ما عفريت إلا بني آدم.. تأملات في فلسفة الحكايات الخرافية 

ما عفريت إلا بني آدم.. تأملات في فلسفة الحكايات الخرافية 

اخر تحديث في 6/30/2020 4:54:00 PM

أسماء عبد الهادي

"الشبح، العفريت، الجن، النداهة، الغول، وحش".. كل هذه المسميات وغيرها يتداولها المصريون، ليس في حكاياتهم الشعبية والخرافية الموروثة فقط، ولكن في مواقفهم اليومية وتنادوا بها فيما بينهم بها كألقاب، وقد تستخدم إحدى الكلمات للتعبير عن موقفين متناقضين فمثلًا "عفريت" استخدمت للشخص الذي أنجز شيئًا ما بشكل محنك "الشاطر"، وقد تستخدم على آخر مثير للمشاكل "الشقاوة".

"كلب ينبح على شبح وألف كلب ينبح لنباحه"..

ارتبطت الأمثال الشعبية بهذا النوع من المعتقد الشعبي فالمثل السابق يدل علي سهولة تصديق الخرافة، غير أن في المعتقد أيضًا أن الكلاب ترى الأشباح، ولهذا المثل دلالة أخرى تعبر عن سرعة تصديق الشائعات فإذا ظهرت إشاعة ما رددها كثيرون. 
وكعادة المصريين لم تخل جعبتهم من التميز والصدارة والأولوية في الكثير من المجالات الحياتية، تصدرت القصة المصرية الصدارة في تاريخ الإبداع الأدبي، ولم يكن الغرض من سردها للتسلية فقط ولكن حملت في محتواها عمقًا فلسفيًّا ساهم في إبراز أهمية المشاعر الإنسانية كالحب والخوف والحزن والاشتياق والحنين لما لها من دلالات سامية سواء كانت دينية أو اجتماعية.
تميزت القصص الشعبية بالبساطة رغم توغلها الخرافي سواء في الأساطير أو الشخصيات الخيالية أبطال القصة والتي تقمصت أشكالا حيوانية ونباتية ذات صفات آدمية، إلا إنها عكست عادات وسلوكيات المصريين الأخلاقية والدينية، وكذلك الظواهر الكونية كنشأة الكون، وخلق البشرية، ووجود الآلهة، والتي تعالج الصراعات النفسية للطبيعة البشرية ولعل من أشهر الأساطير القديمة قصة "إيزيس وأوزوريس" التي صورت الصراع الأزلي، وربما كان طريقة سرد المصري القديم وتصوره لمثل هذه الأسطورة لغرض ديني وتفسير علاقة الآلهة ببعضها.

"إن فم الإنسان هو الذى ينجيه".. 

هذه أولى الكلمات التي قالها الغريق المنجي في قصته "الملاح الغريق" صاحب أشهر برديات مصر القديمة والتي تتلخص في أن هذا الملاح أثناء رحلته إلى المناجم في إحدى السفن الضخمة التي تزيد عن مائة قدم طولا وثلاثين عرضا، والتي يقودها مائة وعشرون ملاحا من أمهر ملاحي مصر، فجأة هبت الرياح والأعاصير الشديدة فاصطدمت السفينة بالأمواج الهائجة التي أغرقت السفينة بكل ما عليها من رجال، تشبث الملاح على لوح خشبي لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع أطاحت به موجة قوية إلى إحدى الجزر الغامضة وهي جزيرة "الكا" وآوى تحت شجرة ليرتاح قليلًا ثم أخذ يجوب الجزيرة باحثًا عن الطعام فوجد ما لذ وطاب من العنب والتين والتوت والبطيخ والقمح والشعير وغيرهم، ووجد الأفيال وأفراس النهر وفجأة اهتزت الأرض من تحته وظهر ثعبان كبير من الفضة بزخارف ذهبية قال له أنا ملك هذه الجزيرة وحمله إلى كهفه وأمره أن يقص له مع حدث، أخذ يحكي الملاح قصته مرتجفًا من شدة الرهبة بعد ذلك طمأنه الثعبان بأنه سوف يعود لوطنه بعد أن يعيش أربعة أشهر على هذه الجزيرة وبعد انتهاء المدة مرت إحدى السفن التي حملت الملاح العريق إلى وطنه بعد أن أهداه الثعبان الخيرات والهدايا ليقدمها للملك، وسرعان ماعاد إلى البلاد روى قصته على الملك فأمر الملك بتعيينه تابع له، ويظهر في أحداث القصة شجاعة المصري، وتطلعاته، وتفاعله مع البيئة المحيطة، وطبيعة المصري العاطفية ساعدته على تصديق هذه الحكايات الوهمية، ومعروف عن الحكايات الشفهية سرعة انتقالها من مكان لمكان، ومن زمن لزمن، ومن جيل لجيل لما فيها من تشويق يلفت الانتباه، حاملة النهايات السعيدة وانتصار الخير على الشر والحق على الباطل. 
فمصر الفرعونية تركت إرثًا حضاريًّا سرد لنا القصة الخرافية التي تأخذنا إلى المعتقد الشعبي الموروث المتداول حتى الآن ولعل أشهرها "لعنة الفراعنة". 
وبفعل تغير الزمن والتقدم الحضاري، وتطور أساليب الحكي، واختلاف المعتقد الديني ومحاولة الحفاظ على الموروث الشعبي والهوية الثقافية وما تحمله من مخزون يدعم تعليم القيم، المبادئ والأخلاق الحميدة، كل هذا ساعد في تنوع المعتقدات الخرافية الشعبية للمجتمع المصري فنجد الخرافات الدينية التي تتمثل في الأضرحة والموالي وزيارتها لقضاء الحاجة، وهناك خرافات اجتماعية كالخرافات المرتبطة بالزواج والعنوسة والإنجاب والموت والحسد وغيرها الكثير المرتبط بفكر المصريين.

"ما عفريت إلا بني آدم".. 

تنوعت حكايات الأبطال الخرافية الشعبية المصرية كالغول وغالبًا ما كانت امرأة سمينة حمراء العين تظهر ليلا وتأخذ الأطفال بعيدًا، لم يكتفِ المصريون بسرد قصتها فقط ولكن ألفوا لها أغنية "أمنا الغولة.. طقطقي الفولة.. بتعملي إيه؟" فهي كانت الظاهرة الرئيسية لإخافة الأطفال، وبفطرة مصرية نقية كانت تقصها الأمهات ليلا لأطفالها لرهبتهم واستغراقهم في النوم.
ومن أكثر العادات غرابة ما وجدت في الواحات حيث تتحول السيدة إلى غولة عند وفاة زوجها، والغولة تعني أنثى الغول والتي عرف عنها أنها تلتهم الآدميين، هناك أيضا النداهة والتي تتجسد في هيئة إنسانية وتظهر كرجل أو امرأة تقصد شخصا معينا وتتعايش معه، وكذلك الجنية التي اختلفت أشكالها وأشهرها جنية البحر والتي كانت تعشق أنسي وتتزوجه في بعض الحكايات.
أما العفاريت فوصل الاعتقاد بها إلى حد الإيمان وكانت تأخذ أشكالا مختلفة كالقط الأسود والأرانب والإنسان وغيرهم الكثير في كل ظهور وسرعان ماتختفي وعادة تقيم العفاريت في الأماكن المهجورة والتي تعرض أصحابها لحوادث كالقتل والحرق والانتحار، فأصبحت أرواحهم معلقة.
ولا ننسى ذكر الأشباح والتي تدخل في كثير من القصص والروايات المتداولة بين الناس والتي ارتبطت بحكايات عن حدوث أشياء خارقة وغير عادية في أماكن بعينها تداولها الناس فيما بينهم لتثير الرعب والفزع في النفوس، دون الاستناد إلى دليل مادي ملموس.
لم ينتهِ الحديث عن الموروث الشعبي للعادات الخرافية فهو ثقافة مصرية موروثة فضلا عن أنها مقربة للعقول، وربما وصل إلينا الحكايات المدونة، لكن نقل منها الكثير شفهيا من جيل لجيل كموروث شعبي له أصوله وتميزه أيضا بالبلاغة اللفظية.
لم يخف التقدم والتطور سواء العلمي أو الأدبي دور المصري في حفظه لهذا النوع من موروثه الشعبي، ومما لا شك فيه أن هذه القصص الشعبية القديمة كانت ولا زالت مصدر إلهام لكثير من الكتابات الأدبية الحديثة والمعاصرة.

المصادر:
-    سليم حسن، موسوعة مصر القديمة، الجزء السابع عشر، الأدب المصري القديم.
-    سمير أديب، موسوعة الحضارة المصرية القديمة.


اسماء نور

اسماء نور

راسل المحرر @