خسوف قمر بيبرس.. أم كاليجولا!

خسوف قمر بيبرس..  أم كاليجولا!

العدد 635 صدر بتاريخ 28أكتوبر2019

لا شك أن ظاهرة استلهام التاريخ وإعادة صياغته في الأعمال الأدبية على اختلاف أشكالها وتنوعها في التعبير عن الواقع، بما يمكّن من معرفة ما حدث بالماضي ليعيننا على فهم الحاضر والتعامل معه ومواجهة مشكلاته هي ظاهرة متكررة وخصوصا في مسرحنا المصري والعربي بشكل عام، فكم من الأعمال المسرحية التي استلهمت حقبات تاريخية بارزة في تاريخ مصر الفرعونية والقبطية والتاريخ الإسلامي بداية من الدولة الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية.. إلخ من الأحداث العظام التي يعج بها التاريخ، والتي يجد فيها المؤلف تماسا مع الواقع، فيعيد تدويرها وصياغتها في بناء درامي بقصد إحداث صدمة فكرية من خلال التقاطع الحاصل بين التاريخ المتشكل بالمنظر المسرحي والحدث الدرامي وما يتضمنه من مضامين معاصرة.
وإذا تتبعنا تاريخ الأدب المسرحي في مصر سنجد الكثير من المؤلفين المسرحيين الذين اتكأوا على التاريخ ومادتة الغنية في بناء أعمالهم الدرامية كألفريد فرج في سقوط فرعون وصلاح عبد الصبور في مأساة الحلاج وتوفيق الحكيم في السلطان الحائر وسمير سرحان في ست الملك، وفوزي فهمي لعبة السلطان وأبو العلا السلاموني وغيرهم كثيرون.
ونحن هنا أمام مؤلف قد حذا نفس الاتجاه في مسرحية «خسوف» للمؤلف ربيع عقب الباب والتي قدمها مركز شباب العمرانية في مسابقة ابداع 2 لمراكز الشباب والتي تنظمها وزارة الشباب والرياضة على مسرح الشباب والرياضة من إخراج عبد الرحمن السبكي.
فيستلهم عقب الباب شخصية الظاهر بيبرس أحد سلاطين دولة المماليك التي تأسست بعد سقوط الأسرة الأيوبية واستمرت حتى غزو العثمانيين لمصر عام 1517م.
حيث تستعرض المسرحية الليلة الأخيرة في حياة الظاهر بيبرس، الذي يصارع القدر منذ اللحظة الأولى إذ تبدأ الأحداث بخسوف للقمر لم يحدث منذ ثمانية عشر عاما، ويفسر له المنجمون وعلماء الفلك أن هذا الخسوف بهذا الشكل ينذر بموت شخصية عظيمة، فيجن بيبرس ويهذي مواجها هذا القمر نذير الموت، ويذكر تلك الليلة التي قتل فيها قطز صديقه، في ليلة تشبه ليلته هذه في خسوفها وظلامها، ويحاول المنجمون تهدئته وإقناعه بأن موت شخصية عظيمة قد يعني شخصا آخر كالملك داود حفيد طوران شاه فهو معادل للسلطان، فيسعى لقتل الملك داود، ليهرب من مصيره وقدره المحتوم ولكن دون جدوى.
إن مأساة الظاهر بيبرس الذي جسده إيهاب محفوظ باقتدار شديد، فهو ممثل يجيد أقصى درجات التقمص والمعايشة، يدرك جيدا أن سقطة بيبرس التراجيدية تأتي من شعوره بالعظمة، ونفسه التي تمتلئ بالغرور والقوة، لكن من ذا الذي يستطيع مواجهة الموت! فهو الذي يمكنه أن يحني جباه العظماء ويذل أنوفهم، فها هو يتمنى الآن أن يكون على الأرض من هو أعظم منه حتى يصيبه هذا القدر، لذا فقد كان أدؤاه يتأرجح بين القوة أمام الناس والضعف في خلوته لنفسه، فجاء أداؤه مضطربا تارة وهائجا تارة أخرى دون مغالاة أو نقصان.
ورغم تقليدية الحبكة في بناءها الدرامي فإنها محكمة وغنية بشخصياتها التي تتصرف وفقا لأهداف ودوافع كل منها، فالخاتون زوجته تتسم بالذكاء الشديد والحكمة التي تحاول جاهدة طمأنته ومآزرته لكن دون جدوى، وقد لعبت هذا الدور لمياء الحناوي وهي ممثلة تتمتع بحضور قوي وأداء شديد الاتزان، وسيف الدين أنص الذي لعبه محمود سليمان بثقة كبيرة، إذ يمتلك من المقومات الجسدية والصوتية ما مكنه من أداء الدور واعيا بطبيعية الشخصية فهو فارس قوي يعرف قدراته جيدا، شديد الذكاء والتدبير وهو الذي أعان بيبرس على قتل قطز وكان سببا في وصوله لسدة الحكم، بل وهو الوحيد القادر على مواجهته بحكم صداقتهما القديمة، فهو يمثل صوت الضمير الكامن داخل نفسه وعقله.
ولعلنا نلمح تماسا واضحا بين “بيبرس” و”كاليجولا” ألبير كامو، وإن اختلفت دلالة القمر عند كليهما، فقمر كاليجولا يعني له المستحيل الذي ينشده، بينما قمر بيبرس هو نذير الشؤم والموت، إلا أنه ما من شك أن سيف الدين أنص يعادل شيريا، والخاتون معادل لسيزونيا.
ولم يقف حد التماس عند ذلك بل إن لغة عقب الباب أيضا في هذا النص قد اقتربت في بعض أساليبها وتراكيبها بتناص واضح مع كامو، نذكر منها “من ذا الذي يجرؤ على مواجهة النمر.. أبو الفتوح!”، في مقابل “من ذا الذي يجرؤ على إدانتك في عالم بلا قاض...” على لسان كاليجولا.
لكن هذا لا ينفي أن أسلوب عقب الباب اللغوي يتمتع بفيض من المشاعر، وثراء في معجمه اللغوي، يتخير منه الأنسب طبقا لمتقضى الموقف وطبيعة كل شخصية.
فنجده يصيغ بعض الحكمة على لسان قطز حين تنتاب بيبرس بعض الهلاوس فيرى أمامه قطز الذي قتله منذ 18 عاما.
أما ما صاغه المخرج عبد الرحمن السبكي في رؤيته ارتكزت على القضية الكلية التي يطرحها النص والتي تؤكد على زوال الحياة مهما طالت فلا مهرب من القدر ولا مناص من الموت، إلا أن الصورة البصرية في العرض كانت فقيرة إلى حد كبير، فالعرض يدور داخل استراحة أو نزل يسكنها بيبرس وحاشيته في أثناء عودتهم من حرب التتار، ويظهر في عمق المسرح تبة عالية يقبع عليها بيبرس ويظهر من خلفها القمر.
فالمسرحية تعرض تيمة مواجهة الإنسان لقدره أو محاولة الهروب منه، التي تفرض نفسها على الكثير من أشكال الإبداع المختلفه، لا سيما مواجهة الموت الذي لا مناص من ملاقاته، فالإنسان بطبيعته يخشى الموت بوصفه مجهولا مرعبا وتهفو روحه للخلود رغم إداركه جيدا أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.


عماد علواني