دراما ثلاثية الكرامة السينمائية توثق التاريخ وتفسر شخصياته

دراما ثلاثية الكرامة السينمائية توثق التاريخ وتفسر شخصياته

العدد 523 صدر بتاريخ 4سبتمبر2017

  جذبنى عالم الكاتب والسيناريست محفوظ عبد الرحمن، وأنا بعد فى بداية حياتى العملية، منذ أن تفرغت أشهر كاملة للقراءة المتكررة لمسرحيته الساحرة والساخرة (حفلة على الخازوق)، فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، لأضع لها تصورا سينوجرافيا للعرض الذى أخرجه المخرج المسرحي والإذاعى الراحل “الشريف خاطر” فى فضاء مسرح السامر القديم، هالتني هذه المقدرة الفذة على صياغة لغة حوارية ملفوظة راقية، وتأسيس درامى لصياغة لغة مسرحية مرئية تسمو لرقى لغته الحوارية، وتحتوى شخصياته المصنوعة بمهارة وحذق يجعلها تمثل الواقع وتسمو بدورها لتكون شخصيات إنسانية تعيش أبد الدهر.
  ومنذ ذاك الوقت تتبعت بشغف كتاباته فى المسرح والتليفزيون، وتعجبت لقلة تعامله مع السينما، فلم تقدم له السينما خلال ربع قرن سوى ثلاثة أفلام فقط، تعمل على التوثيق الدرامى لواقعة تاريخية وبطلها العربي القديم، ولواقعة حديثة وبطلها المصرى المعاصر، ثم شخصية فنية صاغت بإبداعها موقعا فريدا فى تاريخ الإبداع والغناء العربيين، هذا رغم ما يمتلكه كاتبنا من مهارة وحنكة فى بناء دراما قوية، فى حبكة متماسكة، ذات موضوع مثير، وأهداف يعرف كيف يبثها لجمهوره دون مباشرة، ورغم ما أنجزه فى مجالي المسرح والدراما التليفزيونية من أعمال، كان لتاريخ الشخصيات الفنية دراميا دور فيها، وشكلت علامات أساسية فى تاريخهما الإبداعي، خسرت السينما إبداعه على شاشتها.
  ربما يكون لسوق السينما التجارى وبحث منتجيه عن الربح المادى عادة دور فى ابتعاده عن مجال السينما، والذى أعلن ذات يوم أنه لا يفضل الكتابة له، رغم عشقه لفنه المرئي، وربما لأن فيلمه الأول (القادسية) الذى كان أول فيلم ينفتح به العراق إنتاجا وتوزيعا على العالم، ويشارك فيه نجوم عرب، ويعرض تجاريا في كافة الأقطار العربية، وحتى الدول التي ليس فيها دور سينما عرضته في التلفزيون على شكل حلقات بنصف ساعة للحلقة الواحدة، كما عرض فى مهرجان كان الفرنسى، خارج المسابقة الرسمية، وكتب سيناريو الفيلم عام 1979بإلحاح من مخرجه والمشارك فى كتابة السيناريو معه صلاح أبو سيف فى ظروف سياسية عربية ودولية معقدة، ابتعد فيها العرب عن مصر بسبب معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيونى، واتهم الفيلم سياسيا بأنه يميل إلى نظام يستقوى فى المنطقة ويناهض النظام المصرى وقتذاك ويعمل على أن يحل محله، رغم أن الرئيس أنور السادات هو الذى وافق بذكاء على المشاركة المصرية فى إنتاج الفيلم، ووافق على سفر “أبو سيف” للعراق لإخراجه، بعد أن نشرت جريدة الأهرام خبرا فى صدر صفحتها الأولى يحمل عنوان (البعثة الخائنة) المسافرة للعراق، وتم ذكر أسماء المخرج والسيناريست ومصمم الديكور والمصريين المشاركين فى الفيلم كافة، فذهب أبو سيف لقصر الرئاسة وقابل السادات الذى اتخذ قرارا بسفر البعثة كلها، كما اتهم الباحث العراقى عباس فاضل ابراهيم الفيلم بأنه “أسوأ أفلام أبو سيف” (كتاب السينما العربية ص 41)، وواجه أثناء عرضه عام 1981 فى العراق ذاتها تهديدا من الإيرانيين الموجودين بالبلاد وأشياعهم، فرفع الفيلم من دور العرض، وتم الاكتفاء بعرضه تليفزيونيا على حلقات، ورفض عرض الفيلم فى سوريا للخلاف وقتها بين حزبى البعث فى سوريا والعراق، ومنع عرضه فى مصر عام تقديمه بفتوى من الأزهر تحرم ظهور العشرة المبشرين بالجنة على الشاشة، ومنهم سعد بن أبى وقاص، مع ملاحظات أخرى على مشاهد الفيلم، كما تقرر منع عرضه على الجمهور فى (بانوراما السينما العراقية) بمهرجان الإسكندرية السينمائي عام 2002، واكتفي رئيس الرقابة وقتها د. مدكور ثابت بعرضه على النقاد فقط، وإن تسلل الفيلم قبل ذلك ليعرض فى دار سينما وحيدة بحى شبرا، كما عرض فيما بعد فى افتتاح فعاليات المهرجان القومى للسينما عام 2014.
  وبعد ربع قرن جاء فيلمه الثالث (حليم) قى منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وبإلحاح من بطله النجم أحمد زكى، الذى كان يمر بظروف صحية صعبة أثرت في بناء الفيلم وعملية إنتاجه، مما جعل سوء الحظ عاملا حاضرا فى المسيرة السينمائية لكاتبنا الكبير، بينما غاب سوء الحظ وحضر الوعى بالتاريخ والمجتمع والهوية الوطنية مع فيلمه الثالث (ناصر 56) الذى أصر هو على كتابته، فناصرته جماهير الشباب المتحمس للتغيير والتقدم والمتمسك بكرامته وعزة وطنه فى صالات السينما، بينما هاجمته حفنة من المتسيسين الرافضين للزعيم الخالد وزمنه وأفكاره، والملتصقين كالعادة بالأنظمة القائمة والمتشيعين لأفكارها.
  وإذا كنا نشير بداية إلى علاقة الفيلم بزمن إبداعه وإنتاجه وتلقيه، فعلينا أن ننتبه أيضا إلى وجود هذه العلاقة الوثيقة بين الفيلم ومشاهدته اليوم، فالزمن غير الزمن، والنظر للماضى والحكم على إنتاجه، غير العيش فيه والحكم من داخله، فالعراق الذى أنتج فيلمه الأول (القادسية) لم يعد عراق صدام القوى المتماسك، بل تفتت بانهيار جيشه الصنديد وتفرق أهله لشيع، وتقسمت جغرافيته لثلاث مناطق غيرت من جغرافية المنطقة بأكملها، وسيطر تنظيم داعش الإرهابي على أجزاء كبيرة من أراضيه، ولم يعد صراعه دينيا مع الجار الفارسى الذى أصبح إيرانيا، بل صار كل همه هو استعادة تكامله الداخلي.
  وعليه فنحن نحاول هنا أن ننظر للفيلم الأول له (القادسية) من منظور جمالى، يضعه فى مصاف الأفلام التاريخية الكبرى، وينظر إليه من منظور تداخله مع نمط صياغة الأفلام الدينية أو المتعلقة بتأريخ الوقائع الدينية، ولكن دون أن نخرجه من زمنه الذى ظهر داخله وعبر ظروفه، فالفيلم إنتاجه ضخم، جندت له الجهة المنتجة وهى (مؤسسة السينما والمسرح) العراقية كل إمكانياتها وقدرات الجيش العراقى لظهوره فى أفضل صور ذاك الوقت، وشاركت فيه كوكبة من الفنانين والفنيين العرب: عزت العلايلى وسعاد حسنى وليلى طاهر ومصمم الديكور د. مختار عبد الجواد ومصمم الأزياء والإكسسوار أنسى أبو سيف ومدير التصوير مصطفى إمام والمونتير إميل بحري من مصر، ومحمد حسن الجندى من المغرب، ومحمد المنصور من الكويت، وهالة شوكت من سوريا، وعمر خلفه من تونس، ومؤلف الموسيقي التصويرية وليد غلمية من لبنان، وبالطبع الفنانون والفنيون العراقيين كافة تتقدمهم شذى سالم وطعمة التميمي وقاسم محمد وكنعان وصفى ومدير التصوير المشارك عبد اللطيف صالح، وبعيدا عن الزعم بأن صدام حسين هو الباعث الأول لفكرته، والدافع لإنتاجه، مع قيامه بالحرب على إيران لكسر شوكة هذا الصاعد فى صورته الدينية التى التحف بها، عقب ثورة الشعب الإيرانى على فساد حكم الشاه محمد رضا بهلوى عام 1979، وزلزلت نظامه الملكى، ونجاح أنصار آية الله الخمينى فى الهيمنة على الثورة، وإسقاط النظام الملكى، وإعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والعمل على تصدير الثورة الدينية إلى خارجها وخاصة الدول المجاورة، ومزجها الأحلام القومية كحلم تحرير فلسطين من المغتصب الصهيونى بالشعارات الدينية، ليصبح تحرير القدس يمر عبر طريق كربلاء وبغداد، وهو ما كان مخالفا للتوجهات القومية العلمانية لحزب البعث العراقى وزعيمه صدام حسين، فأراد هذا الأخير كما قيل أن يستخدم نفس التوجه الإيراني بعمل فيلم يستعيد فيه انتصارات الجيش العراقى على الجيش الفارسي فى سياق الصعود الديني وانتصارات الجيوش العربية، فجند له مؤسسة السينما، التى جندت له طاقات أكبر وأنضج صناع السينما العربية وقتها، ومع هذا فإن حديث صلاح أبو سيف مع المخرج والناقد الكبير هاشم النحاس فى كتابه (صلاح أبو سيف - محاورات هاشم النحاس)، يثبت أن موضوع القادسية من أفكار أبو سيف نفسه، حيث يقول نصا: “فى يوم من الأيام جاءني تليفون من العراق يطلب منى إخراج فيلم تنتجه مؤسسة السينما العراقية، سألتهم عن الموضوع فتركوا لى حرية الاختيار، لجأت إلى مكتبتى الخاصة أبحث عن أفكار مناسبة، وجدت ثلاثة موضوعات مناسبة مما سبق لى التفكير فيها لكنى أجلتها لصعوبة إنتاجها بسبب ارتفاع التكاليف التى تتطلبها، وهى معركة القادسية ومعركة اليرموك وفتح مصر، واقترحت أن نبدأ بالقادسية لأنها الأقرب إلى تاريخ العراق وكانت على أرضها بين المسلمين والفرس، ورحبوا بالاقتراح وتم الاتفاق”، وهو ما يؤكد أن موضوع معركة القادسية كان موضوعا من اقتراح أبو سيف، ومن موضوعاته المؤجلة والتى عاد إليها فى العام 1979ليدير حوله أحداث فيلمه، وليس فكرة صدام وحزبه البعثى، وإن استغله هذا الأخير بعد ذلك فى معاركه مع الفرس عام انتهاء الفيلم وعرضه 1981، والتى حملت عنوان (قادسية صدام)، خاصة وأن أبو سيف قد تعامل مع الأفلام التاريخية الدينية من قبل، فأخرج فيلم (فجر الإسلام) 1971، وخبر كيفية التعامل مع وقائع التاريخ المستدعاة، وعليه اتفق مع الكاتب محفوظ عبد الرحمن على كتابة السيناريو والحوار للفيلم، اعتمادا على مادة تاريخية وروائية وهى (سعد بن أبى وقاص وأبطال القادسية) للأديب عبد الحميد جودة السحار، و(أبطال القادسية) للكاتب على أحمد باكثير , و(القادسية) للمؤرخ المتخصص في تأريخ الفتوحات الإسلامية أحمد عادل كمال، وكان لمصمم الديكور أستاذ المناظر بالمعهد العالى للسينما د. مختار عبد الجواد دورا مهما فى إعادة بناء قلعة الملك يزجرد وإيوان كسرى على أرض الحبانية الملتهبة بقيظ شهر أغسطس وأعاصير عام 1980 المحطمة لما يبنيه، فيقوم مرة أخرى بإعادة بنائه.
   يضاف إلى هذا حرصنا على الابتعاد عن التكهنات والأقوال عن الدوافع السياسية لإنتاج الفيلم، فنحن هنا نتعامل مع مبدعين لهم رؤى سياسية لا سياسيين يستخدمون الإبداع لتمرير أعمالهم، كما أننا هنا أمام فيلم سينمائي متكامل بمعنى الكلمة، فيلم يعبر عن زمنه، ويقدم رؤيته المستمرة حتى اليوم وما بعده، فيلم يستعيد لحظة توهج عربي ليواجه به مبدعه زمن الانكسار العربي القائم، وكأنه صنع لهذا الزمن الحالي، وليس لزمن إنتاجه، خاصة وكاتبنا الكبير يعرف جيدا كيف يحول اللحظة التاريخية الساكنة فى أوراق الماضى إلى عمل فنى أبقى من التاريخ وأرقى لمستوى الفلسفة يخاطب مجتمعاتها فى كل الأزمنة.
  يعود صناع فيلم (القادسية) إلى التاريخ الإسلامى، مستعيدين واقعة انتصار الجيش العربي المسلم بقيادة سعد بن أبى وقاص على الجيش الفارسى الوثنى بقيادة رستم فرخزاد فى عهد آخر ملوك الدولة الساسانية يزجرد الثالث، فى موقعة القادسية الواقعة فى جنوب الكوفة والحلة العراقية، واستمرت المعركة لثلاثة أيام خلال شهر شعبان 15 هـ/ نوفمبر 636 م، حتى تم النصر للعرب وتحرير المنطقة العراقية المسماة بأرض السواد لكثافة الزراعة بها، ويبدأ الفيلم أحداثه من دعوة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب للعرب المسلمين فى المدينة للتضامن خلف الجيش العربي الخارج لتحرير القادسية بوسط العراق من نير الفرس، موليا عليه الصحابى سعد بن أبى وقاص “عزت العلايلى”، ليحل محل المثنى بن حارثة الشيبانى “بدرى حسون فريد” الذى أضعفت جسده الحروب المتتالية، ليستغرقنا الفيلم فى معارك متوالية بين الجانبين وسط الصحراء الشاسعة، مطلا بين المعركة والأخرى على الفارق بين حياة الفرس المترفة، والذى يعيش حكامه داخل القصور الفارهة وبين الطواويس الملونة والنساء المنفلتات، وحياة العرب المتقشفة، ووسطها يظهر سعد بن أبي وقاص إنسانا يعشق الفتاة سلمى أرملة الفارس الراحل المثنى بن حارثة ، ويقع فى هواها فور رؤيته لها، وقدمت هذا الدور بحساسية وفهم راق للشخصية وبتمكن فى الأداء الموسيقى لحوار شخصيتها المجسدة لها الممثلة العراقية المتميزة “شذى سالم”، وقد كان أبو سيف رشح سعاد حسنى لتجسيد هذه الشخصية، لتتبادل المواقف مع “عزت العلايلي” إلا أنها فضلت عليه شخصية المحظية “شيرين” الجاسوسة، بسبب رفض سابق لها لتجسيد دور الجاسوسة عبلة كامل فى فيلم (الصعود إلى الهاوية) الذى رشحها له المخرج كمال الشيخ خوفا من تجسيد شخصية مرفوضة من المجتمع، ولما نجح فيلم (الصعود) وكانت أصداء نجاحه تتردد وقت اختيار سعاد لدورها فى فيلم (القادسية)، فقررت اختيار الدور الأصغر، والتى لم تستطع للأسف أن تحقق معه النجاح المنتظر من سعاد.
فيلم ناصر 56
  فى زمن ريادته للإنتاج الدرامي السينمائي والتليفزيوني، فكر قطاع الإنتاج بإتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى أن ينتج سلسلة من الأعمال عن الشخصيات المؤثرة فى تاريخ وثقافة المجتمع المصرى، وتحمس السيناريست محفوظ عبد الرحمن لكتابة فيلم عن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، فقام باختيار واقعة من أبرز وقائع حياته السياسية ليطرح من خلالها موقف الرجل والمجتمع تجاه الحصار المضروب على الوطن المتحرر والمتقدم للأمام، مستدعيا لمنتصف التسعينيات الحدث التاريخي المرتبط بتأميم قناة السويس قبل ذلك بأربعين عاما، وبمهارة السيناريست الواعى، تحولت المادة الوثائقية بين يديه إلى مادة روائية تتحدث عن الإنسان والقائد والشعب المعتز بكرامته والفرح بعودة ملكية قناته إليه، وتفكيك بناء دولتها الإنجليزية والفرنسية التي كانت قائمة داخل الدولة المصرية.
  حرص المخرج محمد فاضل مع السيناريست محفوظ عبد الرحمن والممثل البارع أحمد زكى الذى جسد دور عبد الناصر على أن يصنعوا فيلما بالأبيض والأسود، وكأننا نشاهد فيلما من أفلام الزمن الجميل، ولكى يدمجوا فيه المادة الوثائقية المصورة فى زمن الخمسينيات فلا تبدو دخيلة عليه، بداية من مشاهد نزول علم إنجلترا وخروج الإنجليز من مصر بعد معاهدة الجلاء التى تمت فى يونيو 1956، ثم نزول تترات الفيلم على فوتومونتاج لناصر وهو يخطب فى الجماهير فى أكثر من مناسبة مختلفة، لتنتهى وهو يرفع على مصر خفاقا فى سماء البلاد، معبرا بالصور التى تبدأ بهبوط علم وتنتهى بارتفاع علم على هذا التغير الكبير الذى حدث فى المنطقة العربية عامة وفى مصر خاصة، ومدشنة هذه الفرحة بالنصر الذى تحقق بعد 73 سنة رزحت فيها مصر تحت الاحتلال البريطاني، إلا أن هذه الفرحة بالجلاء كانت تشوبها غصة من بقاء قناة السويس تحت سيطرة الإنجليز والأوربيين، فالعلم الذى ارتفع على مصر، لم يشمل قناة السويس كما أكد أحد المسئولين الإنجليز، وكما قال أحد المصريين فى مفتتح الفيلم و”كأن قناة السويس مش مصر”.
  غلف هذا الشعور الجمهور المشاهد، الذى بثه الفيلم من أول دقائق له، ووجه فكره نحو هذا التناقض الغريب بين تحرير مصر من المحتلين، وعدم تحرر جزء هام من أجزائها، يمثل وجودها وكرامتها، وهو ما لا يتركه السيناريست يمر عابرا، بل يدفع بأحد عمال القناة السابقين لمناداة عبد الناصر، والتوجه إليه حاكيا له حكايته مع شركة القناة التى عمل بها لنحو عشرين عاما، تم رفده فى نهايتها لأنه تجرأ وطالب بحقه فى المساواة مع العمال والموظفين الأجانب فى العمل والمرتب، ويطرح على الرئيس السؤال الذى يدعم موقف التناقض بين تحرر الوطن وعدم تحرر جزء منه، قائلا له: “شركة القناة رفدتنى، ممكن ترجعنى أنت ياريس”، فيصمت الرئيس وتتجهم أسارير وجهه، لقد باغته بالسؤال الذى من الصعب الإجابة عنه فورا.
  بنى السيناريست بناء فيلمه وهو يعرف كيف يفتتح حبكته وكيف ينهيها، ليس على المستوى الدرامي فقط، وإنما أيضا على المستوى الفكرى، وذلك بعد أن مزج الوثائقي بالروائي، وأدخل شخصية مختلقة على سياق خطبة سياسية واقعية، وحرك الفيلم بأكمله حول هذا السؤال: هل يستطيع رئيس مصر أن يعيد لشركة القناة القائمة على أرض بلاده موظفا مصريا رفتته؟
  يدير السيناريست فيلمه كله حول هذا السؤال، مقدما الواقع السياسى الذى عاشته مصر منذ يوم جلاء الإنجليز عن مصر حتى عودتهم مع فرنسا وإسرائيل فى 29 أكتوبر من نفس العام، نحو 130 يوما لم تهدأ فيها مصر، ولم تبتعد الأطماع الاستعمارية عنها، ويجدل الفيلم وقائع الحياة السياسية التى مرت بمصر من دور متميز لعبد الناصر فى إنشاء منظمة عدم الانحياز، التى صارت فيما بعد تسمى منظمة الحياد الإيجابي، مع الرئيس اليوغسلافى تيتو والرئيس الهندى نهرو، والدور السلبى التى يلعبه رجال النظام البائد وتجمعهم فى نادى محمد على للهجوم على الثورة وانتظار لحظة سقوطها، والحياة الإنسانية للزعيم وأسرته، مع الحياة اليومية لنماذج من الشعب المصرى، مع تركيز واضح على اهتمام الرئيس بمراجعة تاريخ حفر القناة عبر رؤيته لفيلم تسجيلى عنها، والدراسة المتأنية التى قام بها مع العلماء والمهندسين والمسئولين حول فكرة تأميم القناة، حتى تأتى اللحظة الفاصلة باتخاذ الرئيس قرار بناء السد العالى، وطلب قرض من البنك الدولى وقبوله ثم سحب أمر تمويله، فيكون الرد المدروس مسبقا هو تأميم القناة، لبناء السد ذاتيا وبأموال المصريين التى هى حق لهم فى شركة القناة، وهو رد بليغ على من أدعوا أن تأميم القناة لم يكن أكثر من رد فعل عاطفى شوفيني، بينما يؤكد الفيلم أن الموضوع استغرق من الرئيس زمنا طويلا من الدراسة العلمية والجغرافية والسياسية والاقتصادية.
  عرف صناع الفيلم كيف يخضعون الوثائقي للروائي، وكيف يحركون الحدث منذ سأل المواطن البسيط رئيس الجمهورية عن إمكانية إعادته للشركة الموجودة على الأرض المصرية بعد أن رفتته، صعودا بالاستعدادات والخطط والدراسة والسرية لذروة الحدث بقرار رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس باعتبارها شركة مساهمة مصرية، والتى صفق لها الجمهور فى صالة العرض استعادة لموقف المحافظة على الكرامة المصرية فى وجه الخارج المستبد، وصولا لغزو عسكرى فعلى بدأ باقتحام إسرائيل للحدود والدخول لسيناء، وإنذار انجلترا لمصر بالتراجع، وردود فعل أعضاء مجلس قيادة الثورة المختلفة تجاه هذا التهديد، وموقف ناصر الذى يرى أنه مسئول فقط أمام الشعب الذى فوضه للتأميم، ونموذجه العامل البسيط الذى طالبه فى بداية الفيلم بإمكانيته إعادته للشركة، وها هو قد أممها وأعادها لسيطرة السلطة المصرية، التى يحق لها وحدها إعادة العامل المطرود لوظيفته.
  تعلن الحرب الشعبية، وتقف بورسعيد فى وجه العدوان الثلاثى، ويتوجه عبد الناصر إلى الأزهر الشريف ليخطب خطبته الشهيرة التى يعلن فيها أنه لم يغادر القاهرة، وأنه مع الشعب فى مواجهة الغزو الخارجي، وأن مصر ستظل مقبرة للغزاة.
 المثير للدهشة أن هذا الفيلم المتميز هو من إنتاج قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وعرض فى أغسطس 1996، ونجح نجاحا غير مسبوق فى دور السينما المصرية والعربية، وحطم الأرقام القياسية لشباك التذاكر.. حيث اجتذب الفيلم مليوني متفرج إلى دور العرض في الأسابيع الثلاثة الأولى التي تلت العرض الافتتاحي، وأعاد لمنتصف التسعينيات الجدل حول الدور الوطنى الذى لعبه الزعيم فى سنوات حكمه، حررت الأرض، وتقدمت بالوطن، وأعادت لشعبه الشعور بالفخر والكرامة.
حليم
  خلال السنوات العشر التالية لعرض فيلم (ناصر 56)، ظل حلم تجسيد شخصيات مصرية رفيعة المستوى يتراءه بعقل “أحمد زكى”، فقدم مع السيناريست أحمد بهجت والمخرج محمد خان فيلم (أيام السادات) 2001، ثم يعود للسيناريست محفوظ عبد الرحمن ليكتب له سيناريو فيلم (حليم) من إخراج شريف عرفة، والذى كتب على تترات الفيلم أن (السيناريو التفصيلى للسينما) له، مما شوش على استيعاب المتلقى للفيلم، والذى يبدو أن سيناريو محفوظ عبد الرحمن قد خضع لتبديلات كثيرة، بناء على الحالة المرضية لأحمد زكى، والذى كان يسعى للاقتراب من حياة الفنان عبد الحليم حافظ وتقديم سيرة ذاتية، اتخذ معها السيناريو صيغة الحوار بين الفنان الجالس على كرسيه وإعلامى مصرى (جمال سليمان) فى آخر أيام الأول يحكي له فيه أهم محطات حياته، ويسترجع بالفلاش باك رحلته فى الصعود الشاق للنجاح والتربع بقلوب الملايين، وما صاحبها من معاناة مع المرض أوصلته لإحدى غرف مستشفى كينجز كوليدج بلندن حيث ينام حليم على فراش الموت، مع مزج فى الذاكرة لأحمد زكى نفسه وهو يعانى مرضه فى آخر أيامه أيضا، فتتماهى شخصية الممثل بشخصية الفنان المجسد له ولحياته، وتتماس حكايتهما معا، فكلاهما عاش منذ الطفولة يتيما، وكلاهما من نفس المحافظة (الشرقية)، وعبر سلسلة الاسترجاعات، نتعرف على عالم حليم وعلاقاته الإنسانية والعاطفية مع أهله وأحبائه وملحنيه وكتاب أغانيه، والمحطات الوطنية التى ارتبط بها منذ تلازم ظهوره مع قيام ثورة يوليو، ومرارة إحساسه لحظة هزيمة الوطن فى 67، وانتصار جيشه فى 1973، وفرح مع تقدم مجتمعه وحزنه على تأخره.
  من الواضح أن سوء الظروف المحيطة بالفيلم الأول (القادسية) والأخير (حليم) قد أثرت في بناء السيناريو الخاص بكل واحد منهما، ولا نقول بالطبع سوء الحظ، فالحظ هنا لا علاقة له بفكر محفوظ عبد الرحمن، بل هو سوء الأحوال الإنتاجية والسياسية والمزاجية التى أحاطت بهما، وتبقى درة التاج عنده فيلم (ناصر 56) الذى يعد بدوره أحد درر تاج السينما المصرية فى تاريخها بأكمله.


عايدة علام