من كواليس المسرح المستقل

من كواليس المسرح المستقل

العدد 542 صدر بتاريخ 15يناير2018

لم يكن ما كتبته بتاريخ 21 أغسطس عام 2017 للعدد 521 من جريدة (مسرحنا)، وتحت عنوان: ذكريات مسرحية من العام الماضي، ألبوم المسرح المستقل، محض حنين. لم يكن مجرد فرصة للتأكيد على أن للمسرح مجرى من المعاني والصور المنطبعة والأصداء التي تسكن مُشاهدها شأنها شأن لحظات الحياة المحفورة في وجدان الإنسان، حية، دافئة. ولها كل جلال الإرادة وعزة الاختيار التي تميز الذين اختاروا الطريق ودفعوا أثمانه.  كان في حقيقة أمره حيلة فنية التأجت إليها الكاتبة لتدفع نفساً - بحركة السين وسكونها - مثقلة بالطموحات المسرحية المبددة. وذلك للإشارة، وللمرة الأخيرة، إلى قضية وتاريخ المسرح المستقل في علاقته بوزارة الثقافة والدولة المصرية. حاولت أن أقبض على الجوهري في تلك الحركة المسرحية الحرة في يوبيلها الفضي لكي ألقي - منهكةً - بسؤال أخير .
مرة أخرى أعيد استخدام ذات الاسلوب، وهو الرجوع للخلف لاستنهاض الشجاعة والقدرة على التقدم للأمام، وإلقاء سؤال المستقبل .
في نقطة زمنية أخرى من نقاط كفاح هذه المساحة المسرحية للتنفس على أمل النمو والازدهار كان مؤتمر (عشرون عاماً من المسرح المستقل) عام 2010م بلالمجلس الأعلى للثقافة، والذي سجل العام العشرين للحركة، وقُدمت فيه مجموعة من الأوراق كان من بينها تلك الورقة المتواضعة التي شاركتُ بها، ولم تُنشر من قبل، وأنشرها اليوم كما هي :
 نظرة إلى المسرح المستقل
 ثمة لغة نقدية كانت تتطلع إلى التعبير عن تجارب فنية تستشرفها وتبشر بها قبل عشرين عاماً. وجاب نقادٌ القاهرة والأقاليم بحثاً عن فضاءات مسرحية مغايرة وغير مألوفة لالتقاط تلك الحساسية. قد تصادفها في ذاك الوقت البعيد في بعض فرق الثقافة الجماهيرية المتميزة، وجماعات الهواة المتفرقة داخل وخارج الجامعة، تلك الحساسية الفنية التي كانت قد غابت عن، أو لم تدرك بعد معظم المسرح الرسمي، وأنذر غيابها بأفول الإبداع في المواقع المسرحية التي شاخت، في العاصمة بخاصة، وأبارتها بيروقراطية الإدارة المسرحية. كان هذا منذ عشرين عاماً (!)
اتسم انطلاق المسرح الحر عام 1990 في أعقاب إلغاء دورة مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي التي أحجمت الدولة عن إقامتها حداداً على حرب الخليج الأولى بملمح وعكَس ملمحاً آخر. كان الأول هو غياب التنظيم أو التنسيق والاتفاق المسبقيْن بين عدد من عشاق المسرح الذين يقومون بالتمويل الذاتي لأعمالهم المسرحية المتفرقة. أما الملمح الثاني الهام فكان الإصرار على جدية العمل المسرحي الذي لا يُعد ترفاً أو محض ترفيه، ونقض مفهوم المهرجانات الاحتفالية، والثقافة باعتبارها حلية، وإنما النظر إلى المسرح باعتباره عملاً فنيّاً شاقاً ومتصلاً، فيما يسمح المهرجان بتبلور وتتويج تلك الجهود .
وعلى هذا كان التنوع بين الفرق التي تسمت بالأسماء في ذاك اليوم البعيد، ومن استمر منها خصوصاً، يلتقي بالحس الديمقراطي - عن حق - الذي تأسست عليه هذه النزعة النقدية التي لا تتراتب فيها الأنواع الفنية تراتباً هرميّاً، ولا تلقي جهة الإنتاج بقيمتها أو ظلها التاريخي على الأهمية الفنية للعرض .
وعلى امتداد تلك الأعوام كانت عروض في فترات الازدهار، وأخرى تفجأك بمخبوء الإبداع في فترات القحط سواء قدمتها فرقة جديدة تحيي مبدأ استقلال الإبداع وحريته أو صحوة لفرقة قديمة، أو مشروع يتكامل تجربةً وراء أخرى حتى يتبلور في عرض فارق لفرقة دءوب، كانت كل تلك النماذج بها من الابتكار والتجديد ما يشكل تحديّاً للناقد، ولغته الوصفية والتحليلية .
وتجاوز النقد في بعض الأحيان عن قصور توصيف ‘ الفرق ‘ باعتبار أن نواة الإبداع قد تكون شخصاً واحداً يستعين بعناصر خارجية، لصالح الارتكاز على مبدأ حرية التأسيس والتكوين للفريق المبدع، وكذلك اعتقاداً في امتلاك بعضهم لمشروع فني يتنامى .
وظل البحث عن الدعم المالي والموقع المسرحي هاجسَيّ تلك الفرق. وتحرك البحث - على سبيل المثال لا الحصر - من المركز الثقافي الروسي بالقاهرة حتى مسرح (روابط) الأحدث في وسط البلد، في قلب القاهرة. ومن الفرق الرائدة من بحثت عن مرفأ دائم، واقتصر نشاطها في شبه اعتكاف على مسرح الچيزويت - مثلاً - باعتباره محمية لنمو تجربتها الجمالية بالإسكندرية مهما تقلصت ليالي العرض .
إلا أن افتتاح مسرح الهناجر عام 1992 ظل الحدث الأهم في تاريخ تلك الفرق، والمظلة الأوسع لنشاطها. وكأن السياسة الثقافية للدولة ممثلة في حكومتها قد انتهت إلى الحاجة إلى استيعاب المواهب الإبداعية المجدِدة في المسرح المصري. وبدا من الصيغة الإنتاجية للهناجر التي تتميز بالمرونة المالية والرقابية أن هناك تدعيماً لتيار التجديد الذي كان وراء إنشاء مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1988 بما ينطوي عليه من انفتاح على التجارب الإبداعية العالمية والعربية، وبما ينعش التجربة المسرحية المحلية .
تَوفَّر إذن الفضاء المسرحي الذي يتمتع بقدر أكبر من الحرية، والتطور التقني، والحماسة والبداية البريئة، ومحاولة لرؤية علمية في تنمية المهارات. وتابعنا به تنامي الحرفية، وعمق الفكر المسرحي، واستدامة التجربة بما يمثل مشروعية في اختلاف ممارسة بعض الفرق والفنانين المتعاقدين معه عن مجمل نشاط الهواة في مصر من جهة، وفي اتجاه إعادة صياغة الاحتراف الحقيقي الذي بدأ تعريفه يمثل مشكلة معرفية في ظل تدهور المنتج المسرحي وآليات العمل في معظم ما يشكل المسرح الرسمي من جهة أخرى .
استطاع مركز الهناجر للفنون في فترة ازدهار التعاون بينه وبين تلك الفرق والفنانين المستقلين أن يحقق ما يمكن أن نعرفه ب”الثقة في المكان”، مما أدى إلى نمو جمهوره، وأتاح هذه العلاقة الصحية المتبادلة بين المبدع والمتلقي في اختبار الأول لقدرته على احتراف المسرح في ليالي عرض متزايدة، وتنامي تذوق اتجاهات هذه الفرق .
وبات لبعض هذه الفرق شخصية فنية متميزة، والبعض الآخر ينطلق في كل مرة في مغامرة جديدة ومن نقطة مغايرة معتمداً على مبدأ الاستمرارية، وتم التفتيش عن نصوص مسرحية تُقدَم لأول مرة، أو النظر فيما سبق تقديمه من زاوية مدهشة، وتم تثوير مفهوم التوليف بين عناصر العرض المسرحي بما عمَّق وأفسح الفضاء السمعي والبصري المسرحي، وأسهم في إضافة درب من فن تمثيل معاصر ومغاير للسائد في المسرح المصري .
والثابت أيضاً أنه في ظل هذا الاتجاه المتحرر من قيود البيروقراطية تألق إبداع المرأة سواء في قيادة الموقع المسرحي ذاته إلى آفاق متجاوزة كيفاً وكما، أو في قيادة الفرق إخراجاً وكتابة .
إن عشرين عاماً من تناثر أو تكتل إنتاج المسرح المستقل مجال خصب لدراسة اتجاهات فنية معاصرة حامت وحاولت اختراق مسرح مصري يترنح، ولمثل هذه الدراسة المتعمقة أن تكشف عن أسباب تحلل فرق وقيام أخرى، وكذلك توقف المهرجانات الخاصة بتلك الفرق أو استمرارها وصولاً إلى تأسيس كيانين هما (مؤسسة شباب الفنانين المستقلين) و(جمعية دراسات وتدريب الفرق الحرة) وحتى الموسم المستقل الثالث الذي يُقام - على مسرح روابط - في توازٍ مع هذا المؤتمر، ويدعمه مركز الهناجر وقطاع شئون الإنتاج الثقافي، وتنظمه مؤسسة شباب الفنانين المستقلين .
ولكن من وحي المتابعة التي تيسرت لتلك المسيرة،صعوداً وهبوطاً، نشير إلى بعض الملاحظات والقناعات التي حالت دون تبوٌّء هذا التوجه المسرحي لما لامسه من طموح وانعقد عليه من آمال، وفي ضوء مفهوم أوسع للثقافة والإبداع :
1) تخص أولاها الطريقة التي ننظر بها إلى مبدأ الدفاع عن حرية التعبير في مصر. فالثابت في مجمل معاناة الفرق والفنانين الموهوبين في مجال المسرح أن الحلقة الأهم في اختناق حرية التعبير وتحجيم الخيال لا تبدأ بالضرورة عند المصب عندما يتحقق العمل الفني بمناوشته رقابيا أو التحكم في ليالي عرضه، وإنما هي تبدأ عند المنبع من التضييق على الدعم المادي والمعنوي بما يؤدي إلى تقليص نشاط الفرقة زمنيا ومكانيا، وصولاً إلى حصار الموقع المسرحي ذاته، والذي حقق تواصلاً ملحوظاً مع جمهور،الطرف الأهم في المعادلة، ولا نقول “ال” جمهور على إطلاقه، وهو وهم كبير .
2) ظلت السياسة الثقافية للدولة ممثلة في حكومتها لا تنظر إلى نشاط الفرق المستقلة باعتباره إنتاجاً من صلب الحركة المسرحية المصرية، ومن ثم فنجاحاته مع جمهور في الداخل، أو في المهرجانات المحلية والخارجية تمثل إسهاماً أصيلاً في الإنتاج المسرحي، وليس استثماراً وقتيا. وهو ما فوَّت على القائمين عليه إعادة النظر في هياكله الرسمية الإدارية ونُظم إنتاجه المثقلة بالإعاقات في اتجاه تحرير طاقة وخيال المبدع أسوة بالمسرح المستقل، وأظنه الهدف من رعاية أي فن والنهوض به .
3) وأما آن الأوان أن نعترف بأن تشكك السلطة المهيمنة - أيّاً كانت - في نوايا المبدع قد أدى إلى الإمعان في تجريف مكانة الفن المصري عموماً والمسرحي خصوصاً. هذا الملمح الذي يفضل تغييب العقل على شبهة مس الوجدان واضاءة الوعي، بحيث تسود حالة من البلادة والبلاهة الفنية تنمِّي جمهوراً واسعاً يزيد من وعورة الطريق أمام الفنان الحقيقي ويزيد من عزلته. وإن كان هذا الملمح قد ظل يلون الإبداع في مصر بدرجات متفاوتة، إلا أن استفحاله في ظل المعركة الفكرية العامة التي تخوضها مصر الآن يؤازر ويعزز - في العمق - كل تيار سلفي جامد يقاوم إعمال العقل، ويعطل الإبداع، ويشلُّ التفكير العلمي. كما أنه يمثل نكوصاً وتراجعاً عمَّا سبق وأشرنا إليه من نيات طيبة وأفقٍ واسع للدولة ذاتها .
4) عندما أنظر إلى الفرق المستقلة أرى أيضاً عدداً من الفنانين الموهوبين من الأجيال كافة الذين تَعثَّر إنتاجهم لأنهم لا يتواءمون مع إملاءات المؤسسة الرقابية أو التنظيمية. إن كثيرين من المسرحيين أصحاب مشروع فني متصل ومتنامٍ يسعى إلى توفير أسباب حريته واستمراره، الأمر الذي يمثل حجر الزاوية في فكرة الفرقة المستقلة، ويبرر وجودها وكفاحها. وإذا ما نظرنا من هذه الزاوية قد تفجأنا حقيقة أن ذخيرة مصر الإبداعية أقوى وأكبر كثيراً مما يُظَنُّ بها .
5) إنها قضية الإبداع التي لا يمكن أن نراها بعيداً عن إطارها السياسي الذي يسمح لجماعات ضغط ومصالح أن تتربص بعناصر النهضة المسرحية سواء بمحاصرة لغة النقد المستنير، أو إنهاك الفرق والفنانين وتحديد سقف أحلامهم، أو “شبه” توقف بعض المواقع المسرحية بما يقطع الطريق على تنامي اتصالها بجمهور محتمل وواعد .
انتهت الورقة. كان هذا منذ سبع سنوات (!). كانت - فيما أرى - عجالة من الكلمات القابلة والمعروضة الآن لمزيد من البحث والتدقيق، كلمات تحاول أن تتحلى بالمنطق العقلاني في رصد عشرين عاماً مما نعد. كان مازال حرصاً وكفاحاً لهذا التيار ممثلَاً في مواسم تمتد إلى شهرين وأكثر، وندوات وأوراق بحثية لمناقشة مشاكله وطموحاته .
ثم كان أن مر بهذا البلد - لو تعلمون - تاريخان شديدا الأهمية هما 25 يناير 2011 وماتلاها، وما أدراك ماتلاها، ف30 يونية 2013 وما تلاها .
وبإصرار تلك المجموعة المثابرة تفضل وزير الثقافة السابق د.جابر عصفور بقرار (108) لسنة 2015 بإنشاء وحدة دعم المسرح المستقل، برئاسة أمين عام المجلس الأعلى للثقافة بصفته، وعضوية كل من رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية ورئيس قطاع شئون الإنتاج الثقافي ورئيس هيئة قصور الثقافة بصفتهم، وعضوية كل من الآتي أسماؤهم بشخصهم : د. نهاد صليحة وطارق سعيد ونورا أمين وعبير علي ورشا عبد المنعم ومحمد عبد الخالق وكاتبة هذه السطور .
تركزت معظم مهام اللجنة في جلساتها المنعقدة مابين 2015 و2016 في ثلاثة محاور :
أولاً : إتمام اللائحة التي من شأنها أن تقنن عمل الوحدة، وعلى أساسها يمكن تشكيل جمعية عمومية تمثل قاعدة من فرق وفنانين مستقلين في جميع أنحاء مصر بناءً على معايير منضبطة للمتقدمين وبالتالي المشاريع المقدمة، وذلك في محاولة لتمثيل ثقافي غير مسبوق. وهنا يجدر أن أشير كشاهدة على الجهد الذي بذل إلى حقيقتين. أولاهما أن العمل البحثي الجماعي في لقاءات المستقلين على مدى سنوات وصولاً لورشة (بروتوكولات وآليات دعم المسرح المستقل) عام 2014م، ومناقشات الهم المشترك لتكوين مثل هذه الوحدة كأحد منافذ النهوض بالمسرح المستقل قدمت للجنة عناصر هامة تم البناء عليها لإنجاز اللائحة. أما الحقيقة الثانية والنابعة من إرث من الفساد الإداري فكانت الحرص، ربما المبالغ فيه، على ضمانات شفافية ونزاهة الإجراءات في تشكيل الجمعية، وعدالة توزيع واختيار المشاريع الفنية، واستقلال قرار الوحدة .
ثانيا: متابعة التخصيص المالي للوحدة، والذي كان مقترحاً له من قِبل الوحدة في العام المالي 2016/2017 مليونا جنيه مما يعدون. وغني عن البيان أنه مبلغ زهيد إذا ما قورن من جهة بالمدى الجغرافي اللامركزي ومجالات الوحدة موزعة بين إنتاج وتدريب وبحث، ومن جهة أخرى بحجم الإنفاق على مهرجانات نبتت فجأة بلا رؤية غير الترويج السياحي أو ‘النشاط الشبابي’ في بعده الوقتي لاستيعاب طاقته، وكلاهما مشروع، لكنه ليس مستداماً،محدد الرؤية، متصل التاريخ ويصب في احترافية المسرح وترقيه .
ثالثاً: التحضير والتخطيط لليوبيل الفضي للمسرح المستقل الذي تقرر له اليوم العالمي للمسرح لعام 2016م. وكان نتاجه المسرحي ودلالته بدءاً من عناصر الافتتاح موضوع المقال السابق .
وحتى تاريخ كتابة هذا المقال لم يتم الرد على مشروع اللائحة المقدَّم أو إتاحة التخصيص المالي. وانقطعت أعمال الوحدة في انتظار هذين العنصرين اللذين بدونهما لا تفعيل للوحدة من حيث استكمال إجراءات تشكيلها أو البدء في مهامها .
كان حماس الأعضاء - بصفتهم - لليوبيل مبهجاً ومبشراً بما فيه إتاحة المبلغ المخصص لها. ولا أخفيكم أنه -ربما- قد نما - داخلي - شبهة تواطؤ غير معلن. فلربما حماسهم مبني على ما اعتادت بعض حكومات من انحياز للاحتفالات الوقتية والضجيج اللافت، وربما أيضاً، ولو أنه غير معقول أو وارد ففي جيوبنا قرار وزاري مبجل (!)، لن نرى غير هذه الآلاف المعدودة وهذا الضوء الأخضر الوحيد. فليكن. نعم فليكن. فقد كنت أنا أيضاً من أشد المتحمسين لهذه الاحتفالية ولو أنهم لن يمنحونا إلاها. وإليكم أسبابي :
أولها الرغبة في أن يرى الفنانون المستقلون المعاصرون، الرواد منهم والجدد، ويتمثلون تاريخهم عبر عروض متنوعة المشارب، ومن سنوات متفاوتة في نطاق الحركة الزمني .
ثانياً أن نفرح. آه هكذا قالها المخرج طارق سعيد وتلقفتها د.نهاد صليحة. ذلك أن إفراغ اللعبة المسرحية من المشاعر المصاحبة لها والشغف بها يجرد كثيراً من العروض المسرحية والفاعليات من طاقتها، ويسمها بالآلية، فلا تكشف عن ولع حقيقي بالمسرح وطعم كفاحه .
ثالثاً أن نأخذ ما يبدو أنه محض احتفال يتسق وطبيعة السياسة الكرنفالية إلى آفاق ومعانٍ تتجاوز تلك الحدود حيث تمتع الأعضاء بشخصهم الذين تُرِكتْ لهم المهمة بكامل الحرية في تخطيط وتنفيذ الفاعلية، وهي حقيقة أخرى يجب أن تُذكر إذا أردنا الإنصاف. أردناها نموذجاً للفاعليات المسرحية الثقافية .
بدايةً تعهد هؤلاء الأعضاء بعدم المشاركة بالعروض على أني كنت شخصياً أميَّل إلى مشاركة بعضهم على سبيل التطوع بسبب قيمة وجاهزية بعض عروضهم - الأحدث كان (عدو الشعب) لنورا أمين و(العابرون) لطارق سعيد كعرض باكر في عمر الحركة - ولم يسمحوا لأنفسهم بشبهة التنافس مع باقي الفرق التي تقاسمت الأسبوع. وهي الجديرة أيضاً بجزيل الشكر لما أبدته من جدية وعناء التقدم بعرض طازج لإنتاج مر عليه سنوات وما تضمنه من تبعات مادية، غير البشرية، من تصنيع أو نقل ديكور، بعضه كان ضخماً جداً، مقابل مكافأة رمزية لا أكاد أصدق أنها غطت تكاليف العرض والمشقة. فساهموا بذلك في تقديم ربرتوار تنأى بحمله جهات الإنتاج العام أوالخاص. وتلك روح هذا التيار المسرحي الأصيلة .
ثم افترش الزمن ما تبقى من أرض الهناجر، فضمت القاعة التشكيلية أرشيف عدد رمزي من الفرق ما بين صور، وبطاقات عروض، ومقالات نقدية، ووثائق قدمتها كل فرقة يتوسطها البيان التأسيسي لإطلاق الفرق وقصة ميلاد لقاء المسرح الحر الأول كما سطرتها د. نهاد صليحة بمشاركة منحة البطراوي على أرض الأوبرا، وكذلك نشرات اللقاء الأول. وعرَض الفيديو بالقاعة عدداً من العروض المسرحية المسجلة لهذا التيار. أما البهو فامتلأ بأفيشات وبوسترات قدمها مشكوراً المركز القومي للمسرح لبعض عروض الفرق، وتوغلنا في الذكرى حتى أننا ظللنا نطارد من يحتفظ ببوستر اللقاء الأول الذي صممته منحة البطراوي، وهي الأستاذة جليلة القاضي، فأتت به في ليلة عودتها إلى القاهرة في آخر ليلة لليوبيل حتى يزين البهو وهرع بعضنا لأخذ صورة بجواره، بجوار ربع قرن من عمرنا !
وفي إطار الحرص العاطفي على شكر كل من ساعد في إطلاق الحركة ومن دعمها على مدار السنوات، والمحفوف دائماً بنسيان أحدهم، اقترح المخرج عمرو قابيل لوحة شرف شعبية بيضاء يسجل فيها من أراد كل من يراه جديراً بالشكر والامتنان. فكان أن ألصقت رشا عبد المنعم صورة حازم شحاتة، وكأن الجميع استحى أن يضيف صورة أخرى أو تم اتفاق غير معلن على أن ينفرد حازم شحاتة بحضوره محاطاً بكافة الأسماء الأخرى. ومن تلك الصورة أمد خطاً شعوريا ليوم شاركت المخرج محمد عبد الخالق وآخرين مشاهدة عرض (أوبريت الدرافيل) تأليف خالد الصاوي، وإخراج حسن عبده لفرقة الأتلييه. والعرض، حتى في نسخته المسجلة المتواضعة، يكشف عن طموح لكوميديا سياسية موسيقية من طراز رفيع، وحسن عبده كذلك من شهداء 5 سبتمبر عام 2005م.
لم يكن محض حنين أو إحياء ماضٍ أليم. امتد اليوبيل إلى مواقع خارج الهناجر من مثل المجلس الأعلى للثقافة، ومسرح ملك، ومركز إبداع الغوري، ومركز سعد زغلول التابع لقطاع الفنون التشكيلية. استضافت هذه المواقع ورشاً في التمثيل والبانتوميم وادارة الإنتاج المسرحي والسينوغرافيا. يقيمها متطوعاً كل من أحمد مختار وحمادة شوشة ود.جمال ياقوت وحازم شبل. كان محور الورش بديهياً في تصور أعضاء الوحدة عن الاحتفال، ذلك أن الفرق المستقلة المختلفة وعلى مدى ربع قرن كانت قد تشبعت بتجربة الهناجر في الورش المسرحية ومواكبته للتيارات الأحدث التي انفتح عليها الحراك المسرحي للمهرجان التجريبي، وتجربة ‘الورشة ‘ المسرحية واستدامة التدريب، والملتقى الإبداعي للفرق المسرحية المستقلة، أوروبا والبحر المتوسط، بمكتبة الإسكندرية لسنوات وغيره مما جعل التعلم عبر الورش جزءاً أصيلاً من التطوير المستدام للحرفة المسرحية بكافة فروعها في ذهنية الفنان المستقل، وفي تطلعه لمستقبل المسرح في مصر. ومن سمات التطلع للمستقبل أيضاً كانت الندوة التي ناقشت جوانب التشريع والرقابة والمؤسسات المدنية بالدولة في علاقتها بالمسرح المستقل، والتي أشرفت عليها الناقدة ‘المستقلة’ أماني سمير. حتى أنه بزغت فكرة مناقشة مشروع كتاب لرئيس تحرير ( أدب ونقد) حالياً، عيد عبد الحليم، والذي قدمه رئيس المركز القومي للمسرح، واحتدم النقاش حول مشروع الكتاب في قاعة “الذكريات” كما أحب أن أسمي قاعة المعرض في الهناجر بما حوته من وثائق وتسجيلات. وكأن الماضي الممتد إلى الآن يقيّم شهادة أحد متابعينه، وقد يعارضها .
وإذا كان أعضاء الوحدة بشخصهم مسئولين عن التخطيط للفاعلية وعناصرها فإن الضامن والمتمم لتحقق رؤيتهم كانت مؤسسة مدنية تطوعت بالتنفيذ بقناعة المنتمي لذات التيار، ذلك أن على رأسها فنان مسرحي مستقل هو عمرو قابيل. ربما بالغت في وصف إمكانية التواطؤ في إنفاذ الاحتفال باليوبيل كحيلة بلاغية في كتابة هذه الشهادة، لكن الثابت أيضاً أننا أردناه نموذجاً للعمل الثقافي الذي يتوفر فيه قدر من النزاهة والغيرية، وحتماً الرؤية المستقبلية المستمدة من التاريخ، وإمكانية نجاح التعاون بين الدولة ممثلة في وزارة الثقافة وقطاعاتها ومؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، وهي صلب الفكرة التي انبثقت عنها الوحدة في دعم النشاط المسرحي المستقل . أردناه - الاحتفال اليتيم - محدداً لمستوى الأداء للقادم من مشروعات الوحدة .
ليس أنه خلا أو خلونا من خطأ أو تجاهل أو نقائص خضعت لضغوط الالتزامات الفردية والوقت والميزانية. لكن ربما تغفروا لمغرمة مسرح أن تسهب في ‘ كواليس ‘ إنتاج فاعلية مسرحية استغرقت أسبوعاً في عام مضى باعتبارها تجربة لها معانيها في فضاء المساهمة المسرحية على خريطة هذا الوطن، وبالأخص في تلك اللحظة التأسيسية على اضطرابها القيمي والتنظيمي. يشفع للكاتبة أن سبق لها أن خصت في خضم اهتمامها بالعروض المسرحية فاعلية الاحتفال بنبوية موسى عام 1999م، والتي أقامها (ملتقى المرأة والذاكرة) ككيان مدني على مدى ثلاثة أيام، بمقال لم يتكرر في مجمل ما كتبتْ، وذاك لفرط إعجابها وتقديرها للجهد المبذول والأداء المتقن والرؤية التي لاتقل - في ظنها - عن عمل فني يجدر التوقف عنده وإلقاء تحية ما عليه. فجدية الفاعليات الثقافية وتألقها تدفع بدفقات هواء نقي ومنعش يجدد الثقة في حياة ثقافية منتجة وخصيبة. هذه قناعتي. وهذا ما نفتقده في كثير من فاعليات الدولة الثقافية، ومنذ زمن .
حان وقت السؤال الأخير الذي هو جماع أسئلة عمر اليوبيل الفضي ومهمة وحدة دعم المسرح المستقل : هل الدولة جادة في تأسيس قاعدة واسعة من دعم الفن المسرحي المستقل في أنحاء الجمهورية، وبمعايير مبدئية قابلة للتطور والتنقيح بفعل التجربة في مستقبل الأيام ؟ هل تقدره رافداً معاصراً وأصيلاً في تدفق الإبداع المسرحي وتفاعله مع باقي مصادره، العام منها والخاص؟ هل راودها يوماً قريباً أن فن المسرح يُعد أساساً وقياساً لمستوى الفنون الأدائية في بلد ما ومعياراً لترقيه. (حقيقة مصرية يتغافل الكثيرون عنها) . هل مازالت ‘النظرة’ القديمة سائدة ولم تتعظ السياسة الثقافية للدولة من الهزات الأرضية التي تعرضنا لها في غضون السنوات السبع الماضية ؟ والقاع الذي عاينّا ظلامه وما زلنا نتسلق رعباً من هاويته خاصةً وقد تزامن القرار مع توقف دعم (مواسم المسرح المستقل)؟!!!
كانت بين ظهرانينا العام الماضي سيدة اسمها نهاد صليحة اختارت أن تضع اسمها وعمرها الخبير في وسط حركة متهمة على مدى أكثر من ربع قرن فاصل في التاريخ المصري ب” النظر إلى المستقبل “.
تغير ‘ المشهد ‘ المسرحي - لو تبصرون - كثيراً بفضل هذه الكيانات الضعيفة القابضة على فنها. ورغم كل المرارة ارتفعت طموحاته الفنية عالياً وبعيداً. وهو معاصر وأنتم مترددون. في سياساتكم القديمة تتخبطون .


مايسة زكى