لا - تشابك.. لا - انفصام

لا - تشابك..  لا - انفصام

العدد 550 صدر بتاريخ 12مارس2018

يُعيد العرض المسرحي السعودي «تشابك» تكوين واقع ذات الإنسان السعودي بواسطة انفصام الذات بالتفتيش فيما هو خارجي في محاولة لوجود ملجأ داخلي تلتئم به الذات المنفصمة عن وعي بذاتها وبالعالم من حولها. إذ تقع الذات حائرة منذ بداية العرض ما بين السعي للالتئام (اللا - انفصام) عبر لعبة التوازن؛ إذ يقول بالعرض: (القليل مني والقليل منك)، وبين الانفصام (اللا - تشابك) الواقع الذي يهدد وحدتها وصفاءها؛ إذ يقول بالعرض: (هل كانت المسافة كافية لتزيد غربتنا؟). وتستخدم الذات حيلها التقليدية التي تبدأ بجلد الذات لذاتها والقسوة عليها، ومرورا بتعريتها، ولا تنتهي بالتحاور مع ذاتها، كأنها آخر فاعل في تكوين الذات؛ آخر كما يراه (سارتر) مسئولا عن وعي الذات، أو كما يراه (لاكان) آخرا أكبر تكتسب الذات هويتها في نظره.
يحاول العرض المسرحي «تشابك» للكاتب (فهد ردة الحارثي) والمخرج (أحمد الأحمد) أن يغير نظرة الذات إلى ذاتها؛ إذ إنه (ليس عيبا أن تقف تحت قطرات المطر دون مظلة) أو (أن تنام وأنت تحب)، فالذات تعي في الأصل أن كل ما يتصل بالزمن هو زائل، وهي لا تحتاج لمن يُقدم لها الدليل على ذلك، أو أن يدمر إنسانيتها بأن يعلق كينونتها جبرا بين لحظتي (ما كان) و(ما سيكون)، فهذا تعطيل لحرية اختيارها، بل هي في حاجة إلى موقع حر لها يحفزها على إدراك هويتها.
ما بين إعادة تكوين واقع الذات، وتغير نظرة الذات لذاتها، يمر العرض المسرحي «تشابك» بتناقضاته، وتضاداته، وما شابهها، وتضميناته، معتمدا على تشكيل فضائه البصري باللجوء إلى وحدة ديكورية واحدة (صندوق) أجاد صناع العرض في تنويع استخدامها وتشكيلها داخل الفراغ المسرحي بالتعاون مع أقنعة الذات المتناثرة في ذات الفضاء. كما اعتمد العرض على تشكيل الفضاء السمعي بحوارٍ مسرحي رشيق وشاعري، وصوتي مؤديَين قادرَين على تلوين هذا الفضاء بألوان صوتيهما المعبرة بالتحاور وبالغناء، فساعد أداؤهما الصوتي على تشكيل الفضاء السمعي ليتكامل مع الفضاء البصري في تقديم حيل الذات كأنها حرفتهما في الأداء الذي اعتمد على منطلقات بسيطة في الحركة المسرحية التي رسمها مخرج العرض لهما.
ولأن الصورة التي تراها في المرآة ليست كافية لأن تدرك الذات ذاتها؛ فالصورة المرآوية بالضرورة صورة غير مكتملة عن الذات - كما أشار (تودوروف) نقلا عن (باختين) في «باختين: المبدأ الحواري»، لذلك تحتاج الذات لتحديقة من آخر لتدرك ذاتها، وتتعرف على موقعها الذي تدرك منه هويتها.
فما دور هذا الآخر في إنجاز وعي الذات بذاتها؟ وأيهما الفاعل الذات أم الآخر؟
يبدأ العرض المسرحي «تشابك» من لعبة الواحد الذي انقسم، وظهر وخرج من الصندوق اثنان، وكما يقول بالعرض: (الأشياء تبدأ من الألعاب، ثم تتحول إلى حقائق)، فينطلق الفعل الدرامي من هذه.. لعبة الانفصام (اللا - تشابك)، لنجد أنفسنا أمام اثنين يتشابكان دائما (اللا - انفصام)، ثم يعاودان الاتحاد، وإذا اتحدا بالصندوق اختفيا، فارتهن الظهور بالانفصام (اللا - تشابك)، وتعلق الاختفاء بالاتحاد والتشابك (اللا - انفصام). «نحن في العادة لا نملك مقاومة الإغراء الذي يحملنا على أن نفهم أنفسنا من خلال الموجود الذي (لا نكونه) - هذا الموجود الذي نتخذ منه على الدوام مسلكا معينا ونصفه بأنه (العالم)» (عبد الغفار مكاوي؛ نداء الحقيقة؛ 2010م)، فتخرج الذات لهذا العالم لتفتش فيما هو خارجي من أجل إدراك هويتها ووعيها بذاتها، هذا هو جوهر الفعل الدرامي الذي ترومه الذات مستعينة بالآخر الذي هو صورة مثيلة أو نقيضة لها تهدد انفصامها. تستخدم الذات حيلها التقليدية وألعابها، فتبدأ الذات فاقدة الثقة المتشككة من كل شيء حتى من ذاتها منطلقة من جلد الذات بلعبة «المحقق والمتهم» التقليدية، لتدخل في لعبة «التعري» دون أن تجيدها، فلا يبقى لها إلا لعبة «التحاور» التي تنتهي بها دون الوعي بذاتها؛ يقول بالعرض: (طال بنا الحديث هنا دون أن نعثر عليّ). لقد كان العائق أمام الذات عن تحقيق مرامها، هو تعطيل حرية اختيارها، فكينونتها مرتهنة بحاضرها العبثي وسط متغيرات غير مفهومة أو مدركة تجعلها تعاني من فقدان الثقة، ومعلقة جبرا ما بين اللحظة الماضية وطغيانها على ما عداها لأنها مرجعيتها الأزلية التي لا انفكاك منها، وما بين اللحظة المستقبلية المجهولة المحفوفة بالمخاطر والأهوال المشكوك في بلوغها. لعل مشهد انطلاق المؤدين بالسيارة كان أكثر أجزاء العرض دلالة وتعبيرا عن ارتهان كينونة الذات بحاضرها الذي يحاصرها بمتغيراته، فانفلت منها الإمساك بذاتها كموضوع، أو إدراك ذاتها كهدف لأي إحساس داخلي.
تتشابك الأمور وتتشاكل علي الذات المنفصمة التي لا تنجز فعلها المبتغى، وهو إدراك هويتها، لأنها لم تمتلك بشكل واضح الشروط الضرورية لإنجاز الفعل المبتغى. فالذات لا ترى بوجوب هذا الفعل وحتميته في حياتها، وإن كانت تتحسر في نهاية العرض على عدم قدرتها على إنجازه، فبدا فعل إدراك الذات لهويتها كأنه رغبة ألمَّتْ بها دون أن تكون الذات مؤهلة (قادرة) لتحقيق هذه الرغبة، فيكون جزاء عدم تأهلها (قدرتها) فشلها في تحقيق رغبتها وفي إدراك ذاتها أو هويتها، فأخذت تصرخ وهي تنسحب (تختفي) من العالم: (ليس عيبا... ليس عيبا... ليس عيبا).
كما أن الذات ليس لديها معرفة بالفعل المبتغى، الذي هو إدراك هويتها، فقد اختلطت الأشياء عليها منذ ما كان، ثم اختلطت الأشياء عليها بتحيرها فيما هو كائن، ثم اشتد اختلاط الأشياء عليها لعجزها عن تصور ما سيكون وخشيتها من مجهوليته.
وفوق كل هذا وذاك لم تكن الذات تريد القيام بهذا الفعل المبتغى (إدراك الهوية) لأنه بدا أمامها كرغبة يصعب تصورها لأنها محفوفة بالمخاطر والمخاطرة التي تدرك جانبا منها بحكم خوفها من المجهول وبحكم فقدانها للثقة وتشككها مما هو قائم ومختلط أمامها كواقع، وبحكم ركونها للمنطقة الوسطى ما بين (اللا - انفصام) و(اللا - تشابك).
فجر العرض المسرحي «تشابك» أفكارا كثيرة، وأثار شجونا عميقة عن عجز الذات التي أدركت أن كل شيء جاهر ومستعد إلا هي، وتنقل العرض الذي اعتمد على نص الكاتب المسرحي (فهد ردة الحارثي) كثيرا بنا بين النفي والاثبات حاملا تناقضاته وتضاداته وتضميناته التي تميز العرض بها. فانفصام الواحد وتجسيده في اثنين من الفاعلين المسرحيين تتشابك أفعالهما المسرحية التي تمليها عليهما الذات وحيلها، فيلعبان (التعرى - المحقق والمتهم - التحاور) ألعاب المسرح التي هي في الأصل حيل الذات، فبالرغم من أنهما منفصمان فإنهما يتشابكان بالفعل، وتحدث بالعرض حركتان عكسيتان، إحداهما تسعى لنفى الانفصام لتحقق نقيضه (اللا - انفصام)، ثم تصعد به إلى إثبات الالتحام (التشابك) الذي يحدث في نهاية العرض بالاختفاء داخل الصندوق. والحركة الثانية تبدأ من إثبات التشابك في علاقة الفاعلين بعضهما البعض بتضمينها للـ(اللا - انفصام) هبوطا قبل أن تصعد بها إلى نقيضها بإزالة نفي الانفصام عنها (تحقيق الإثبات) باختفاء الآخر قسرا (الانفصام) دون أن يتحقق للذات مرامها من الفعل المبتغى الذي لا يحدث إلا في وجود آخر تتفاعل الذات معه لتنشأ هويتها كنتيجة لهذا التفاعل، وفقا لطرح (جاك لاكان). فاستطاع العرض أن يجمع بين الحركتين اللتين أسس لهما النص المسرحي، لذلك تعامل المخرج بحذر شديد مع النص وخضع كثيرا لمتنه ومتن إرشاداته المسرحية، فاقتصرت رؤيته على طرح كاتب النص (ردة الحارثي)، دون أن تلمع رؤية المخرج (الأحمد) الذي أجاد في تدريب المؤديَين وتنسيق تدفق طاقتيهما وحضورهما الفائق على المسرح.


أحمد عادل القضابي