السيد حافظ ..وتشكيل النص المسرحي

السيد حافظ ..وتشكيل النص المسرحي

العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018


الرجل التاريخي.. الاتجاهات المعاكسة بين (الفرد) و(السلطة) الكوميديا السوداء.. التأكيد على «الأثر» الجمالي لدى المتلقي، كلها باتت علامات نشطة في التجرب الدرامية للسيد حافظ.
فهو واحد من بين المسرحيين العرب الذين انتبهوا مبكرًا لتلك الآلية التي تحدّ من آفاق «الذاكرة» الثمينة للشعب، فتحصر «الفرد» في توهمات وأزمنة قريبة مأزومة، أو بعيدة خرافية، لكي يخسر هذا الفرد مسارب مرجعياته، بسبب الإحباط الذي يكابده المواطن حينما لا يجد وسيلة أو ملاذًا للخروج من المأزق الماثل في حاضرة العشوم.
أتينا من الماضي القريب «حكاية الفلاح عبد المطيع»، ومن الزمن الأبعد نسبيًا تقابل «ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري» و«قراقوش الأراجوز» و«حرب الملوخية» و«الأشجار تنحني أحيانا» و«رحلات ابن بسبوسة» و«ملك الزبالة»... إلخ. وسواها وكلها تشكل التوسطات اليومية الرابطة بين السالف واللاحق من الأحداث المصيرية على مستوى الفرد أو الجماعة في تاريخنا العربي، بطله «التاريخي» ليس من أولئك الخارقين، والوثقين، والمنتصرين على أعدائهم، بما جبلوا عليه من قدرات فائقة، وتمرس في اجترام الحلول للخروج سالمين من المحنة!! هم بخلاف ذلك، ينتهون محطمين، تسورهم الأشداق الضاحكة، الشامتة من خيباتهم وقلة حيلهم للتفلت من القبضة الفولاذية الضاربة على رؤوسهم بحمية إجرامية.. جنونية!! نعم يحصل كل ذلك في زمن الأرانب الذي يتأوه منه «عبد المطيع» إنه زمن «قنصوة الغوري» الذي امتدت شفراته الوراثية إلى آماد مستقبلية، وكأنها تتناسل من صلبها، لتنبطح أزلام شائهين، يضعون السيف في موضع الندى!!
ويقلبون ظهر المجن، ويتقهقرون إلى الوراء، حتى ينكفئ التاريخ، فيصبح الحاضر صيحة متلاشية في وادي الصخور الصماء الراسخة، التي يمثلها جبروت الماضي، وتسلطه الماحق لحرية الفرد.
لا يطمح (السيد حافظ) أن يكون متاجرًا بالقصص والحكايا، بل يريد أن يعيد تشكيل التفاعل ما بين طرفي اللعبة المسرحية، الفنان من جهة والمتفرج من جهة ثانية، ولا يطمح لخلق بطل سوبرمان بل إنسان عادي، تشكلت خلاياه بحر مسيرة سرية، ابتدت منذ زمن أبعد من الفراعنة ومن السومريين، لتمرّ عبرهم، وهكذا حسب (الراوي) «نامت أحزانه الفرعونية» وهو يتحدث عن الفلاح عبد المطيع، وبالتالي، يمتد طوفان حزنه ليكون موصولاً بالزمن العربي اللاحق، حتى تنام (أحلامه العربية على وسادته) التي يتحكم بمستقرها بوصلة السلطان، حتى إن كانت عينه رمضاء، طالما يصبح بالإمكان أن تسبغ الجلابيب على البشر، قيمًا متباينة من التسلط والتسفل.
يذهب «السيد حافظ» ببطله اليومي إلى أفقه التاريخي، وهو يحرص تمامًا على تجمير أحزانه بريام فترات ما قبل الميلاد وما يليها، وهذا «الجمر» المتقد، اللاهش، الآيل للانطفاء والعدم، يقوى على دفع شراراته إلى أحجار أخرى، قابلة للتواصل مع هذا الاشتعال لتبقى «الجذوة» الشعبية، ماثلة عند العامة دون «الخاصة» فالمؤلف لا يرضى بانقلاب الهرم، لأن السواد الأعظم هو المرتكز.. ومن دون «حرية»، وحرص على أرزاقه وحرماته، تتهافت كل الأسماء مهما اتصلت بأسباب المجد، لأنها تصنع الراية بأيدي قرقوش، الأراجوز، الذي أعمى الغباء بصيرته، وبصره واستكلبت دمه السلطة الباغية.
يجيب «مهند» عند سؤال «عبد المطيع»، من أتى بالسلاطين إلينا؟ بقوله:
إني هنا لا أفهم.. لقد خلقنا ووجدنا السلاطين (ص8)
هنا يبدع «السيد حافظ» استراتيجية نصية، درامية، ليس غرضه سرد كلمات وجمل ومقاطع، بل معالجة «الحكاية» بحضور جمالي للصوت المطرز بالموال والأغنية والشعر والجناسات والمفارقات، حتى لا يُقفل المعنى على اتجاه خطي، وأحادي، للموروثات من الحكايا والقصص والأخبار، التي تتوفر عليها ذاكرة الشعب، أو المخزونة بكتب المؤرخين التي غالبًا ما، يجرى أسطرتها، وتجريدها، وتثبيتها في أفق أعلى من أحاسيس الناس وأفكارهم، وقدراتهم على التغيير، أو في إعادة النظر إلى الفكر والعالم والإنسان من موقع متقدم متنامٍ جديد، لكي يرفض الحلقة المغلقة للجهل، اسمع الكورس ينشد:
 - أنجبت له زوجته عشرة أطفال، الأول غبي الفطرة، والأخير غبي الاكتساب. (ص 13).
هذا الخوف من المعرفة جعله:
 - لم يدخل كتابًا لتعليم القراءة لأن القراءة تجلب المتاعب وتتعب العقل.
وكما يقول «نيشته» فالمشكلات الكبرى توجد في الشارع، لهذا يحرض (السيد حافظ) على فضح التابوهات (ممنوع أن تضحك ممنوع أن تبكي) فهذا التسلط القهري التدميري، لا بد أن يخفر نقائضه الكامنة بأناس هذا الشارع، الذي يخدر التاريخ عبر هفواته، وغرائزه وأحلامه وتابوهاته وحسه الفطري، وليمتد تدفقه في شرايين الأحداث والمصائر والشخوص التي تسكن «فضاءات نصوصه المسرحية» رجل التاريخ، رغم ضآلته، يحمل الختم السري في جيناته الوراثية الوطنية، يصطدم بالطغاة، ويضحي بوجوده الأرضي، لكي يخلق: «الفضاء الحر للحركة» المنبعثة من طيات المجتمع السلفي، لتظهر للعلن وهي تهدر بعناصرها المتفجرة من داخل سور النص المسرحي نفسه لتلهم الآخرين «آيديولوجية» متزنة، وموضوعية، وليست مفروضة من خارج خطاب النص الدرامي!! أو غير مستجيبة للدواعي الحضارية، لذلك يتوسل «السيد حافظ» بالكوميديا السوداء، التي تجعل من ملابس عبد المطيع الرثة الشغل الشاغل لعسس السلطان!!
فلا ينقذه الثوب الأبيض من بؤس الثوب الأسود! فكلاهما لا يلتئمان مع يومي السعد والنحس للسلطان المسعور! وتقلبات أطواره، ونوبات شذوذه!!
حرص السيد حافظ بتشكيلاته النصية على الوجه إلى الإنسان العربي ابن القرى والنجوع والمدن ليرسم له الأزمنة والأمكنة المتخيلة، التي يضع لها «تأرخة» مؤسلية وشرطية في سبيل إنشاء تركيب جديد، يُبنى من عناصر عادية معروفة، لكنها تحول العادي والمألوف مثل (عبد المطيع) إلى بطل يلهم الناس البسطاء قدرًا من الفعالية  وهم يكابدون انفعالات لم يعهدوها قبل تجربة التماس مع هذا العمل الفني، وهذه من وظائف الفنان، الحاذق في صنع تحفيزات فنية في النص، تحرك من أفق التلقي عند الجمهور، وهذا النوع من التفاعل يبنى على إدراك أسرار لا تكشفها النظرة السطحية للناس وهم منهمكون في تيارات الحياة المتلاطمة، يسيّرها الطمع والبلاد، والاستغلال.
إن (ثيم) نصوص «السيد حافظ» تعيد ترتيب العناصر بطريقة خاطئة تجعل إحساسا عامًا ما يهيمن على تجربة التلقي، قد تكون الآراء والانطباعات التي تظهرها الشخوص الواقعية بسيطة وسطحية، لكنها تتضافر معًا لتعزيز «الأمثولة» التي يريد الكاتب البرهنة على صدقية فرضتها فنيًا هو يجنح لهذا الصراع بين السيد والمسود، ليحسم مواقف محددة في نصوصه، مزروعة في تربة الحاضر وآنيته الراهنة مهما أوعى من رحلات في جوف التاريخ والأسطورة والحكاية أو الأمثولة، لأن توظيف الاستعارات والتشبيهات لا يتم إلا بدمج العناصر الدرامية بعضها مع بعض، فيدور الراوي والديكور والشخوص والأحداث في فضاء تجريبي، رسمت آفاقه إبداعات عربية، بعد نكسات مُرة على مستوى الشارع والوطن والأمة.
وبالتالي، لا يصبح الحديث مجديًا عن «الشكل» التجريبي الجديد الذي جاء به السيد حافظ على أهمية ذلك، لكن الأهم هو جعل النص من خلالها رسالته التنويرية الساخطة على الواقع.
 


عقيل مهدي يوسف- العراق