طبيعة المقال النقدي ولغته وجمهوره في عيون النقاد

طبيعة المقال النقدي ولغته وجمهوره في عيون النقاد

العدد 524 صدر بتاريخ 11سبتمبر2017

يعد المقال النقدي حلقة وصل بين العمل الإبداعي والمتلقي، وصناعة فن المقال النقدي وأساليب إعداده وإخراجه، قد شهدت تطورا كبيرا في سنوات العقد الأخير من القرن الماضي، وقد امتد هذا التطور ليشمل لغة المقال وطريقة صياغته وتحريره وقوالبه والشكل الذي يصل به إلى المتلقي، وقد أولى الباحثون وما زالوا لهذا الموضوع أهمية خاصة انسجاما مع التطورات الكبيرة التي تشهدها الساحة الأدبية.
ونتساءل هنا حول طبيعة لغة المقال النقدي؟ ومن المستهدف من المقال؟ وهل يوجه الناقد مقاله للنخبة من المثقفين والمبدعين؟ أم لقرائه من الجمهور العادي؟ وهل يمكن أن يكون هناك توجه جديد لكتابة المقال النقدي “بالعامية”؟! وهل تختلف المعايير النقدية من مكان وزمان لآخر ومن ثقافة لأخرى؟
التقينا ببعض الأساتذة والنقاد من المتخصصين وطرحنا عليهم هذه التساؤلات.

• يقول د. حسن عطية – الأستاذ بقسم الدراما والنقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية - إن الناقد له دور فاعل في مجتمعه ومهمته الأساسية هي تحليل وتفسير العمل الإبداعي والعمل على توصيل جوهره للجمهور بشكل عام، ومن ثم لا بد وأن تكون لغة الناقد مفهومة للجمهور المتخصص وغير المتخصص حتى وإن استلزم الأمر أن يستخدم بعض مصطلحات فيفضل أن يشرحها داخل المقال، فليس دور الناقد هو التباهي بمعلوماته أمام العامة وإنما دوره أن يكون وسيطا بين الجمهور والعرض المسرحي يفككه ويعيد صياغته بصورة مبسطة لكي يستوعب الجمهور هذا العرض لا سيما وإن كان العرض تجريبيا أو يحمل جديدا في الرؤية فيجب على الناقد أن يساعد صناعه في أن يصل عملهم للجمهور.
وفيما يخص كتابة المقال النقدي بالعامية يرى أن هذا مرفوض تماما في المجال النقدي وفي أي مجال آخر، فاللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن وهي اللغة التي نتحاور ونتفاعل بها مع كل الدول العربية، لذا فالكتابة باللهجة العامية تجعلنا منعزلين عن التحاور والتفاعل مع بقية الدول العربية، وهي في نفس الوقت تهبط بالمعنى المشحون بقدرة الفصحى على الارتفاع بالكلمة.
ويضيف النقد ليس إبداعا وإنما هو صيغة لفحص الأعمال الأدبية والفنية والتحاور معها ومحاولة فهم جوهر ما تقدمه لنقله للجمهور.
وعن المعايير النقدية واختلافها يضيف أن المسرح له معاييره النقدية الدرامية الخاصة به التي تختلف عن المعايير النقدية للراوية أو الشعر أو الموسيقى أو غيرها من الفنون، وأن الخلط بين هذا أو ذاك يؤدي إلى مسخ.
ويوضح أن المعايير النقدية تتغير بتغير المجتمع، فهناك معايير كلاسيكية تختلف عن الرومانسية عن التعبيرية عن المسرح الحديث عن المسرح اللادرامي، ولكن كل هذه التغيرات داخل بنية المسرح الأساسية وليست خارجه.
• وتقول د. سامية حبيب – الأستاذ بمعهد النقد الفني - إن الفيصل في مستوى لغة المقال هو المكان الذي ينشر فيه الموضوع، فإذا كان المقال سينشر في جريدة متخصصة أو دراسة أو كتاب، إذن فيمكن للناقد أن يستخدم لغة علمية، أما لو كانت الجريدة غير متخصصة فيجب أن يصيغ الناقد أفكاره بلغة بعيدة عن المصطلحات العلمية التي يصعب على غير المتخصصين فهمها، وتضيف أنه في كل الحالات يجب أن يكون المقال أمينا وموضوعيا بحيث يصل للقارئ رأي علمي وتقييم صحيح للعمل الفني.
وعن اختلاف المعايير النقدية ترى أنه يمكن أن تختلف من زمان لزمان بينما المعايير النقدية العلمية لا تختلف ولكن ما يختلف هو “الذائقة الجمالية” للوسط الاجتماعي الذي يعرض فيه العمل الفني.
وتضيف أن لغة النقد أيضا تتطور تبعا لتطور العصر وتطور المنتج الفني نفسه الذي يجب أن يلاحق هذا التطور.
لكنها أكدت أنها لا تستسيغ المقالات المكتوبة بالعامية وأنها ضد ذلك وأن مثل هذه الكتابات خارج سياق النقاش لأن ذلك غير علمي بالمرة.
مضيفة أنه حتى لو كتب المقال في جرائد سيارة ولو كان مقالا عن مباراة كرة قدم، فهي ترى أن العامية تفقد القارئ إحساسه بالفكرة، مؤكدة أن المقال بشكل عام لا بد وأن يكتب بالفصحى حتى ولو “باللغة الثالثة” التي أشار إليها توفيق الحكيم، وأن كل الدراسات النقدية التي كتبت حول “شعر العامية” كتبت بالفصحى، وختمت حديثها مؤكدة أن متطلبات الإبداع شيء ومتطلبات النقد والكتابة الموضوعية شيء آخر.
•    ويقول د. محمد شيحة – الأستاذ بقسم الدراما والنقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية – إن أصل كلمة “النقد” هو كلمة يونانية ويعني “إصدار حكم”، ومعنى ذلك أن الناقد قاضي الفن الذي يحكم عليه، وبالتالي لكي يحكم عليه لا بد أن يقوم بتحليله ثم تفسيره ثم تقييمه، ولكن ليس لزاما أن يقوم بالتقييم إلا إذا كان بصدد دراسة، ويضيف أن لغة النقد تختلف بين ما إذا كان الناقد يكتب في عمود أو صفحة أو ركن أدبي أو فني لجريدة يومية عامة بها ركن للأدب أو الفن، فيجب أن يخاطب قارئ هذه الجريدة ويجيب من خلال مقاله حول أي مصنف فني على سؤالين: ماذا قال؟ وكيف قال؟ أي أنه يتناول الشكل والمضمون ويربطهما بالقضية المثارة من خلال هذا العمل والمجتمع الذي يتلقاه، أما إن كان الناقد يكتب في جريدة متخصصة وهناك مساحة لأن يتحول النقد لدارسة، فهذا يقتضي أن أخاطب المتخصص الذي يفهم اللغة بالتعبيرات والمصطلحات الأساسية التي يتم تشريح العمل من خلالها.
وفيما يخص المقالات النقدية التي تكتب بالعامية، يقول إن الأمر لا يجب أن يصل لهذه الدرجة، ولكن يشير إلى أنه من الممكن استخدام العامية في الندوات النقدية التي يكون جمهورها من الجمهور العادي غير المتخصص كندوات بعض العروض التي تنظمها الثقافة الجماهيرية أو البيت الفني أو غيره، بينما في النشر يتطلب الفصحى ولا يجب أن تكون متقعرة وإنما يمكن للناقد استخدام لغة بسيطة وسلسة يسهل على الجميع فهمها.
• ويقول الناقد رامي عبد الرازق إن نوع المطبوعة سواء موقع أو جريدة ومحتواها هو من يفرض طبيعة اللغة على المقال النقدي، ويضيف أنه لا يوجد محتوى يمكنه أن يتوجه للجميع، سواء على مستوى المقال النقدي أو على مستوى العمل الإبداعي، ويضيف أنه لا يوجد فن يستطيع أن يخاطب كل الشرائح وكل الأذواق، موضحا أن كل مبدع أو ناقد لا بد وأن يحدد الشرائح الأساسية سواء كانت شرائح نخبوية أو شرائح تمثل جزءا من القاعدة الشعبية التي يتوجه لها بعمله وأفكاره وأسلوبه، فإن استطاع التواصل والتلامس مع شرائح أخرى فهذا مكسب.
ويضيف أن هناك حدّا أدنى للتعاطي مع النقد، بما لا يسمح – مثلا - أن نكتب مقالا نقديا بالعامية لكي يصل لرجل الشارع، ولكن يمكن استخدام العامية في النقد الشفوي، موضحا أن الكتابة بالعامية تخلق نوعا من العجز لدى الناقد لا يمكنه من التعبير عن أفكاره.
ويضيف أن النقد كائن حي متغير ومتطور وينمو باستمرار وجمود النقد هو موت، فوجود النقد حتى الآن يعني أنه متطور ولا توجد له معايير ثابته بل يعني أنه متغير بتطور الثقافات والفنون والزمن ودرجة التحضر.
• ويقول الناقد باسم عادل لا بد أن نعرف بداية دور النقد لنستطيع الإجابة على هذا السؤال، فعرف النقد بأنه حلقة وصل بين المبدع والمتلقي، وبالتالي يجب أن تكون هذه الوساطة أو الحلقة على وعي بطبيعة المتلقي وطبيعة العرض كالنظريات التي ينتهجها العرض وطريقة عرضها والطرح الفني للفكرة والتمثيل.. إلخ، مشيرا إلى أن الناقد لو لم يكن واعيا بكل ذلك فإنه لن يستطيع ترجمة ذلك في كتاباته، موضحا أن النقاد لا يجب أن يعملوا في جزر منعزلة عن القراء، بل إن المقال النقدي هو عين أخرى ترشد المبدع إلى مناطق الضعف والقوة في عمله الإبداعي.
ومن ناحية أخرى أضاف، حول علاقة المقال النقدي بالجمهور، أن أطروحات بعض العروض والأعمال الفنية قد تكون ذات مستوى يصعب على بعض الجمهور فهمه وتلقيه، ومن هنا يأتي دور المقال النقدي في فك بعض رموز العرض وما قد يستغلق فهمه بالإضافة لما يصنعه الناقد من تحليل ثم تفسير ثم تقييم.
ويضيف فيما يخص لغة المقال النقدي أن المحك هو الوسيط الذي يقدم الناقد مقاله من خلاله فالمقال الموجه للجرائد أو المجلات المتخصصة التي يقرأها جمهور متخصص بطبيعة الأمر يتطلب مقالا يتسم بالطرح الأكاديمي المتوائم مع النظريات النقدية التي يتناولها الكاتب بالإضافة إلى رصانة اللغة والأسلوب، أما إن كان المقال سينشر في مطبوعة ورقية أو إلكترونية موجهة لجميع القراء، المتخصص وغير المتخصص، فهذا لا يتطلب أن يكون الموضوع أكاديميا بحتا ولكن ينبغي أن يكون الموضوع غير مخل أو مسف.
وأضاف أنه يجب التمييز بين الناقد وبين الصحفي الفني، لافتا إلى أن أغلب من يكتبون في الجرائد القومية والمواقع والصفحات المتعلقة بالفن هم صحفيون وليسوا نقادا، وبالتالي فهو ليس متخصصا أو دارسا، وبالتالي هو يكتب رأيا انطباعيا ليس له علاقة بالنقد.
وحول ظاهرة كتابة بعض المقالات النقدية (بالعامية) يرى أنها ظاهرة ملموسة، ويرجعها لوعي الناقد نفسه لكنه تحفظ على الهبوط والتدني لهذه الدرجة، موضحا أن الناقد لا بد أن يملك ناصية اللغة وتطويعها للتعبير عن أفكاره.
وفيما يخص معايير النقد وتغيرها واختلافها باختلاف الزمان والمكان، يقول إن هناك إطارا حاكما للنقد بشكل عام بينما هو مرن من داخله نستطيع أن نتفق أو نختلف حولها، موضحا أن الناقد ليس بصدد التعامل مع قوالب جاهزة جامدة، فالنقد عملية إبداعية موازية لعمل المبدع نفسه مرنة وتختلف من زمان لآخر ومكان لآخر، بل وقد تختلف النظرية النقدية من مدينة لمدينة داخل البلد الواحد.
الناقدة رنا عبد القوي تقول إن النقد علم وله اتجاهاته وأسسه ونظرياته، وإن الناقد لا بد أن يكون دارسا لذلك، لذا نقول إن هناك نقدا متخصصا ونقدا غير متخصص، وتضيف أن النقد لا بد أن يكون مواكبا لتطور الفنون ومتغيرات الإبداع تقنيا وفكريا وبنفس القدر، لذلك يجب أن تكون لغة الناقد والكتابة النقدية مواكبة للغة العصر وقريبة من القارئ العادي، وأن يتخلص من الحذلقة والتقعير حتى لا يهرب منه القارئ شريطة أن يكون المقال مبنيا على أسس ونظريات علمية سلمية.
لكنها تضيف أن ما يمارس من كتابات على صفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لا يعدّ نقدا – وتؤكد على أن ذلك هو رأيها الشخصي – فهذا النوع من الكتابة ليس نقدا ولا يؤرخ له.
وتؤكد أن لغة المقال النقدي وإن كانت سلسة وبسيطة إلا أنه يجب أن تكون باللغة الفصحى، ليضاهي المقال قيمة العمل الفني الذي هو بصدد التعرض له.
بينما يقول الناقد رامز عماد إن لغة المقال النقدي تتوقف على طبيعة المنشور، وعلى الناقد الجيد أن يكون قادرا على التفرقة بين جريدة متخصصة أو غير متخصصة والتعامل معها والكتابة بمفردات مناسبة لقرائها، بالإضافة للتفرقة بين المقال البحثي الأكاديمي وغيره.
ويضيف أن الناقد يجب أن يكون ملما بمجموعة من الأدوات التحليلية، وطبيعة المنتج الفني هي التي تعطي للناقد المفاتيح التي تمكنه من هذا التحليل، وهذا يختلف باختلاف المرجعية الثقافية لكل عن غيره.
ويوضح أن المعايير النقدية تتغير وتتطور تبعا للتطور الفني والمنتج المقدم المتطور بتطور الزمن والتيارات النقدية نفسها.
وأضاف أنه في الآونة الأخيرة متغيرات كثيرة طرأت على الناقد إذ مكنته الميديا – على سبيل المثال – من مشاهدة العرض أكثر من مرة بشكل إلكتروني وغيرها من المتغيرات، مؤكدا أن النقد لا بد أن يأخذ خطوات استباقية حتى يتمكن من مواكبة هذا التطور، فالنقد هو ما يؤسس للنظريات وإن لم يفعل سيخلق أزمة كبيرة.
ويضيف أنه في المدارس الأوروبية والأمريكية هناك فارق بين المقالة النقدية و”الريفيو”، و”الريفيو” يصدر فيها الكاتب حكما على المنتج الفني بالإعجاب أو عدم الإعجاب وتكون أشبه بمقالات “تيك أواي” وتكتب لغة عامية، لكنها لا تصلح لأن تكون ركيزة نقدية، أو نعتبرها نقدا تحليليا.
ويختم حديثه بأنه لا يمكن أن ينفي هذا أو ذاك أو يعتبر الكتابة بالعامية غير ذات قيمة ولكنها كتابات بسيطة قصيرة تفتح أفكارا وتعبر عن طبيعة وأفكار كاتبها، في حين أن المقالة النقدية أيضا لها احترامها ووجودها الأبدي.


كاتب عام