الثقافة البصرية والبحث عن الصدق والقدوة     

الثقافة البصرية والبحث عن الصدق والقدوة     

اخر تحديث في 4/15/2020 9:31:00 PM

 

      الفنون البصرية "التشكيلية" حالة يعيشها الفنان ومن ثم يستفيد منها المجتمع من حوله، فيمكن أن تكون هذه الاستفادة فى الشوارع وكيفية تجميلها وتهذيب الأشجار بها والتخطيط الجيد وعدم العشوائية فى تصميم أشكال المباني، والاهتمام بالثقافة البصرية داخلها والعمل على إظهار شوارعنا بطريقة حضارية فى التعامل والسلوك والثقافة والفكر والاهتمام بالميادين وكيفية تصميم أعمال ميدانية تعبر عن المكان الموجود به العمل الميدانى، وتصدير ثقافة المحافظة عليه والاهتمام بنظافته، ومن منطلق أن الفنون التشكيلية هى إحدى المقومات الأساسية التى تبنى عليها الحضارات، فالفن صانع هذه الحضارة والمغير والمجسد لجميع قيمها.. وهو ليس إنعكاسا لها ولكنه هو الذى يحدد شكل السلوكيات الأخلاقية وغيرها فى إطار النظام الإجتماعى؛ لذلك دائما ما يبحث الفنانون التشكيليون عن القدوة التى تأخذ بأيديهم وترشدهم، فلا يمكن أن تكون هناك حالة فنية أو تجربة حقيقية إذا ما اندمج الفنان وعرف الصدق نحو ما يعبر عنه فى عمله الفنى، والفن ما هو إلا متعة ذاتية ما بين الفنان وعمله الفنى يكسوه حالة من الصدق والأحاسيس والمشاعر النابعة من داخل الفنان ويغلف بها سطح عمله الفنى أو يبرز بها جمال عمله النحتى والميدانى، وكلما كان صادقا فى التعبير عن هذه المشاعر كلما اخترق هذا الصدق عقل ونظر المتلقى والمتذوق لهذه الأعمال الفنية، وهذا ما يفعله الصدق فى العمل الفنى وهذا ما نفتقده الآن.

ولو أننا رجعنا الى بداية تكوين الجماعات الفنية التى انتشرت فى أوائل القرن العشرين بهدف المصلحة العامة والتى كانت تدرب وتعلم وتخدم كل من يرتادها بجدية تامة سيكون هناك شعاع من التنوير يظهر تاريخنا وحضارتنا من جديد والارتقاء بالذوق العام للمجتمع، وهذا ما صنعه رواد الفن التشكيلى الأوائل أمثال محمود مختار ومحمود سعيد وراغب عياد ويوسف كامل ومحمد ناجى وجمال السجينى.. وغيرهم من رموز الفن فى مصر كانوا وما زالوا المثال الحى بأعمالهم الفنية الرائعة والمعبرة جدا عن قوميتنا وبيئتنا وروحنا المصرية الأصيلة، ونجد فى فنهم اجتماع القيم التشكيلية والروحية والتى تعمل على تخليد صورة مصر وانعكس ذلك فى أعمالهم الفنية واجتمعت فيها شخصية الوطن والتقت فيها روح العصر وصورة البيئة الطبيعية وأصداء الحياة الاجتماعية فى توازن آخاذ، وهذا ما نحسه عندما ندخل الى العديد من المتاحف ونقف أمام أعمالهم الفنية، ودور هؤلاء الرواد لا يقل أهمية عن دور رواد التنوير الفكري فى ذلك الوقت أمثال الإمام محمد عبده والذى كان له موقف شجاع ومثير للدهشة والتقدير والإعجاب تجاه الفنون عموما ويدل على سعة الأفق والاستنارة الحضارية، والموقف هو إصدار فتواه المعروفة التى أصدرها عام 1901م تحت عنوان "الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها" كيف أنه أعلى وثمن من قيمة الفنون فى المجتمع، وهناك كتابات المازنى فى كتابه "حصاد الهشيم" رسالة فن التصوير تحديدا ينطوى على تبصر وفهم عميق، وها هو عباس العقاد الذى لم يبرح مكانه فى مصر واستطاع بثقافته الموسوعية أن يقف على أهمية الفنون فقد قال "إن الأمة بغير علم أمة جاهلة ولكنها قد تكون على جهلها وافية الخلق والشعور والأمة بغير صناعة أمة تعوزها أداة العمل ولكنها على هذا قد تكون صحيحة الحس صحيحة التفكير والأمة بغير تعبير أمة مهزولة أو مشرفة على الموت وكذلك تكون الأمم التى خلت من الفنون لأن الفنون هى تعبير الأمم عن الحياة"، ونجد عميد الأدب العربى طه حسين وقد حرمه الله نعمة البصر قد أدرك ببصيرته وعمق ثقافته الدور الذى تؤديه الفنون فى حياة الأمم فيضع الفنانين فى المكان اللائق بهم بين عباقرة الأمة ونوابغها وغيرهم، بل إن دورهم كان بمثابة مساهمة ملموسة في حركة الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال وتأكيد الهوية الوطنية فى ذلك الوقت.

 ونجد أن الفن المصرى يستمد وسائلة التعبيرية قبل كل شيء من طبيعة مصر وهذه الطبيعة خالدة لن تتغير، ثم توالى في مصر ظهور العديد من الجماعات الفنية التشكيلية التى ساعدت فى بناء شخصية الكثير من الفنانين وجميعهم أصبح من أعلام الحركة التشكيلية في وقتنا الحالي. وهذا ما ننشده ونتمناه الآن ويجعلنا نشتاق ونبجث جديا عن القدوة التى تمكننا من الالتفاف حولها والتعلم منها ونقل خبراتها، وغيابها يحدث الكثير من الفوضى ويجعلنا لا نرى تجربة فنية متكاملة، والفن رسالة سامية ولابد أن نعي ونتيقن تمام اليقين أن من لا يملك القدرة على الإحساس والشعور والصدق لا يمكنه أن يعطي شيئا فلا يوجد عنده شيء يعطيه فهو ذاتي يسعى لنفسه فقط، فنحن فى حاجة أولا الى التعمق فى القراءة والثقافة والعلم وإنكار الذات والتطلع دائما الى كل ما هو جديد ونافع ومفيد لنتدرج ونصل الى أن نتذوق وننتج فنا حقيقيا حتى نتمكن من التعبير بصدق وأمانة، وهذا ليس على نطاق الفنانين الأكاديميين وحسب ولكن هناك العديد من الفنانين التلقائيين الفطريين بكل أنحاء مصر ونذكر منهم عبد البديع عبد الحي بن المنيا الذى عاش عاشقا للنحت وقد اهتمت بموهبته السيدة هدى شعراوى وذاع صيته فى العالم كله، ومحمود موسى بن الإسكندرية الذي كان يعمل فى الزخارف والكرانيش وأعمال النقاشة وكان ينحت أعمال فنية بالإضافة الى عمله الأصلي، ومحمود اللبان بن القاهرة بحوش قدم حي الغورية كان يعمل بائعا للبن وعرف بنحته البدائى الرائع، ومبروك إسماعيل بن واحة الخارجة بالوادى الجديد وعرف بصناعته للتماثيل الفخارية للشخصيات التى يعرفها فى قريته، ونحن فى أشد الحاجة الى القدوة التى تأخذ بأيدينا لاستعادة روح الرواد فى حبهم لوطنهم وقوميتهم وفى التوجيه الصحيح لتلاميذهم نحو تكوين جيل مثقف ومحب ومضحى ومبدع.. وما نصبو إليه هو تكاتف جهود كبار الفنانين ليقدموا لنا القدوة الحقيقية التى ترشد وتوجه الى الطريق الصحيح فى الفن بدون أن تنتظر منفعة شخصية، فالكبير دائما ما يحتضن ليربي ويكبر ويخرج جيل نافع وصالح لنفسه وأهله وبلاده، وبهذا ننشأ نشأة سوية نجتمع ونتقابل فى معارض وصالونات وندوات، نتثقف ونرتقى وننجح سويا.. فيهنئ بعضنا البعض.. عندها نكون قد صنعنا جيلا من الرواد الجدد مكتسبا لخبرة الماضى ومتطلعا الى مستقبل واع ومشرق.. وبهذا نكون قد سعينا نحو الارتقاء بالذوق العام فى مجالات متعددة، فلا يمكن أن ننسى من قدم لنا يد المساعدة بصدق ومحبة وليس من أجل شخصنا ولكن من أجل صناعة جيل صحي وسوي لترتقى به بلادنا وليستطيع أن ينقل ما قد قدم له ليكمل المسيرة فى صناعة جيل آخر وأجيال وأجيال.

المراجع

-           بدر الدين أبو غازى: المثال مختار. سلسلة آفاق الفن التشكيلى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003م.

-           بدر الدين أبو غازى: رواد الفن التشكيلى.سلسلة الفنون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007م.

-           رشدى إسكندر، كمال الملاخ، صبحى الشارونى: 80 سنة فن. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1991م.

-           صالح رضا: ملامح وقضايا فى الفن التشكيلى المعاصر. سلسلة الفنون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2005م.

-           صبرى منصور: دراسات تشكيلية. سلسلة آفاق الفن التشكيلى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2000م.


بدوى مبروك

بدوى مبروك

راسل المحرر @