النبى أيوب ممنوع مسرحيًا!

النبى أيوب ممنوع مسرحيًا!

العدد 944 صدر بتاريخ 29سبتمبر2025

علمنا من المقالة السابقة أن شركة أفلام جو.. أرادت من الرقابة الترخيص بتمثيل مسرحية «أيوب ورحمة» تأليف جوزيف رزق الله، إخراج فاروق زكى، وذلك لتصويرها تليفزيونيًا، وتوقفنا عند تقرير الرقيب «كمال سعد طه» الذى ذكر قصة المسرحية، ونستكملها هنا ونقول: «ويحاول الشيطان مرة أخرى التأثير على رحمة بأن تجعل أيوب يأخذ العجل ليذبحه قربانًا باسم الشيطان وتحاول رحمة ذلك مع أيوب ولكنه يرفض ويعرفها بأن الشيطان يحاول القضاء على إيمانها، ويأتى الملاك لأيوب ويبشره بأن الله استجاب لدعواته وأرجع له صحته وخروج المال بضرب الحجر، وصلى أيوب وشكر ربه على ذلك، ثم تراه رحمه فلا تصدق ذلك ولكنها تعرف معجزة الله وتشكره على كل شىء ويأتى الملاك ويضع يده على رأس رحمة باسم الله فيرجع لها شعرها ويأتى أصدقاء أيوب من أجل أن يدعو لهم لله وطلب المغفرة وبالفعل يغفر الله لهم..
ويعود أيوب ورحمة إلى أحسن مما كانا عليه من جاه وسلطان لإرضاء الفقراء والإحسان عليهم ومعرفة أهل المدينة معجزة الله لهما ومكافأة الله لهما من صبرهما وحكمتهما وإيمانهما. «الرأي» تحكى هذه المسرحية عن أيوب وصبره وإيمانه وحكمته وكيف أستطاع التغلب على الشيطان بهذه الوسائل دون أن يكفر بالله حتى عندما أصبح فقيرًا وعندما أصاب بالمرض الخبيث وقد شاركته زوجته رحمة كل ذلك، فكان جزاء الله لهما رجوعه مرة أخرى لماله وجاهه وسلطانه وشفاء جسده من المرض الخبيث. فلا بد أن يتحلى الإنسان بالصبر والإيمان والحكمة والصبر على كل ما يأتيه من عند ربه. ولا مانع من التصريح بتأدية هذه المسرحية دون أى ملاحظات رقابية.
هذا التقرير كان مفاجأة كبيرة لى، لا سيما أن الرقيب وافق على عرض النص دون أى ملاحظات رقابية! وكأن الرقيب يقرّ بتمثيل شخصية النبى أيوب وتجسيدها على خشبة المسرح! وكنت أظن أن الرقيب الثانى سينتبه إلى هذا التجاوز الرقابى الخطير، ويمنع النص أو يبرز خطورة تجسيد الأنبياء على المسرح، ولكن بكل أسف قال الرقيب «عادل أحمد عيسى» فى تقريره: «تدور أحداث المسرحية حول أيوب ذلك الرجل الثرى جدًا الذى وهبه الله الكثير من الذهب والفضة وآلاف من الغنم والماشية وعبيد وخدم.. كما رزقه بالذرية الصالحة فله سبعة من البنين وثلاث من البنات.. ومع ذلك كله فهو تقى جدًا ويعبد الله فى السر والعلانية ودائم العطف على الفقير والمحتاج الأمر الذى لا يعجب الشيطان فيحاول معه الكثير من المحاولات لجعله يضل الطريق المستقيم طريق النور والفلاح ويسلك طريق الشيطان.. ويأتى له مرة على أنه رسول الملك إليه ويبلغه بأن الملك يريد أن يجعله حاكمًا على أرض غوص ولكن أيوب يرفض ويخبره بأن الحكم لله وحده وبعد ذلك يحاول الشيطان أن يميل عقل رحمة زوجة أيوب ويجعلها تؤثر على أيوب بالقبول ولكن دون جدوى، ويخرج الشيطان حزينًا غاضبًا.. ويأتى بعد ذلك أصدقاء أيوب ويعلم منهم أن صديقهم مريض فيرسل له الكثير مما أنعم الله عليه.. ويدخل الشيطان بعد ذلك وأعوانه فى محاولة للاستدانة من أيوب ووعده برد الدين بزيادة، أى فى محاولة أن يجعلوه مرابيًا ولكن أيوب يأبى ذلك. وحين ييأس الشيطان منه يحرق له قصره ويقتل أبناءه وأغنامه ولا يبقى له أى شيء ويأتى إليه ويخبره بأنه إذا سجد له وترك طريق الله فسوف يعيد له كل أملاكه، ولكن أيوب يخبره بأن الله هو الذى وهبه كل شيء وهو قادر أن يوهبه ويعوضه ويشكر الله على كل شىء وعندئذ يشتد غضب الشيطان ويأمر أعوانه بضرب أيوب حتى يصاب بتقيحات ثم يتركوه ويتم ذلك ويصبح أيوب مريضًا تصدر عنه رائحة كريهة والدود يأكل من لحمه ويحاول الشيطان بعد ذلك استمالة زوجة أيوب رحمة ولكنها تأبى ذلك وتظل بجانب أيوب ويتخلى عنه الجميع حتى أصدقاؤه، ولم يكتفِ الشيطان بذلك بل جعل الملك يأمر بطرد أيوب إلى الصحراء ويتم ذلك ويصبر أيوب وزوجته إلى أن يشاء الله العزيز القادر على كل شىء الشفاء لأيوب فيرسل له ملاك يرفع عنه ظلم الشيطان مكافأة له لصبره ويخبره بنبات أخضر يغتسل به ويضرب الحجر فإذا به يخرج ماء يغتسل أيوب بالنبات الأخضر ويعود سليمًا بأمر الله الذى يجزى الصابرين خير الجزاء. «الرأي» المسرحية تستعرض قصة سيدنا أيوب وزوجته وكيف أنه صبر على ظلم الشيطان له إلى أن نصره الله فمن ينصر الله ينصره، ويثبت أقدامه.. كما تشير إلى الصراع الدائم بين الخير والشر وأن الشر مهما طال فلا بد للخير أن ينتصر بأمر الله سبحانه وتعالى.. وعلى ذلك أرى لا مانع من الترخيص بهذه المسرحية للعرض فى الكنيسة والتصوير».
وهذا التقرير الغريب بإقراره تمثيل قصة سيدنا أيوب وزوجته – كما قال الرقيب، وكأن الأمر لا علاقة له بالقوانين التى تؤكد على عدم تمثيل الأنبياء وتجسيدهم على خشبة المسرح – أضاف إلينا معلومة جديدة، بأن موافقة الرقيب على تمثيل النص كانت محددة بأمرين: التمثيل فى الكنيسة والآخر التصوير! وهذا يعنى – ربما – محاولة التفافية من الرقيب بأن منع تمثيل شخصية النبى رقابيًا تطبق على التمثيل المسرحى.. أى التمثيل الحى المباشر أمام الجمهور فى المسرح! أما هنا فالأمر مختلف بأن التمثيل سيكون داخل الكنيسة أو من خلف الكاميرا، أى لا يوجد مسرح ولا جمهور مباشر! هذا تفسيرى للأمر حتى الآن، والذى يؤكده الرقيب «فتحى عمران» عندما قال فى تقريره بعد كتابة ملخص النص: “«الرأي» نص مسرحى يدور فى إطار قصة سيدنا أيوب مؤكدًا أهمية الإيمان والصبر لينتصر بنى الإنسان على الوسواس الخناس الدؤوب على إغوائهم بشتى الطرق ليضلوا الطريق القويم.. ولا مانع من الترخيص بالنص للعرض الكنسى والتصوير بلا ملاحظات رقابية».
لم يبق أمامنا سوى التقرير الثالث والأخير، والذى كتبته الرقيبة «نجلاء الكاشف»، فقد كان التقرير الأهم بما فيه من تفاصيل وملاحظات قانونية وإدارية، لم ينتبه إليها الرقيبان السابقان! قالت الرقيبة فى تقريرها: «يشتاط إبليس غضبًا لمحاباة الله لأيوب الذى كان لا يسهو يومًا عن الصلاة له والشكر على ما أولاه إياه من نعم وضياع وجواهر وأنعام وقصور وبنون. وها هو يقرر من الإكثار من ضرباته المتلاحقة عليه عله يقع فى الشر فيرغمه حينئذ على السجود له دون الله. ونراه بالفعل يأتيه على هيئة رسول من قبل ملك البلاد ليطالبه بتنفيذ حكمه فى أن يكون حاكمًا على أرض غوص، معتقدًا أنه بذلك سيغريه ويغويه، إلا أن إبليس يفوت عليه هذه الفرصة ويرفض لإيمانه بأن الحكم لله وحده، فيجن جنون الرسول الذى هو إبليس لاعتقاده أن أوامر الملك يجب أن تطاع، ويجن أكثر حين يخبره أيوب بأنه إنما يطيع الله أكثر مما يطيع الناس. وعندما لا تفلح محاولاته مع أيوب يتركه متوعدًا بأنه سيجعل من جسده حطبًا للنيران، ثم يدفع إليه برجلين من رجال الشياطين فى هيئة ضيفين غريبين، فيرهب بهما أيوب ويحسن ضيافتهما، وحين يتظاهران بحاجتهما للذهب شريطة اقتراضه منه بفائدة، يأبى أن يأخذ عنهما أية مكسب حرمه الله، بل يأبى أن يفعل مثلهما حين سجدا لإبليس الذى أتاه فى صورة قائد الملك، مستنكرًا السجود لغير الله، وكان بالطبع أن يثور إبليس لعدم تمكنه من إبعاده عن عبادته لربه الذى تمنى وأن يلفظه من رحمه. وها هو مرة أخرى يأمر رجاله الشياطين بأن يحرقوا له كل زرعه وأبله مصدر ماله وثروته بل ويأمرهم بتسليط ريح قوية لقتل جميع أولاده، عله يضعف، لكن أيوب بحمد الله الذى أعطاه وأخذ منه ما وهبه إياه. فتخيب مرة أخرى آمال إبليس الذى أخذ يبحث عن منفذ إلى قلب أيوب وبالفعل يقرر تسليط قروح على جسده لتكون بؤرة للأمراض والعلل القاتلة لربما جعله بذلك يكفر بربه. لكن أيوب الصابر يتحمل ما ابتلى به ويحمد الله بل وحين يأمر حاكم المدينة بطرده خارجها خشية انتشار عدواه لا ينفد صبره الذى جعله لا يفتر دقيقة عن ذكر الله والصبر على ما ابتلاه حتى بعد أن تنكر له أصدقاؤه الثلاثة الذين لاموه لاعتقادهم أنه إنما أذنب فى حق الله حتى وقع به هذا البلاء خاصة حين تأففوا من رائحته وتركوه بعد أن حاول أحدهم إعطاءه رغيفًا من الخبز، أى أن يأخذه على الرغم من جوعه لحاجته كما قال لهم إلى خبز الحياة الأبدية. ويبدو أن الله قد سمع حديثه هذا فأراد أن يخفف عنه وليس أدل على ذلك من إرساله لملك يخبره بمباركته له على صبره وتقواه. وهكذا يخذل الشيطان الذى يوسوس لرحمة مذكرًا إياها بما كانت تنعم به مع أيوب وطالبًا منها التأثير عليه ليذبح عجلًا ليقدمه قربانًا له، فتأتى أيوب لتطلب منه تنفيذ ذلك، فيعاتبها ساخرًا بأنها إنما استحقت لوساوس الشيطان، فتثور لاعتقادها أنه يريد أن لا يشفى وها هى تخبره بتعاستها فى هذه الحياة التى تحياها معه. وهنا لا يجد أيوب إلا أن يتضرع لله ليلهمه الصبر والرحمة والتى لم يضن بها عليه، فقد لبى نداءه وها هو أيوب بمشيئة الله يقم من مرقده ويمشى بعد أن شفى تمامًا من مرضه وليستعد وزوجته رحمة للانطلاق ليوفيا دينها لله الذى كما يقول أصبحا مدينان له بأجسادهما وأرواحهما. وتكتمل سعادته حين يأتيه أصدقاؤه الثلاثة طالبين عفوه عما بدر منهم وبأن يتضرع لله ليعفو عنهم وليقبل ذبائحهم التى قرروا تقديمها إليه قربانًا، فيسجد أيوب بالفعل مبتهلًا لله طالبًا المغفرة لأصدقائه، فيأتى ملك من السماء ليخبره بقبول الله لدعوته.. وهنا يبارك أيوب وأصدقاؤه أعمال الرب”.
بعد هذا الملخص الوافى، كتبت الرقيبة رأيًا قالت فيه: ««الرأي» نص مسرحى وإن كان كاتبه قد تناول فيه إحدى قصص الأنبياء، ألا وهى قصة نبى الله أيوب، عليه السلام، إلا أنه تناولها بشكل غير إسلامى معتمدًا على ما ورد ببعض الأناجيل كما يبدو وهذا جليًا مما ورد بحوار النص”. وهذا الرأى به نقطة مهمة لم ألمسها من قبل فى تقارير الرقباء، وهى نظرة الرقيب إلى استخدام الأنبياء مسرحيًا بناء على الرؤية الإسلامية فقط! فالرقيبة تقرّ أن صورة النبى أيوب جاءت فى النص من خلال رؤية غير إسلامية – وهنا تقصد الرؤية المسيحية - بدليل إقرارها بأن المؤلف اعتمد على بعض الأناجيل فى رسم صورة النبى أيوب! وهنا وقعت الرقيبة فى مأزق إجرائي: هل ترفض النص إسلاميًا أم تقبله مسيحيًا؟! لذلك اتخذت قرارًا فى تقريرها قالت فيه: «القرار» أرى أنه للموافقة على هذا النص ضرورة الالتزام بالآتي: أولًا: التنبيه بمنع ظهور النبى أيوب عليه السلام، والاكتفاء بالإشارة عنه بالحديث فقط مع ملاحظة ضرورة تقديم النص للمراجعة لدى الجهات الدينية المختصة للتأكد من صحة ما ورد به وعدم مخالفته للوجهة الدينية. ثانيًا: التنبيه باقتصار العرض فى حالة إجازته على المحافل والهيئات المسيحية فقط دون العرض العام أو التصوير وذلك بعد تنفيذ الملحوظة السالفة».
وبهذا رمت الرقيبة الكورة فى ملعب الجهات الدينية، أو إحالة الأمر لرئيسها فى العمل، وهو المدير العام، الذى كتب تقريرًا نهائيًا - عرض فيه التقارير السابقة - قائلًا فى ختامه: «إن العرض بهذه الصورة مطابق لما هو معروف عن قصة نبى الله أيوب، وكما وردت فى كتاب «أخلاق الأنبياء» للأستاذ «أحمد السماحي». ولما كان المبدأ عدم تجسيد الأنبياء على المسرح، لذا أقترح عدم الترخيص بالنص طبقًا لتعليمات مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف». ثم عبارة «يعتمد المنع» بخط يد المدير العام وتوقيعه - وهى السيدة «نعيمة حمدي» - بتاريخ 28/2/1988.
وبذلك أسدل الستار على شخصية النبى أيوب، والحكم عليها بعدم عرضها مسرحيًا منذ عام 1969 ولمدة عشرين عامًا، وربما حتى الآن! وجدير بالذكر أن أى باحث مستقبلًا سيقرأ هذه النصوص ويطلع عليها، سيجد فى نهاية النص الأخير «تصريحًا بالتمثيل»، ولكن يجب أن ينتبه إنه تصريح وهمى غير مختوم وغير موقع رغم أن له رقمًا وتاريخًا! وتفسير هذا الأمر هكذا: من الأساليب المتبعة فى الرقابة أن الأصل هو التصريح وليس المنع، لذلك كان يُكتب التصريح خلف آخر صفحة من النص بالديباجة المعهودة ويتم الختم ووضع رقم التصريح وتاريخه قبل وصول تقارير الرقباء، ويبقى الأمر متوقفًا على توقيع مدير إدارة المسرحيات وتوقيع المدير العام. وهذا ما تم فى هذا النص، وبسبب المنع وجدت التصريح مشطوبًا عليه دون توقيعات، وهذا نصه: «لا مانع من الترخيص بهذه المسرحية «أيوب ورحمة» لفرقة أفلام جو على أن يراعى الآتي: [مكان فارغ لأرقام صفحات بها محذوفات وملاحظات]، حفظ الآداب العامة فى الأداء والحركات والملابس، وإخطار الرقابة بموعدى التجربة النهائية والعرض الأول لهذه المسرحية حتى يتسنى بعد مشاهدتها الترخيص بصفة نهائية لهذه المسرحية”.


سيد علي إسماعيل