إنهم يعزفون لحن الحرية

إنهم يعزفون لحن الحرية

العدد 551 صدر بتاريخ 19مارس2018

دائما ما أفتقد تاريخ الأمم إلى شيء ما، دائما ما حمل نفس المعاناة، فحتى أعظم العصور احتكر حكامها تلك العظمة أما شعوبهم فلم يكن لهم من تلك العظمة جانب سوى الفقر الجوع والعطش والقيود الآثمة، فكان هنالك حلقتان مفقودتان دائما وهما الحرية والعدالة، فخرجت الشعوب ثائرة على مر العصور باحثة عن هاتين الحلقتين، ولكنهم دائما ما عادوا فارغين «إذا عادوا».
وبالحديث عن الثورات، أخذنا المخرج «عبد الله صابر» والمؤلف «محمود جمال» في رحلة زمنية إلى زمن قديم، وإلى مكان لم يشير إلى اسمه نهائيا، لكننا الآن وهنا أمام ثلاثة مصلوبين في أحد المعتقلات تظهر عليهم آثار التعذيب، وملك يظهر ليلقي الأوامر على جلاديه أحيانا وأحيانا يلقي الخطابات على شعبه، وشخص معذب أيضا لكنه خارج الأحداث.
أما بعد، تبدأ الأحداث لنتعرف على المصلوبين في الخلف الذين يدور بينهم حوار ساخر ليكشف أحدهم، وهو أقدم المصلوبين، عن قيمة الخيال في تلك الوحدة، ليبدأ خياله يتراءى أمامنا في مقدمة المسرح ونتعرف على أبيه الكفيف وأمه التي لا تعلم سبب غياب ابنها، ثم يتراءى أمامنا مرة أخرى مخيلة المصلوب الثاني الذي نتعرف على زوجته وطفلته الصغيرة واللتين يتضوران جوعا لفقدانهما عائلهما الوحيد، أما المصلوب الأخير فهو ساخر من أخيلتهم.
مع تطور الأحداث نكتشف أن هناك ثورة قامت في تلك البلاد من أجل الحقوق والعدالة والحرية، وتم القبض على هؤلاء الثائرين وصلبهم، إلى أن ماتت أم الثائر الأول حسرة على ولدها، أما أبوه فهو فخور بابنه المتفاني الباحث عن الحق، أما الثائر الثاني فيموت على الصليب، ويذهب الجلادون ليعلموا زوجته لنكتشف أنه ليس لديه طفلة إنما كانت محض خياله، والثائر الأخير يموت ابنه جوعا بعد أن فشل في سرقة ما يشبعه.
يأتي المعذب خارج الحدث في النهاية ليتم شنقه ويروي قصته الدامجة بين قصص الثلاثة ثائرين، ثم يموت وتدور حرب بين الجلادين وبين الموتى من الثائرين بشكل رمزي في دلالة على أن الموت ليس النهاية فالتضحية مستمرة وهي حرب تجسد الصراع الأساسي، من ثم يتحول قائد الجلادين بعد صراعه الداخلي من الرضا والسمع والطاعة إلى السخط ويرثي الحرية الغائبة وهو الصراع الآخر بالعرض في لمحة تذكرنا بدانيال في «الدكتور بالمي»، ويخرج الملك يلقي خطابا عن الحب بينه وشعبه من عالمه الآخر.
انقسمت الأحداث إلى خط درامي أساسي وهو المصلوبون في خلفية المسرح، وأكد المخرج على تلك الأساسية عن طريق إلصاقهم بقطع ديكور كبيرة في هيئة صلبان؛ مما جلعهم أكثر لفتا للنظر، في مشهد يذكرنا ببداية «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور، كما أنهم كانوا دوما حاضرين على خشبة المسرح، أما الخطوط الأخرى فهي ثانوية متفرقة لخيال كل ثائر الذين ظهروا في بؤر إضائية متباعدة على مقدمة المسرح ثم اجتمعوا في النهاية وربطتهم المأساة، وكانوا يظهرون تارة ويختفون الأخرى، ومثلهم الخط الثانوي الأخير هو الشخص المعذب الذي يتحدث بصوتهم جميعا ويعلق على الحاكم وخطاباته المنافية للواقع، أما الحاكم فكان ظهوره نادرا لكنه حالما يظهر يتوسط خشبة المسرح ليصبح في أكثر مناطقها قوة.
على الرغم من سمات الأسلوب الواقعي في العرض، فإن عدم إعطاء الشخصيات مسميات كسر ذلك الأسلوب، فهو عبر عن تكرار الحدث ونمطيته عن طريق التجريد من أي مسميات أو أزمنة أو أماكن، كما أنه استخدم المجاز والأسلوب الرمزي في عدة عناصر بداية من اسم العرض «إنهم يعزفون» التي أشار بها لصوت الثورة، صوت العذاب، الجوع والألم الذي يجعل من كل ظالم متألما عند سماعه لذلك العزف.
كما استخدم المجاز في الديكور الذي قامت بتصميمه «منة الجنايني» الذي امتلأ بشباك عنكبوتية على جوانب المسرح تشير إلى أزمة مزمنة وعذاب لا نعلم متى بدأ ولا متى ينتهي، كما استخدم الصلبان التي طالما اعتبرناها رمزا للتضيحة تذكرنا بالمسيح، كما استخدم المستويات التي وضع على أعلاها ابن الطبقة الميسرة ماديا، وعلى الآخرين الأقل شأنا لتوضيح عمومية الأزمة على كل الطبقات، عمومية الظلم والطغيان على الجميع، وفي النهاية صعد كبير الجلادين على أكبر صليب فالتضحية مستمرة إذن، كما استخدمه بشدة على مستوى الحوار فنجد أحد الثائرين يقول «لقد التصقت بالصليب» في إشارة إلى الاعتياد على القيود.
استخدم المخرج الملابس ليشير إلى حقبة زمنية بعيدة لا نعرفها، التي قامت بتصميمها «أميرة صابر»، أما الموسيقى لمؤلفها «مصطفى منصور» قامت بدورها في تحفيز المتفرج وإثارته في الصراعات والمعارك، كما أحزنته عند المشاهد المؤلمة، إلا أن المبالغة في صناعة الإثارة أثرت على صوت الممثلين مما جعله غير مسموع في بعض الأحيان.
أما الإضاءة، فاستخدمها لإلقاء الضوء على أخيلة الثوار أحيانا، وأحيانا أخرى غيَّر في ألوانها لتعبر عن كوامن النفوس، كما أنه ركز بإضاءته الحمراء على أوامر الملك للجلادين، وفي نهاية العرض استخدمها بشكل مثير للأعين عن طريق الإظلام والإضاءة السريعة ودمجها بأصوات الطبول العالية ليلقي بالمتفرج إلى قلب المعركة الأخيرة بين الثوار والجلادين، كما أنه استخدم الإضاءة للخروج من الخط الدرامي الأساسي عن طريق الإظلام على خلفية المسرح بدون إنهاء للمشهد والإضاءة في المقدمة ثم العودة لاستكمال المشهد في خلفية المسرح وهكذا، وقام بتصميم الإضاءة «مصطفى التهامي».
كان العرض من بطولة محمد الجندي، يوسف الأسدي، كريم فراج، نادر الجوهري، رنا خطاب، مصطفى رشدي، جنا صلاح، مصطفى السعيد، جورج أشرف، والطفلة ماسة تامر، والطفل محمد تامر.
عُرض «إنهم يعزفون» في إطار فعاليات المهرجان العربي في «معهد الفنون المسرحية»، ويعد العرض مكتمل العناصر فكل عناصره قامت بدور مكمل في صناعة الدراما، كما أنه عرض خليط بين الواقع والخيال بشكل يصعب تمييزه إلا أنه ممتع ومثير للفكر.


أماني الشناوي