العدد 943 صدر بتاريخ 22سبتمبر2025
منذ أن انطلقت أولى دورات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عام 1988، حملت الكلمة ذاتها - التجريبى - وعدًا بالانفلات من المألوف. كان المسرح فى تلك اللحظة يعيش عالميًا تحولات كبرى: سقوط الأيديولوجيات الكبرى، صعود الصورة والجسد على حساب النص، وتحوّل المسرح إلى مساحة مواجهة مع أسئلة العصر. بدا المهرجان كأنه يفتح نافذة فى القاهرة على كل هذا الصخب.
لكن بعد أكثر من ثلاثة عقود، يطرح المهرجان نفسه سؤالًا جديدًا: هل بقى فعل التجريب متوقدًا فيه كقوة مقلقة ومزعزعة، أم أنه تحوّل إلى مؤسسة لها قواعدها وأنماطها الخاصة، حيث يغدو التجريب مجرد «تصنيف» أو «ماركة» أكثر من كونه فعل قلق مسرحى؟
التجريب: سؤال مفتوح أم قفص ذهبى؟
فى دوراته الأولى، بدا المهرجان وكأنه مختبر مفتوح. عروض جسدية بحتة مثل العروض البولندية واليابانية مطلع التسعينيات كانت تحوّل الخشبة إلى فضاء صاخب بالصورة والإيقاع، بلا اعتماد على نص. وقتها، شعر الجمهور العربى أن التجريب «صرعة» بصرية غريبة: حركات، أجساد، سينوغرافيا غرائبية. لكنه مع الوقت لم يعد غريبًا، بل صار مألوفًا.
هنا يطرح السؤال نفسه: هل يصبح التجريب - حين يتكرر بنفس الأدوات - مؤسسة لها قوانينها، بحيث يمكن التنبؤ بملامحه؟
عودة النص وتحوّل المعنى
فى منتصف التسعينيات، رأينا عروضًا مثل فيدرا - سيدة الأسرار (إخراج هانى المتناوى) أو تجارب المسرح التونسى مع رجاء بن عمار وعز الدين جنون، وهى أعمال أعادت الاعتبار للنص ولكن ليس كحكاية تقليدية، بل كأداة تفكيك وتجريب.
هذا التحول كشف عن أن التجريب ليس مجرد «جسد وصورة»، بل مساحة لتجريب النص ذاته: كتابته، تفكيكه، إعادة تأويله. وهنا اتسعت حدود المفهوم. لكن هل هذا الاتساع ظل مفتوحًا، أم أن المهرجان رسّخ له خطًا ثابتًا: كل دورة يجب أن تضم عرضًا نصيًا مفككًا، عرضًا جسديًا بحتًا، عرضًا سمعيًا بصريًا.. وهكذا؟ أى أننا أمام «بروتوكول» أكثر من مواجهة حقيقية مع أسئلة المسرح.
التجريب والسياسة
بعد أحداث 11 سبتمبر، كانت عروض مثل القسيس تحت الاحتلال (فرقة القصبة - فلسطين) أو مؤتمر هاملت (سليمان البسام) لحظة مواجهة. لم يعد التجريب شكلاً بصريًا فحسب، بل صار لغة لمساءلة التاريخ والسياسة، حيث يلتقى الجمالى بالواقعى.
غير أن هذا البعد السياسى سرعان ما أصبح هو الآخر «موضة» يتوقعها جمهور المهرجان. صار مألوفًا أن تقدم العروض العربية على وجه الخصوص صورة مقاومة أو نقدًا للسلطة أو انعكاسًا لاحتلال. أى أن التجريب السياسى نفسه تحوّل إلى «قالب»، يثير الحماسة لكنه لا يدهش كما فعل أول مرة.
التجريب والتكنولوجيا
مع مطلع الألفية، شهد المهرجان موجة واسعة من العروض التى راهنت على التكنولوجيا: الفيديو، الإسقاطات البصرية، المؤثرات الرقمية. عروض من اليابان والصين وبولندا والبرازيل مزجت المسرح بالفنون البصرية، فتحولت الخشبة إلى شاشة ضخمة، وصار الممثل يتحاور مع صور رقمية أو أجساد افتراضية. بدا ذلك فى البداية امتدادًا طبيعيًا لروح التجريب: البحث عن وسائط جديدة للفرجة.
لكن مع تراكم الدورات، بدا وكأن الشاشة لم تعد أداة لطرح سؤال جديد، بل أصبحت «ديكورًا متوقعًا». كثير من العروض استخدمت الإسقاطات البصرية بنفس الطريقة: صور متكررة، إيقاع ضوئى سريع، تجزئة للزمن. وهنا تكررت المعضلة: هل التجريب – حين يتحول إلى قوالب تقنية – يظل تجريبًا؟
ما بين الابهار والتكرار
لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا جلبت لحظات إبهار حقيقية. الجمهور الذى تابع مثلاً العروض البولندية أو بعض التجارب الآسيوية وجد نفسه فى مواجهة مسرح متعدد الوسائط يحطم الحدود التقليدية بين الفن التشكيلى والفيديو والموسيقى. لكن بعد سنوات قليلة، صار هذا الإبهار نفسه مألوفًا. تكررت القوالب، وأصبحت بعض العروض أقرب إلى «عرض وسائط متعددة» أكثر من كونها مسرحًا.
هنا ظهر خطر أن يتحول التجريب إلى تكنولوجيا بلا سؤال: شكل يدهش العين لكنه لا يثير العقل أو يعيد مساءلة علاقة المسرح بجمهوره.
التجريب ونزاع الكيف والكم
إلى جانب ذلك، اصطدم المهرجان بواقع مؤسسى آخر: كثافة العروض. فى بعض الدورات وصلت المشاركات إلى أكثر من سبعين عرضًا، موزعة بين فرق شابة، تجارب مستقلة، وعروض رسمية تأتى عبر اتفاقيات تبادل ثقافى. بدا أن «سياسة الكم» هى السائدة، حيث يُفتَح المجال لكل الأصوات تقريبًا.
لكن هذه الوفرة – رغم إيجابياتها – أفرزت أيضًا مشكلتين: الأولى تفاوت المستوى الفنى بشكل صارخ، والثانية أن التجريب نفسه صار مجرد لافتة تُرفع، بينما يقدّم بعض العروض نسخًا مكررة من تجارب سابقة. وبهذا، تحوّل المهرجان من مختبر أسئلة إلى معرض كبير يجمع كل شيء، دون أن يحافظ بالضرورة على حدّة السؤال التجريبى.
أزمة التكرار والاعتياد
المفارقة التى واجهت المهرجان مع تقدمه فى سنواته، أن التجريب الذى بدأ بصفته «مغامرة مجهولة» صار مع مرور الوقت متوقعًا. الجمهور صار يعرف مسبقًا أنه سيشاهد ممثلين يخرجون عن النص الكلاسيكى، أو يستخدمون الجسد فى لوحات تشكيلية، أو يضعون على الخشبة فيديو وصورًا وإسقاطات. وهنا فقد التجريب جزءًا من قوته الصادمة، إذ تحوّل إلى أُسلوب مألوف بدل أن يكون خرقًا للمألوف.
هذا التكرار لم يأتِ من فراغ، بل من انغماس العروض فى محاكاة بعضها البعض، ومن إغراء اللحاق بالموضة العالمية للمسرح ما بعد الدرامى. ومع ذلك، كان هناك دائمًا استثناءات قليلة تعيد السؤال إلى الواجهة: عروض كسرت السائد بجرأة نصية أو ببحث أنثروبولوجى فى الطقوس الشعبية، وأثبتت أن التجريب لا ينتهى بل يتجدد متى ارتبط ببحث صادق.
هل صار التجريب مؤسسة؟
مع الزمن، واجه المهرجان سؤالًا أكبر: هل ما زال التجريب فعل حرية أم صار مؤسسة لها قواعدها وحدودها؟
المهرجان الذى بدأ ليهدم التقاليد، أصبح يضع تقاليده الخاصة. صار هناك شكل «معتمد» للتجريب: المسرح الحركى، الجسد الممزق، النص المبعثر، الوسائط المتعددة. وهذا ما جعل بعض النقاد يتساءلون: هل تحوّل التجريب إلى قالب آخر، مثلما تحوّل المسرح الكلاسيكى فى يوم من الأيام إلى قوالب محفوظة؟
وبينما واصل بعض المخرجين مقاومة هذا الترويض عبر البحث فى الموروث الشعبى أو فى الجروح السياسية المعاصرة، فإن كثيرًا من العروض اكتفت بتكرار ما تم اعتماده، ففقدت التجريب جوهره الثورى.
التجريب العربى والبحث عن لغة خاصة
أما المسرح العربى داخل المهرجان، فقد كان يعيش جدلًا مضاعفًا. من جهة، تأثر بالموضة الغربية التى فرضت شكلًا معينًا للتجريب (الجسد، الصورة، التكنولوجيا). ومن جهة أخرى، حاول أن يجد لنفسه لغة نابعة من واقعه. رأينا ذلك فى عروض لبنانية مزجت الأداء الحركى بالسخرية السياسية، أو فى تجارب سورية ومصرية أعادت مساءلة النصوص الكلاسيكية عبر إسقاطها على واقع محاصر بالقمع والرقابة.
وفى أحيان أخرى، لجأت العروض العربية إلى التراث: طقوس صوفية، أشعار، سرديات من ألف ليلة وليلة. لكنها لم تعد هذه العناصر بوصفها «فولكلورًا»، بل بوصفها مادة لتجريب معاصر يعيد قراءتها. ومع ذلك، ظل هذا المسار غير متماسك، لأن بعض الفرق اكتفت بالاقتباس السطحى من الغرب، بينما قلّت التجارب التى أنتجت لغة عربية تجريبية خالصة.
المشهد الراهن بحثا عن الدهشة
مع دخول المهرجان إلى عقده الرابع، بدا أن التجريب لم يعد حكرًا على «النخبة» أو «المغامرين»، بل صار سمة أساسية لكثير من العروض المسرحية فى العالم. التكنولوجيا الرقمية صارت حاضرة بقوة، سواء فى شكل الإسقاطات البصرية أو التفاعل الحى على الخشبة، فيما توسعت التجارب الأدائية لتشمل الرقص المعاصر وفنون الشارع.
لكن هذا الانفتاح لم يكن بلا ثمن؛ إذ واجه المهرجان معضلة تشبع الجمهور: المتلقى الذى تابع على مدى ثلاثة عقود عروضًا تكرر فيها نفس القوالب التجريبية، صار يبحث عن «دهشة جديدة»، بينما لم تعد العروض قادرة دائمًا على تحقيق هذه الصدمة. وهنا ظهر سؤال ملح: هل ما زال المهرجان منصة لاكتشاف المجهول أم أصبح «أرشيفًا حيًّا» لما سبق أن اكتُشف؟
هل التجريب أبدى؟
بعد أكثر من ثلاثين دورة، يظل السؤال قائمًا: هل يمكن للتجريب أن يواصل طرح أسئلة جديدة؟
التجارب الأكثر حيوية فى السنوات الأخيرة كانت تلك التى لم تنسحب كليًا إلى الغرب، ولم تتقوقع فى التراث المحلى، بل مزجت بين الاثنين فى لغة هجينة، مسرح «عابر للحدود» يقترب من هموم الإنسان اليومية. رأينا عروضًا من فلسطين والعراق وتونس تتعامل مع الراهن السياسى والاجتماعى باعتباره مختبرًا للتجريب، لا مجرد خلفية له. ورأينا فرقًا آسيوية وأوروبية تبتكر صيغًا أدائية تتجاوز المسرح المغلق إلى فضاءات مفتوحة، كالمصانع المهجورة أو الشوارع.
بهذا المعنى، التجريب ليس مؤسسة مغلقة، بل عملية مستمرة تعيد مساءلة نفسها. لكنه فى الوقت ذاته مهدَّد بأن يتحول إلى مؤسسة إذا توقف عن طرح السؤال.
الحرية أم القالب؟
فى الختام حين نراجع مسار المهرجان منذ دوراته الأولى حتى الأخيرة، نرى أنه بدأ بصفته ثورة على السائد، فصار هو نفسه «سائدًا». هذا التحول يحمل وجهين:
وجه إيجابي: أن التجريب رسخ نفسه كجزء من الهوية المسرحية العالمية والعربية، ولم يعد حدثًا عابرًا.
وجه سلبي: أن التجريب أحيانًا فقد جوهره التحررى، وتحول إلى وصفة جاهزة أو قناع جديد للمؤسسة.
المسألة إذن ليست أن نسأل: «هل انتهى التجريب؟»، بل: «كيف نعيد إليه طاقته الثورية فى كل دورة جديدة؟».
فالتجريب ليس غاية فى ذاته، بل وسيلة لفتح أفق جديد أمام المسرح والجمهور. فإذا بقيت الأسئلة حية، ظل التجريب حيًا. وإذا رضخ لقواعد المؤسسة، صار مجرد قناع آخر لسلطة الشكل.
(ملحوظة: تمت كتابة هذا المقال بناء على متابعات الدورات السابقة للمهرجان التجريبى وقبل ان تبدأ مشاهدات الدورة الحالية الـ32)