صعود الموت وسقوط الحياة في سيلفي الكوميدي

صعود الموت وسقوط الحياة في سيلفي الكوميدي

العدد 538 صدر بتاريخ 18ديسمبر2017


تأتي مونودراما سيلفي مع الموت، التي يقدمها المسرح الكوميدي الآن، لتثير تيارات الجدل والتساؤلات، بعد أن واجهتنا بسلطة الحقيقة المطلقة، لنصبح في الزاوية الحرجة، حيث تندفع تيارات المشاعر، وحرارة الشجن وعذابات الأحزان، ليبعثوا في الأعماق حائلا قويا، يدفعنا بعيدا عن الوهج العقلي والنقدي، تلك الحالة التي لا تمتد طويلا، لكنها تتلاشى لتفتح المسارات أمام حقيقة هذه التجربة وطبيعتها الجمالية.
من المؤكد أننا أمام مغامرة مثيرة، تجاوزت حدود السائد، وانطلقت إلى مشاغبات ثائرة مع الحياة والموت والوجود والعدم، فإذا كان المسرح هو الابن الشرعي للحياة، وهو الاحتفال بالوجود، وتصعيد الإرادة الإنسانية، إلا أن المؤلفة قد اتجهت إلى النقيض، عبر المفارقة الكبرى التي احتفلت بالموت في ذلك الزمن الناعم الممتد حيث الراحة والهدوء والجمال والاكتمال، بينما أدانت الحياة المسكونة بالجموح والصراع والوقاحة والشراسة، ويأتي ذلك عبر مونولوجها الخاص الذي انطلق من عذابات تجربة فقد أبيها، تلك الحالة التي منحت النص مساحات شاسعة من التفاعل الساخن مع الجمهور.
تعيش الفنانة نشوى مصطفى – بطلة السيلفي ومؤلفته - لحظة فارقة في مسار تجربتها الفنية، فهي صاحبة رصيد إبداعي ضخم على مستوى الدراما التلفزيونية والسينمائية، وهي ممثلة متميزة تمتلك البصمات الخاصة، والموهبة المتجددة، وهي الآن تكتب نصها الأول، الذي جاء كوثيقة ميلاد تحمل شرعية الانتماء إلى عام جديد، فهو يكشف عن وعي مغاير، يمتلك مقدرة المواجهة الشرسة للوجود، وفي هذا السياق قررت نشوى مصطفى أن تقف على خشبة المسرح وتواجه جمالياته الثائرة، فقد مرت السنوات سريعا ولم تتحقق أحلامها المسرحية، لذلك كتبت تجربتها العبقرية مع لحظة وجودية شديدة التعقيد والثراء، اشتبكت فيها مع الحقيقة الإنسانية الكبرى، وكان فعل الكتابة الذي امتد إلى ثلاث سنوات، هو قرار بامتلاك أقصى درجات الحرية، فتجاوزت جمود التابوهات، واندفعت إلى السياسة والحب والحرية، وصراعات الوحدة والاغتراب والعدم، وهكذا أصبح نصها حيا نابضا، يمتلك الكثير من مقومات وجوده، ويفتقد أيضا الكثير من التقنيات والركائز الدرامية، ولكنها استطاعت أن تقبض على جمرات الفن النارية، وظلت تشاغب الحياة رغم الموت، واجهت هوس الاستلاب والاختزال، وامتلكت حرية مواجهة العالم عبر حالة فنية إنسانية مدهشة، لها قانونها الخاص وإطارها المرجعي المتميز، حيث الوعي والصدق والدهشة، والتساؤلات الحارة عن الوجود والمعنى والموت والعدم.
مخرج هذه التجربة هو الفنان محمد علام، الذي شاغبه النص، واستغرق فيه، فمنحه ضوءا وجمالا وحياة، دخل هذا العالم الواقعي الغيبي المثير، فتجاوز الرؤى التقليدية لملامح الموت، أدرك معنى البكارة والشفافية والصدق العميق، فبعث حالة جمالية مغايرة، تحمل بصماته المتفردة، ولغته الثائرة، اخترق مفاهيم الصمت والغياب، وحول عذابات المرأة الرومانسية الحالمة، إلى اشتباكات متوترة مع قضايا وتناقضات الواقع، وانطلق الخطاب المسرحي إلى آفاق رحبة بحثا عن الحرية المغتالة في أعماق الجسد وجمود الفكر، واختناقات الوعي، وأصبحت تيارات الحياة الفوارة صوتا رافضا وضوءا كاشفا للبذاءة، التي توحشت في حياة النساء، وفي وجود مجتمع افتقد المعنى والهدف والدلالات.
كان التشكيل السينوغرافي نجما لامعا في إطار العرض، حيث الضوء والألوان والصمت والفراغ، مفاهيم الزمن الممتد تفرض نفسها برشاقة بالغة، وجماليات رؤى المخرج تبعث تشكيلا مغايرا عميق الدلالة للقبر، التجريد الناعم يتضافر مع الضوء والموسيقى، ليأخذنا إلى العمق حيث البروفيل الرقيق لوجه امرأة قادمة من الدنيا، وهي مسكونة بحرارة الذكريات، الأبيض يتقاطع مع الأسود، والضوء الوردي يشاغب المساحات, بينما تتحرك المرأة الجميلة في توتر لاهث، لا تعرف أين هي؟ ومن هي؟ لكنها تشعر بالراحة والهدوء، وتدرك أنها تحركت من هناك إلى هنا.
تمتد الأحداث أفقيا وتتصاعد رأسيا لتبعث جدلا مع الزمان والمكان وروح الإنسان، المشاهد السريعة المتوالية تتبلور عبر خطوط الحركة، والموسيقى والحوار الثائر، والأداء الرشيق، والمتلقي يلمس قوة الوحدة الشعورية الداخلية، التي منحت تجربة السيلفي تماسكا وجمالا واكتمالا، تلك الحالة التي تؤكد أن المؤلفة كتبت عملا دراميا متماسكا، وليس مجرد مشاهد متناثرة في الفراغ، لا تحكمها أصول الكتابة الدرامية، وهكذا ظلت التكوينات الخلابة لصورة المشهد المسرحي باعثة لفيض من التساؤلات حول تيارات الحس الثري للمخرج محمد علام وإدراكه اللامع لمفهوم المسرح كفن وفكر وفرجة وإبهار.
ترتكز مونودراما سيلفي مع الموت عبر الكثير من مستويات الدلالة، وتيارات الشعور، حيث يتضافر الماضي مع الحاضر، والواقع مع الخيال، الفلاش باك القادم من الآخرة إلى الدنيا يأخذنا إلى مقدمة المسرح، حيث تروي المرأة عن حياتها السابقة، الخاص يرتبط مع العام، وذكريات المؤلفة الشخصية تظل حاضرة في بعض المونولوجات، تتذكر ليالي الوحدة والاكتئاب، وقسوة الناس وشراسة الحياة، العلامات الميتاثياترية تمنح الحالة المسرحية حيوية مدهشة, وتحول دموع الشجن إلى ضحكات واعية، وموجات نقدية ساخرة، حيث الاشتباك مع برامج التوك شو وحكايات الفن الهابط، عرائس الماريونت البيضاء تنتفض وتهوى لتحيل إلى الموتى، وشاشة العمق المضيئة تكشف عن تيارات الذاكرة، التي تنساب في رأس السيدة، الضوء الدرامي يكثف مفهوم الرحلة عبر الزمان والمكان، وأحلام الحب ونبض القلب يدفعها إلى أيام الجامعة، وزملاء الدفعة من الشباب والبنات، حيث الرغبات الجامحة والمشاعر الثائرة، وقيود الكبت والتقاليد والتابوهات، ومبررات الكذب وخداع الذات، وفي هذا السياق تمتد التفاصيل الصغيرة وتخبرنا أنها عانس، لم تتزوج لكنها كانت ترغب بشدة في الزواج والاكتمال، الجدل الثائر يمنح الحالة الفنية ثراء مدهشا، وأداء نشوى مصطفى يبعث حضورا صاخبا يموج بالنبض والحياة، كانت في دنياها مذيعة لامعة تشتبك برامجها مع الحب والزواج والإشاعات، لغة الإخراج تأخذنا إلى أغنية برج الحوت، وحكايات نشوى تدين الخيانة والاستلاب والاستبداد، الكوميديا تتضافر مع الجروتسك، والتساؤلات تشاغب عقل الجمهور، وتكتشف ونحن معها أن الحب الذي يحول الدنيا إلى جنة لا وجود له على الأرض، التي شوهها الإنسان, فعاش حياة تشبه الموت.
يتردد ذلك الصوت الرخيم الذي يؤكد للمرأة أنها الآن في قلب النور، صدقت مشاعرها التي تقول إن الموت هو الحياة، والعمر يبدأ مع الموت، ورغم اختلافنا أو اتفاقنا مع هذا الخطاب الغيبي، فإن بطلة العرض تقرر الاعتذار للموت، الذي كانت تخافه وتهرب منه، وعبر ذلك المونولوج الأثير تقف المرأة أمام الموت، تلقي عليه السلام، تخبره أنها من بني البشر، ومزيج من الفجور والتقوى، تنظر دائما إلى السماء لتبحث عن المجهول، تغلق على نفسها كل الأبواب، لتفتح بوابات النور والحرية، هي اليمين واليسار والأبيض والأسود، لا تعترف بكل ما بينهما، كانت حياتها انتظار طويل للموت، فالدنيا عذاب والبشر ليسوا بخير، فحين يموت الأطفال بسبب الحرب فنحن لسنا بخير، حين يكون الفن حراما، فنحن لسنا بخير، وحين يكون الحزام الناسف هو الطريق إلى الجنة، فنحن لسنا بخير، وفي هذا السياق تسأل الموت المهيب عن ملامحه، وتؤكد له أنها شاهدته في استسلام جسد أبيها حين أخذه ليعبر به إلى بوابات النور، فقد كانت يد أبيها الأخرى تمسك بقلبها، فأخذه معه ومضى، وما زالت هي تشعر بالألم المخيف.
يشعر المتلقي أنه في الذروة الدرامية الشاهقة؛ أي اللحظة التي يجب أن ينتهي فيها العرض، لكن المؤلفة الجميلة اندفعت خلف غواية الكتابة وحرارة الأحداث، واتجهت دون أن تدري إلى ما بعد حرارة الذروة، ليصبح كل ما يأتي بعد ذلك هو نوع من التطويل والتكرار، وهكذا تأتي النهاية التي أرادتها المؤلفة، فاتجهت مرة أخرى إلى إدانة هؤلاء الذين يمارسون دور الموت، ويقتلون البشر، وأخيرا تتجه إلى المقدمة لتفتح الكتاب الأنيق، ترى صور الشهداء في الجنة، وصور مجموعة من فلاسفة مصر وفنانيها ومبدعيها، تشعر بجمال الغياب وسحر المجهول، ويتردد صوتها القوي تنادي: الله.
ينتهي العرض الخلاب الذي شارك فيه مصمم الديكور مصطفى التهامي، ومصمم الإضاءة الفنان أبو بكر الشريف.
 


وفاء كمالو