الزائر عرض مصري الهوية.. كوني الدلالة

الزائر عرض مصري الهوية.. كوني الدلالة

العدد 602 صدر بتاريخ 11مارس2019

كانت اللحظات مثيرة مبهرة، فالحالة الفنية استثنائية نادرة، مسرح المنارة يمنح مشاهديه سحرا وسعادة، وجمالا بعد الجمال، الوجود العشوائي الشرس يصبح حنونا دافئا يموج بالعطر والمعنى وامتلاك الذات، وفي هذا السياق يأتي العرض المسرحي “الزائر”، الذي يقدمه الكاتب والمخرج خالد جلال، لفريق شباب الفنون من مختلف دول العالم، يأتي كمغامرة إبداعية مدهشة، لم يشهدها المسرح المصري من قبل, حيث يشتبك منظورها الجمالي مع سحر الإبهار، تتجه رسائلها بالدرجة الأولى إلى الإنسان، تنتمي إلى الفانتازيا والأحلام، تمتلك مقدرة هائلة على كسر الواقع والمنطق، ومعانقة أقصى درجات الخيال، حققت ردود فعل عالية باعتبارها من النماذج المسرحية المثالية، التي تخاطب العقل والقلب والأعماق، فهي حالة فنية شديدة الإبهار، أخاذة الجمال، تموج بالرسائل العميقة الدالة، لها قانونها الجمالي الخاص، وإطارها الخيالي المدهش.
تميز منظور إخراج “الزائر” بالسحر والبراءة والرشاقة، ونعومة الانتقالات، والتوظيف الدقيق لتقنيات الفيديو بروجيكتور، وشاشات السينما، والهولوجرام، والمابنج والأبعاد الثلاثية، تلك التقنيات التي تضافرت مع المشاهد المسرحية والملابس الثرية، نصبح أمام وجود رحب، يموج بالأشواق والألوان والحركة والإيقاع، ليعايش المتلقي تلك الحالة المسرحية، التي تجاوزت حدود الجمال، وجاءت كاحتفالية كبرى بالحياة والإنسان، ويذكر أن وهج الفرح في عيون المشاهدين، وتفاعلهم الذي يفوق كل التصورات، كان مؤشرا واضحا على أن المسرح سيظل ممتلكا لسحره الغامض ومقدرته الثائرة على إدراك معنى الجمال والقيم والإرادة والأخلاق. وعلى مستوى آخر فإن الجمهور العريض الذي يملاْ مسرح المنارة، أحد أكبر وأجمل مسارح القاهرة، يؤكد أن التجارب الجادة الناجحة تفرض نفسها, وأن احترام عقل وعيون ومشاعر الناس هو الطريق إلى المستقبل.
يفرض فعل إبداع هذه التجربة، أن يكون المخرج على معرفة واسعة بالفلسفة الرومانسية، وطبيعتها الجمالية، وأن يكون مدركا لأسرار الفانتازيا وأهدافها، تلك الحالة التي تحققت بالفعل مع المخرج المتميز خالد جلال، الذي بعث ثورة إبداعية مبهرة، امتلك بها أقصى درجات الحرية، ليبوح ويروي ويغني للحياة، جاءت مفرداته لامعة، تمتلك خصوصيتها الفريدة، التي وضعتنا أمام منظومة فنية دقيقة، اشتبكت فيها الكوريوجرافيا مع السينوغرافيا وجماليات الضوء، وسحر الأداء وعمق الفكرة المطروحة، وصولا إلى تلك الأجواء الساحرة، التي ستظل تبعث أثرا عميقا باقيا في أعماق المشاهدين.
تدور الأحداث في إطار تشكيلات جمالية خيالية، تموج بثورات الإبداع، جمعت بين القصور والنجوم والبحار والسماء، وبين أشهر المعالم المعروفة في كل بلاد الدنيا، التاريخ يشاغب الحضارة والتراث والإنسان، الحركة والإيقاع والسرعة والتغيير، هم الأكثر حضورا في قلب الحالة المسرحية، اللحظات الأولى تأخذنا إلى ذلك الخيال الخصب الجميل, الذي يدخل به خالد جلال إلى مكان فريد لم تعرفه الدنيا من قبل, فنحن في قلب قرية إنسانية خلابة، لا تعرف الصراعات ولا الخلافات، البشر فيها من كل أنحاء الكون، الألوان تشاغب الضوء والحركة والموسيقى، والعلاقات الدافئة توحد كل قارات الدنيا، ومع ذلك تبقى خصوصية الثقافات والعقائد حاضرة بقوة في قلب هذا الوجود المثالي الجميل.
تأخذنا خطوط الحركة إلى إعلان خطوبة كريم وليلى، أهل القرية كلهم يشاركون لحظة الاكتمال الجديدة، والعريس الشاب يقترح أن يكون الزفاف في الأسبوع القادم, جدة ليلى تندفع إلى رفضها القاطع، الأم تلومها، لكنها تعلن بوضوح أن الزفاف لن يتم إلا بعد عودة ابنها الغائب منذ عشر سنوات، وفي هذا السياق المتوتر الجميل، يأتي عامل البريد بالبرقية التي طال انتظارها، لتقرأ فيها الجدة [عزيزتي زوزو.... أصل غدا]، وهكذا يصل الرجل الغائب، لنصبح أمام الزائر، الذي يمثل حضوره لحظة فارقة في حياة هذا المجتمع المثالي، المسكون بالأخلاقيات والقيم، وخصوصية الثقافة والعلاقات الإنسانية.
كان الزائر مختلفا عن أهل القرية، يرى الوجود بعيون مغايرة، قادم من عالم آخر تحكمه التكنولوجيا والسرعة والشراسة، جاء ومعه الموبايل والإنترنت، اللحظات المثيرة تكشف جماليات الدهشة عبر الموسيقي والاستعراضات والحركة والأداء، وفي هذا الإطار عرف أهل القرية معنى الشات والفيسبوك، والـ«يوتيوب» و«تويتر»، والتعليقات والإعجاب، اندفعوا إلى هذا العالم بشغف ملهوف، عاشوا الافتراض الوهمي بكل مشاعرهم التي اتخذت مسار الجمود، الدلالات تشتبك ببساطة مع وقائع صعود الوجود الافتراضي، وسقوط الوهج الإنساني الفعلي، الكوميديا والجروتسك والغناء، يبعثون حضورا عارما يخطف كل مشاعر الجمهور، ويظل منظور الإخراج يكشف عن عبقرية خالد جلال في طرح أدق وأخطر القضايا بأسلوب يتبنى مفهوم المسرح كفن وفكر وفرجة وإبهار. لشباب الفنون من كل دول العالم، بينما تمتد ملامح افتقاد أهل القرية للروح والمعنى والهدف، لتثير فيضا من التساؤلات، فقد ذهب النبض وغابت الروح، وأصبح الجميع أسرى ذلك الوجود الافتراضي الزائف، الذي استلب منهم القوة والإرادة، وحرارة الأيام والأحلام، تيار المشاعر يرسم مسارات التداعي، والأداء المبهر يشتبك مع الحركة والضوء والإيقاع، لنعلم كيف تبعثرت الروح، وغاب الحب وانتحرت الأشواق.
تقترب النهايات الذكية الصاخبة، ويتساءل أهل القرية عن سحر الماضي القريب، حين كانوا يعرفون الحب والانتماء، ظلوا يبحثون عن المسار لاستعادة الدفء والمعنى والمشاعر، وفي هذا السياق أدركوا أن الزائر قد دمر حياتهم، فقرروا أن يرفضوا وجوده، فهو لم يعد إنسانا، فقد كل مشاعره وتجمدت أعماقه، قلبه هو العالم الافتراضي البارد المزيف. وعبر التشكيل الجمالي البليغ يندفع أهل القرية إلى الزائر، ليمزقوا قميصه، ونرى التابلت مكان قلبه، يحاولون انتزاعه فيقاوم بجنون، الجميع يشدون السلك القوى من ناحية، والزائر يقاوم بشراسة، لكنهم ينجحون في استعادة الوجه الإنساني النبيل، الذي يمنح البشر طاقات البحث والصعود والابتكار والتغيير، فلعل العيون ترى الألوان والنجوم والزهور، وتدرك معنى قداسة الحياة والإنسان.
أخيرا هذه التجربة الثرية، التي شارك فيها شباب الفنون من مختلف دول العالم، تمثل انطلاقا مغايرا نحو مسرح مصري الهوية، عالمي الدلالة، إنساني الأبعاد، يعترف بالآخر، يطرح التساؤلات، ويقبل الجدل والحوار.


وفاء كمالو