المسرح ونظرية الأنساق الدينامية(1)

المسرح    ونظرية الأنساق الدينامية(1)

العدد 733 صدر بتاريخ 13سبتمبر2021

الادعاء السائد هو أن كلا من السلوك العلني وسلوك المخ يخضعان، عند تفسيرهما بشكل صحيح، إلي نفس المبادئ .« ج. أ. سكوت كيلسو “ 

إذا كان الممثلون قلقين من أن العلم سوف يظهر الغموض في الفعل الإبداعي، فلا يجب أن يقلقوا كثيرا . فلا تزال العلوم الإدراكية وعلم الأعصاب في مهدهما عندما يتعلق الأمر بفهم عمل العقل . فعندما يُطلب من العلم أن يفسر أبسط الأفعال – مثل كيفية صب كوب من الماء ؟، فيجيب العلم بكلمة لا أعلم . ويمكن للعلم أن يصف آليات معينة تحيط بالقشرة الحسية الحركية ومناطق في المخ مرتبطة بالعين واليد، ولكن عندا يتعلق الأمر بتفاصيل سبب الحاجة إلى كوب ماء، أو العمليات العصبية التي تسمح للجسم بالانتقال إلى الصنبور وتشغيله ثم إيقافه مرة أخرى عندما يمتلئ الكوب، فهي عملية معقدة للغاية بالنسبة لفهمنا الحالي . والتجريب، مثل التدرب علي مسرحية، هو عملية مكثفة تعمل بشكل تدريجي نحو فهم الظواهر. الفرق هو أن العلم يحاول أن يستبعد كل ما يمكنه من متغيرات لكي يكون موضوع البحث مفهوما بمفرده، بينما تستكشف التدريبات كل ما يمكن من السبل لكي تختار الأنسب للعرض المسرحي . ومازال علماء الأعصاب يحاولون فهم تعقيدات ما يحدث عندما تنطلق الرابطة العصبية في المخ، وكيف تفعل ذلك ولماذا، ناهيك عن ذكر لماذا يحدث ذلك في وقت معين أو كيف تتصل بالروابط الأخرى لخلق تتابع مركب من الأحداث التي تؤدي إلي فعل بسيط مثل صب كوب من الماء. 
     ومع ذلك، لم يتوقف نموذج المختبر عن التخمين، وفي السنوات الأخيرة انتشرت نظريات شرح طريقة عمل العقل . ومثل شيرلوك هولمز، القادر علي استنتاج الجرائم المعقدة من الأدلة الدقيقة، يسعى العلماء والفلاسفة وعلماء النفس وكثير من الآخرين  لشرح مدى تعقيد العقل من خلال الأدلة القليلة المتاحة . فمثلا في عام 1996 كانت الخلايا العصبية المرآوية mirror neurons هي أول شيء اكتشفوه عند القرود . فالخلايا العصبية المرآوية تقوم بتنشيط أجزاء من المخ من خلال القيام بنشاط معين حتى عندما تتم مشاهدة هذا النشاط فضلا عن أداءه فعليا . وقد تطورت كل نظريات الإبداع والتقمص من هذا الاكتشاف، علي الرغم من الأدلة المحدودة علي وجود الخلايا العصبية المرآوية عند الإنسان . وهذا لا يعني أن النظريات الحالية هي محض خيال، ولا تعني أنها خاطئة . إننا ببساطة لا نعرف ما يكفي لتحديد القيمة الحقيقية لهذه المزاعم . وبالتالي، مع قراءة نظريات الكيفية التي يعمل بها العقل – ومن ضمنها النظرية المقدمة هنا – فمن الأفضل المضي في التحذير . وفي معم الحالات يجري العمل بأكبر قدر من النزاهة، وعلي أساس أدلة دامغة – عندما تتوفر هذه الأدلة . ولكن غالبية النظريات تستخدم الاستدلال الاستقرائي – الادعاءات العامة المبنية علي الخبرة السابقة، وتجمع استنتاجات مماثلة من مجموعة من المجالات المتنوعة لتقديم مزاعم حول أسئلة مثل « ما هي العاطفة ؟ « أو « ما هو الإبداع ؟ “ . 
هناك ميزتان علي الأقل لتزايد نظريات العقل . أحدها هو تزايد الفهم العام لكيفية عمل العقل . وقد جعلت الأعمال الأساسية مثل “ خطأ ديكارت Descarres’ Error” تأليف أنطونيو داماسيو Antonio Damasio، و» النفس المتشابكة Synaptic Self” تأليف جوزيف ليدوكس Joseph LeDoux” لعالم العلم المظلم والغامض معنى من خلال تجميع خيوط المعرفة في شكل مقروء ومفهوم لعامة الناس . والاستخدام الثاني والأهم في نشر العلم هو دحض الأساطير التي تكتنف الخطاب، مثل الاعتقاد بأنه يمكن استبعاد العواطف من عمليات صنع القرار المنطقية . وتعد المفاهيم الايجابية لفهم كيفية عمل العقل هي الأكثر قيمة في تحدي النظريات التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الأدلة الموجودة حاليا . فمثلا، لقيت الدراسات الإدراكية دفعة مع ظهور الكمبيوتر واقتراض أن النموذج الثنائي للحوسبة الخطية يتوافق مع عمليات المخ البشري . ومن خلال التقدم في تقنيات التصوير وزيادة فهم الشبكات العصبية، حلت نظرية المعالجة المتوازية محل نموذج التبديل الخطي بين التشغيل والإيقاف السابق . والأمل هو أنه من خلال تحدي أنماط الفكر المقبولة، نقترب أكثر وأكثر من نموذج أدق لكيفية عمل العقل الإبداعي، حتى لو كان ذلك عن طريق النفي فقط . 
والنظرية التي نقدمها هنا تعتمد علي مزج النظريات والاعتبارات العامة المستنتجة من تجارب المعمل في علم الأعصاب وعلم النفس العصبي . وتركز علي جوانب النظرية الإدراكية مع دعم قوي من مجتمع العلوم التي يبدو أن لها صلة كبيرة بعمل الممثل . وهناك أربعة مبادئ أساسية تكمن وراء هذه المناقشة . الأول هو احترام تعقيد وغموض العملية الإبداعية، مع الاعتراف بأن النظريات المتعلقة بهذه العملية نظريات مليئة بالتحيزات النظرية التي تشوهها بينما تمجد فن التمثيل . والثاني، وهو مأخوذ من العلوم البيولوجية، هو أن الكفاءة هي المحدد الأساسي في تطور العقل . فعندما نواجه مشكلة سوف يتم اكتشاف طرق جديدة لاستخدام البنيات الموجودة قبل تكوين بنيات جديدة تماما .  ثالثا، يرتبط العقل ارتباطا وثيقا بالجسم وبالبيئة التي يعيش فيها . وتجادل نظرية الأنساق الدينامية بشكل مقنع، وهي أحد أقوى المفاهيم وأكثرها جاذبية في فهم العملية الإدراكية، بتكامل الفكر مع الحياة اليومية . بمعنى آخر، نرفض نظرية الأنساق الدينامية . بشكل فعال، ادعاءات ديكارت بأن العقل والجسم منفصلان، وتؤكد بدلا من ذلك علي التشابك المعقد الذي لا ينفصم بين العقل والجسم والعالم . والمبدأ الرابع هو أن عقول الفنانين هي أساسا مثل عقول الآخرين ولكن الخبرة تقوده إلى تمييز مختلف طرق معالجة المعلومات . وتحل أجهزة الكمبيوتر المعادلات الرياضية المعقدة بنفس خط اليد الذي يستخدمه الآخرون في لعب أحدث ألعاب الكمبيوتر . فالنتائج مختلفة، ولكن الدوائر متشابهة. 
بهذه المبادئ والمحاذير، يمكننا أن نبدأ في صياغة نظرية العقل . وفي الجزء التالي سوف نحدد الاستعارة المسرحية لكيفية عمل العقل ومقارنتها بتضاريس مختصرة لمناطق مختلفة في الدماغ وما هو معروف عن الوظيفة الأساسية لكل منهما . يلي المخطط التفصيلي لوصف نظرية الأنماط الدينامية فحص للأفكار المختلفة المتصلة بفن التمثيل، مثل الذاكرة والعاطفة والتداعيات الإبداعية والعلاقة بين الذات والآخر . وعلي مدار الدراسة، سيتم البحث عن الروابط بين المادي والمجرد، إذا كانت ناجحة، فسوف تؤدي الى فهم أفضل لكيفية استخدام العلم لإثراء فهمنا للعملية الإبداعية . 
..............................................................................
جون لوتيربي  يعمل استاذا بقسم المسرح والأداء المسرحي بجامعة واشنطون – الولايات المتحدة الأمريكية . 
هذه المقالة هي الفصل الثاني من كتابه « نحو نظرية عامة في التمثيل Toward a General Theory of Acting  « الصادر  عن دار نشر Palgrave , Macmillan  . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح