إنت مين يا أفندي؟

إنت مين يا أفندي؟

اخر تحديث في 1/19/2020 3:02:00 AM

 

بعد تولى الخديو إسماعيل حكم مصر أعاد عهد البعثات العلمية لأوروبا بعد أن إنتهت فى أعقاب فترة حكم محمد على، لقد أخذ إسماعيل فى إيفاد الطلاب إلى مدارس أوروبا منذ عام1863 ليعيد هذا التقليد الذى زود مصر بصفوة فكرية مميزة من العلماء ذوى الخلفية الفكرية الأوروبية.

وقد بلغ عدد الطلاب المبعوثين خلال فترة حكم إسماعيل 72 طالباً. وقد أنشأ مدرسة لأعضاء البعثات فى باريس بدلاً من المدرسة التى أنشأها محمد على لهذا الغرض. وعلى الرغم من أن عدد المبعوثين إلى أوروبا تحت حكم إسماعيل أقل من هؤلاء الذين أرسلهم محمد على، إلا أن الشباب الذين عادوا من أوروبا فى عصر إسماعيل كان لهم طابع مميز عن مبعوثين محمد على، ويرجع هذا إلى أن مبعوثى إسماعيل لم يتجاوز عمرهم العشرين عاماً، وكان لهذا أثر فعال فى سرعة تأثرهم بالعادات الأوروبية ليعودو إلى مصر ويشكلوا طبقة جديدة لها سماتها وفكرها الغربى البحت وهى طبقة الأفندية.

طبقة الأفندية التى نقصدها هنا هى تلك الطبقة التى شكلت ملامح جيل جديد من المثقفين المصريين، التى اغترفت من الثقافة الأوروبية وتبنت أفكارها، وقد استطاعت هذه الطبقة أن تكوِن رأى عام يقظ بقيادة مفكرون جدد، ذلك الفكر الذى كان يدور فى فلك العلوم العقلية والنقلية فى مجالات اللغة والأدب والدين. وعن طريقهم بدأ المجتمع يسير بخطى وئيدة نحو اتجاه ثقافى وفكرى له طابع علمانى، يندرج تحته الموظفون فى مؤسسات البلاد العلمية وغيرها من منطلق ثقافتهم وفكرهم الذى لعبت الثقافة الأوروبية دورها فى تشكيله.

وقد اشتهر الأفندية فى عصر إسماعيل أنهم كانوا يقلدون الأجانب فى أغلب نظم حياتهم دون مراعاة لظروف البيئة التى نشأوا بها وتربوا فيها، فعملوا على تطبيق كل ما تعلموه فى دول أوروبا داخل المجتمع المصرى فبدأت أفكارهم تنتشر بين أوساط متعددة داخل المجتمع لتصبح بمرور الوقت هى المسلك الفكرى المتبع فى مصر باعتبارهم صفوة المجتمع التى يجب الاقتداء بها.

فنجدهم فى أعقاب عودتهم إلى مصر يرتادون الملاهى ويشربون الخمور تقليداً للأجانب فيذكر عبدالله النديم "بعد مخالطة الأجانب سنين عديدة أخذ المصريين فى الخروج إلى الحظ وليالى اللهو، فلا يسعنا إلا التوجه إلى الخواجه بول مثلاً الذى جمع كميات من النبيذ اللذيذ والشمبانيا العال والبيرة اللطيفة ما يسلب به أموالنا، ويلهب به أحشاءنا ببعض الجرعات ثم نتركه قاصدين قهوة )فلان) المشهورة فلا نستقبح تسليم الخواجه ساعتنا حتى نوفيه حقه".

كذلك لعب القمار كان من بين العادات التى انتشرت فى مصر على يد طبقة الأفندية، كما ازدادوا فى هذه العادة لدرجة الاستدانة من أجل ممارستها، وتوقيع الكمبيالات للحصول على المال ولعب القمار.

وقد حرصت هذه الفئة اقتباس أنماط الحياة الاجتماعية الأوروبية من حيث تشييد المنازل والابتعاد عن الطراز الشرقى المعهود، كذلك ترك الملابس التى تم الاعتياد عليها كالجبة والعمامة وارتدوالطربوش، والبدلة الأوروبية، وبذلك أخذت الأزياء الشرقية فى التضاؤل وحلت محلها الأزياء الأوروبية هذا فضلاً عن اتباع العادات الأوروبية فى المأكل والمشرب فأخذوا يبسطون الموائد التى تتميز بالطابع الغربى.

ويستنكر عبدالله النديم هذا الإتجاه الجديد من قبل طبقة الأفندية فيقول" العجيب أنهم يقلدون الأجانب فيما لا يجدى ولا ينفع، كالتفنن فى المأكل والملبس حتى علموا الأجنبى كيف يكون التفنن والتأنق وألزموه أن يظهر لهم كل يوم من العجائب والأصناف المتنوعة وما انطوى غشه تحت ستار التحسين، وبهذه الطريقة فإنهم ضمنوا لهذا الأجنبى ازدهار مصانعه وتحويل أغلب ما تخرجه هذه المصانع من أنواع الترف على الشرق ومدنه. وكان إذا أحضر تاجر منهم صنفاً جديداً تسابقوا لشرائه ودفعوا الأثمان الباهظة فيه بنيه صافية ورضاء قلب بدلاً من أن يعملوا على تشجيع المصنوعات الوطنية ويعملوا على رواجها".

الجدير بالذكر أن الكثير من أبناء طبقة الأفندية تولوا الوظائف الحكومية الكبرى، التى أوضحت اتصافهم بعيوب الغرب، فكانت تعوزهم الأمانة فى تصرفاتهم، وينقصهم الصدق ويقومون بأقل عمل ويحاولون الحصول على أكبر أجر بطرق غير مشروعة، وكان الخديو إذا ما سمع بمثل تلك الأخطاء فلا يعاقب عليها مرتكبيها. وربما ترجع الثقة الشديدة فى فكر وتصرفات هذه الطبقة التى تعلمت وفقاً لأحدث النظم الغربية وبالتالى كانوا يشكلون فى نظر الخديو طبقة ذات رؤية موسوعية لا يمكن لها أن تقع فى الخطأ.

وقد كانت طبقة الأفندية تُستغل من قبل الغرب، فكثيراً منهم كانوا يدعون إلى أوروبا بحجة المحافظة على الأمن والتصدى للحركات الدينية، بالإضافة لذلك كانوا يألفون الكتب التى تصف مجتمعاتهم بالجهل والتخلف والرجعية ويدعون مجتمعهم إلى ضرورة السير فى فلك الفكر الأوروبى الحديث لبلوغ النهضة.

صفوة القول أن أفندية البعثات إذا جاز تسميتهم بهذا الاسم قد شكلوا فى أعقاب عودتهم لمصر فى عصر الخديو إسماعيل اتجاهاً فكرياً جديداً قائم على نقل الغرب لمصر عن طريق أنماط الحياة الاجتماعية التى تحمل تيار علمانى وجد سبيله فى المجتمع المصرى الذى انعكس بطبيعة الحال على فكره واستلزم ضرورة تنظيمة وفقاً لهذه الرؤية الجديدة. وقد ساعد هذه الطبقة على ذلك دعم الدولة لها، حيث كانت تحصل على إنعامات كثيرة من قبل الحكام.


محمد ابراهيم

محمد ابراهيم

راسل المحرر @