك من طقوس لها طابع مسرحي شارك فيها الملك بذاته لتأسيس شرعيته وتثبيت أركان ملكه، مما يعد طقسا دينيا في الأساس، فالمصري القديم آمن بأن الملوك أبناء الآلهة. وكذا عيد الإله حورس في الدولة الحديثة، حيث تمثال الإلهة حتحور يُنقل من معبدها في دندرة إلى مقر الاحتفالات في إدفو، ثم يلي ذلك ما يقوم به الكاهن أو الملك ذاته من تقمص دور الإله حورس، ثم نحر فرس النهر، الذي كان يمثل ست إله الشر، وإراقة دمائه. وشملت العروض الدينية أيضا أسطورة أوزوريس ومقتله وتقطيعه إربا على يد ست، فكان الكهنة يقومون بإحياء ذكرى عذابات أوزوريس في معبده في أبيدوس حيث مثواه الأخير، فيقومون بأداء أدوار الآلهة وهم يرتدون الأقنعة، ويقوم أفراد من عامة الشعب بدور المجاميع التي - وكما يحكي لنا هيرودوت - كانت تناصر الإله أو تعترض موكبه، وقد يحدث أن تتماهى المجاميع مع العرض الديني، فيحتدم القتال بينها، ليصل إلى الضرب بالعصي، فإذا بالضحايا تتساقط، ورغم قوله بأن المصريين كانوا يشككون بتلك الرواية، ولكنها وإن صحت فإنما تبرهن على نشوة الاقتتال وفورة الدماء، والتي تبدو جزءا أصيلا من التاريخ الإنساني وبعض الممارسات الدينية التي أقرت تقديم الأضاحي وحتى الاقتتال لنصرة الدين ورفع رايته.
وكذا الحال في بلاد اليونان، حيث بدأت الدراما كطقس ديني لتخليد ذكرى عذابات الإله ديونيسوس Dionysus، فلقد كادت له هيرا زوجة أبيه زيوس وأوعزت للجبابرة (التايتن)، وهم الآلهة الذين أفل نجمهم بعد ظهور الآلهة الأولمبية، أن يأخذوه إلى البرية ويمزقوه إربا وهو لا يزال طفلا صغيرا، إلا أن زيوس أعاده إلى الحياة على هيئه إله يافع، فصار إله الخصب والخمر والنشوى، وكان أغلب أتباعه من الساتير (وهي آلهة على هيئة نصف إنسان ونصف ماعز لاعتقاد الإغريق بأن الماعز هو رمز الخصوبة والدفق الجنسي)، وكان بقية أتباع الإله ديونيسوس من الحوريات والنساء، واشتهرت تلك التجمعات باللهو والشهوة والصخب والمجون، وبدأ أتباع الإله الجديد ديونيسوس في الإتيان بطقوس تحاكي ما تعرض له الإله ديونيسوس من عذابات وويلات على يد الجبابرة، فكانت الكاهنات يخرجن إلى البرية وهن ملطخات الوجوه ليغنين ويرقصن، ويحتسين الخمور، ويقدمن الأضاحي ويرقن الدماء تخليدا لعذابات الإله، وقد يصل الأمر أن تزداد وتيرة هياجهن لرؤية الدماء، فيقمن بتقديم الأضاحي البشرية ويقطعنها إربا. وشيئا فشيئا تطور فن الدراما في بلاد اليونان، وتخلق من رحم تلك الطقوس الدينية، فتم استبدال الكاهنات بالكهنة حين استحال المجتمع من الأمومية إلى الأبوية، وبدلا من الخروج إلى البرية وتقديم الأضاحي الحية، قام الكهنة بتمثيل الطقوس وترتيل الأناشيد باستخدام الكورس حول مذبح الإله ديونيسوس. ثم كان أن أفسح ثسبيس Thespis، وهو رجل عادي وليس بكاهن، في القرن السادس ق. م المجال لنفسه ليقوم بدور إلى جانب الكورس، ما كان له عظيم الأثر على تطور فن الدراما، فبالإضافة إلى الحوار الذي نشأ بينه وبين الكورس مما ساعد على تصعيد وتيرة الصراع، أصبح من الممكن للبشر العاديين القيام بدور الآلهة أو الملوك، وهو ما كان مقصورا على الكهنة فيما سبق، وبهذا صار ثسبيس أول ممثل، وكان من إسهاماته أيضا أن قدم شكلا بدائيا لخشبة المسرح، إذ كان يتجول بين المدن مع الكورس الخاص به بعربته المحملة بالأقنعة والأزياء والتي غالبا ما كان يستخدمها كخشبة مسرح بدائية، وهو ما أسس لانفصال المسرح عن المعابد والمذابح ونشأته ككيان مستقل. ثم قام براتيناس Pratinasبتقديم الأقنعة، والتي صار الكورس والممثلون يرتدونها بدلا من طلاء وجوههم، ويحكي لنا أرسطو في «فن الشعر» كيف قام اسخيليوس Aeschylusفي القرن الخامس ق.م بزيادة عدد الممثلين لاثنين بدلا من ممثل واحد، كما قلص من دور الكورس مما أتاح مساحة أكبر للحوار وزاد من مساحة الدراما في العمل، ثم تلاه سوفوكليس Sophoclesوالذي أضاف ممثلا ثالثا، فكان أن شهد القرن الخامس ق.م في اليونان وتحديدا في أثينا أعظم عصور الدراما في تاريخ الحضارة الأوروبية.
هكذا بدأت الدراما في أغلب الحضارات، بدأت من رحم الأساطير والأديان والطقوس والتي غالبا ما كانت تنطوي على تقديم الأضاحي، وتعود أصول كلمة تراجيديا tragedy)) إلى الكلمة اليونانية (tragodia) والتي تعني حرفيا «أغنية المعزة» «tragos +odie»، ولذلك تفسيرات عدة فهناك التفسير القائل بأن الماعز كانت تقدم كقرابين للآلهة بنهاية الطقوس الدينية، ومنها أن الممثلين كانوا يرتدون جلود الماعز للقيام بأدوار الساتير. كما نشأت الدراما في الصين، وفي العصور الوسطى في أوروبا أيضا من رحم الطقوس الدينية.
يبقى أن الاختلاف بين مصر القديمة وبلاد اليونان هو أن الطقوس الدينية ذات الطابع المسرحي في مصر ظلت حبيسة المعابد ولم تخرج منها، فلم ينضج المسرح ويتطور إذ ظلت إرهاصات المسرح مرتبطة بالشعائر الدينية، فما أن أفل نجم تلك الحضارة، حتى انتهت معها إرهاصات المسرح المصري، أما في اليونان، فلقد استطاع المسرح أن يخرج من عباءة الدين إلى رحابة الإبداع، فكان أن كتب له البقاء حتى بعد سقوط الحضارة اليونانية. ورغم أن أعظم كُتاب التراجيديا في القرن الخامس ق.م كانوا يستقون حبكاتهم من الأساطير التي تدور في فلك الآلهة، إلا أنهم تعاملوا معها كما لو كانت مادة خام لا أكثر، فأخذوا يزيدون عليها، ويغيرون فيها حتى تتواءم مع المُخرَج الفني النهائي، فكان الأثيني لا يذهب للمسرح ليشاهد أساطير يعرفها مسبقا عن ظهر قلب، بل كان يذهب في الأساس ليستمتع بالمعالجة الفنية لها، وأداء الممثلين وأناشيد الكورس وتصميم الرقصات. لقد أتاح انفصال المسرح عن الأصول الدينية له في بلاد اليونان قدرا كبيرا من الحرية للفنانين، مما أطلق العنان لإبداعاتهم، دون الخوف من اتهامهم بالهرطقة وما شابه.
وتبقى لهذه الرؤية لنشأة وتطور فن المسرح والتي تبنتها الكثير من البحوث الأنثروبولوجية وجاهتها، إذ تحاول الربط بين إرهاصات المسرح الأولى والشعائر الدينية، والتي كرست للأساطير والمعتقدات الدينية، فالمجاهرة بالدين ومسرحته أمام الناس في الاحتفالات والمواكب كان مظهرا من مظاهر تماسك الدين واستمرار سلطته، وهو الأمر الذي حرصت عليه معظم الأديان، إذ لم تقتصر الأديان على علاقة الإنسان الخفية بربه، ولم تكن فقط رسالة للخير والمحبة وسائر الفضائل، بل انطوت على الكثير من الطقوس ليبرهن بها متبع العقيدة على انتمائه لتلك العقيدة أو المذهب أو الدين، وليجاهر به علنا، وشيئا فشيئا فقدت أغلب تلك الطقوس معناها الحقيقي، وصارت عادات يقوم بها أتباع الدين بشكل ميكانيكي للبرهنة على اتباعهم له، وصارت في كثير من الأحيان أهم من المعاملات الخيرة والفضائل الحميدة.
وجاء قسطنطين ستانسلافسكي (1863 - 1938)، الممثل والمخرج الروسي الذي أحدث ثورة في عالم التمثيل، جاء في مطلع القرن العشرين ليؤكد أنه يمكن تحفيز مشاعر الممثل عن طريق الحركات الجسدية، وهو ما عرف بـ«منهج الحركات الطبيعية»، وهو المنهج الذي توصل إليه في أواخر حياته (1934 - 1938)، فبعد أن كان يرى أن الممثل يجب أن يتفهم دوافع الشخصية لتقديم عرض واقعي، مستعينا بخبراته الحياتية المماثلة ومستحضرا إياها من مخزونه وذاكرته لتوليد الانفعالات المرغوبة، صار يرى أن الممثل بمقدوره الوصول للانفعالات الشعورية المطلوبة بسرعة وفاعلية أكبر، إذا ما قام بسلسلة من الحركات المتناسبة مع طبيعة الشخصية، أي أن الإتيان بالطقوس الحركية المناسبة للشخصية التي يُراد تمثيلها يساعد الممثل على استحضار الحالة الانفعالية للشخصية ونقلها للمشاهد بشكل أفضل. فإذا أراد الممثل مثلا أن يلعب دور كاهن، فكل ما عليه فعله هو محاكاة حركات الكاهن وإيماءاته، فإذا به يتمكن من أداء شخصية الكاهن، وإذا أراد لعب دور سارق، فما عليه سوى محاكاة التفاتات السارق، ونظراته، وخطواته، فإذا به وقد تمكن من تلك الشخصية، مما يعيدنا إلى نشأة فن الدراما وارتباطه بالحركات الشعائرية، دونما الالتفات إلى مكنونات النفس، فالأصل هنا هو أن يخلق الممثل ما يشبه الحقيقة وليس الحقيقة على المسرح، فالممثل الذي يمثل هاملت، يعلم، بحسب تلك النظرية، أنه ليس هاملت، وإنما جُل ما يحاول فعله هو أن يستطيع إيهام المشاهد بأنه هاملت، فالغاية هي إحداث التأثير المطلوب على المشاهد، من خلال شعائر الشخصية وطقوسها.
وتظل الطقوس جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، نراها في الأعراس والمآتم وفي حفلات التأبين والتتويج والتنصيب، بل نشارك فيها ونرتدي أقنعتها وأزياءها، نصنع دراما الحياة ونصوغ صراعها وحوارها، وقد يحدث أن نجلس مع الجمهور ونصفق لها.


دينا عبد السلام