طائر..حينما تحلق الأحلام في سماء التحقق

طائر..حينما تحلق الأحلام في سماء التحقق

العدد 526 صدر بتاريخ 25سبتمبر2017

الحلم والأمل وتحقيق  المعجزات, البحث عن السعادة والأمان من خلال المخلص أو البطل المنتظر دوما. لكن ماذا إذا لم يصل المخلص؟ وماذا لو حضر ليحقق لنا السعادة ولكنه رحل باي طريقة أو لأي سبب؟ هل نتخلى عن أحلامنا أو نعود لنقطة الصفر والانتظار أم نستمر في الانطلاق والمحاولة من دونه؟ولماذا نحن دائما في انتظار المخلص ونكبل أحلامنا بأغلال السلبية دون أن يأتي؟
يطرح لنا (محمود جمال) في مسرحيته (طائر), التي قدمتها فرقة قصر ثقافة السلام بالمهرجان الختامي لنوادي المسرح, حلما جميلا تعيشه بلدة فقيرة تعايش ظلم السلطة ليظل الشعب مقهورا في دائرة الحرمان والفقر والعبودية للحاكم, عندما يأتي (طائر) الإنسان الحالم البريء ذو السريرة الطاهرة, لا يتكلم بلسانه لكنه يحمل في قلبه وعقله ينبوعا سحريا لتحقيق الأمنيات بالفكر والعمل والاجتهاد والتعاون, كان أبواه يعيشان في ود حياة بسيطة وسعيدة (طائر) وكانت صدمتهما كبيرة عندما اكتشفا أن صغيرهما لايتكلم, لكن أمه قبل أن تتركه وتموت علمته الحب والسلام والرقص علمته أن يحتذي بالطيور, لذا استطاع أن يكتسب سريعا حب أهل البلدة ,التي أتى إليها غريبا,والذين علمهم تجاوز محنة كساد التجارة بتداول تجارتهم مع البلاد الأخرى, فانتعشت أرزاقهم وعاشوا السعادة وجود الحياة, لكن حين حدث ذلكعاود الحاكم بسلطته الظالمة سياسة القهر بفرض القوانين والضرائب مرة أخرى طالما أن أحوالهم المادية قد تيسرت لدرجة أنه يفرض عليهم ضريبة على المشي في الطرقات, لكنهم يرفضون هذه المرة في محاولة للثورة على الظلم وتغيير الأوضاع, وبكل بساطة يتم اشعالالنيران في محالهم وتجارتهم مما يؤدي بهم لفقدان إيمانهم بـ(طائر) بعد أن وصل بهم الأمر لمحاولة تقديسه كنبي أو ملاك طاهر مرسل إليهم من السماء, مما يؤدي بهم إلى قتله للتخلص منه حتى يعودوا للعيش في استسلام تحت مظلة أمان الذل و العبودية.
تناول المخرج (عمر حسين) منذ البداية رؤيته على عدة مستويات بدأها بالديكور البسيط بالخامات الخشبية البسيطة بتكوين سينوغرافي يتشكل من كتل ديكورية تشبه أبراج الحمام والطيور التي تبنى فوق المنازل, في المشهد الأول وقد بشيء من الظلام والسواد كدلالة للحزن الذي سيطر على والدي طائر لاكتشافهما أنه لايتكلم, ثم في مشهد السوق بالمدينة مع تغليب اللون الأصفر على المحال التجارية التي أيضا اتخذت طابع وشكل أبراج الطيور, وتكاملت معها خامات الملابس التي حيكت من الخيش لعامة الشعب الفقراء, ثم يظهر رئيس الشرطة بملابسه الفخمة المزركشة للتعبير عن احتكار الثروات في يد السلطة, ثم يدخل علينا طائر بزيه الأبيض الجميل المعبر عن الصفاء و النقاء والطهر, ليعطي الأمل و التفاؤل للجميع. واستطاع المخرج من خلال المؤثر البصري الحركي أن يعبر عن رؤيته فغلبت على جميع الشخوص حالة الخمول والتكاسل وقد امتزجت بمحاولات اللعب والترفيه وبث النشاط لقضاء الوقت وتناسي الحزن وكساد السوق, ثم معايشة النشاط و الهمة والتعبير الجسدي المتوهج بعد اندماج طائر معهم وتخطيهم مرحلة الكساد بالرقص والغناء والحماس في العمل, واعتمد العرض على التشكيل الحركي المعبر والمنضبط والذي أجاد المخرج تصميمه ليوحي بالدلالات الدرامية للحدث المسرحي, وخصوصا عندما فاجأ المتلقي برقصة حيوية مبهرة أشعلت حماس الجمهور للتعبير عن فرحة وسعادة أهل البلدة بانتعاش تجارتهم وانتقالهم لمرحلة جديدة رائعة من الحياة. فكانت رقصة ممتعة ومعبرة أجاد المخرج اختيارها حيث تم أداءها على نغمات إيقاعية سريعة وحماسية دون موسيقى أو لحن محدد فتكتمل رؤيته بعدم تحديد أي مكان أو زمان للأحداث وهذا عكس الرأي الذي ذكره البعض بتوظيف موسيقى هندية ورقص هندي للتعبير عن الحدث حيث لم يكن هناك موسيقى اصلا وإنما إيقاع فقط, كما أن الرقص هو لغة عالمية لا حدود لها. جاءت خيوط الإضاءة و ألوانها وتوظيفها موازيا للحدث الدرامي فأجاد المخرج التعبير بها من خلال توظيف الألوان قاتمة وحزينة للمدينة الغير سعيدة ثم تغيير التعامل مع ألوان الإضاءة في المرحلة الثانية بعد تحول المدينة للسعادة والحيوية فشاهدنا الإضاءة الكاملة وحسن التعامل مع ألوانها الساخنة لعدة مواقف. أما الموسيقى التي تم اعدادها من قبل (علاء قطب) فقد استطاعت أن تقود إحساس اللحظة لمشاعر المتلقي فقد تم اختيارها بعناية وتناسب لجميع اللحظات الدرامية. يحمل نص (طائر) فكرة بسيطة تحمل الحلم للبسطاء لكنهم يكتشفون أنهم عاشوا وهما وليس حلما لأنهم استسلموا للسلبية ولم يحركهم الطموح, فمهما قادك المخلص نحو تحقيق الأمل فعليك أن تكمل الطريق وتتشبث وتحاول وتنطلق بالفعل الإيجابي , لكن هنا فإن أهل المدينة قضت عليهم سلبيتهم وخمولهم فالمخلص إنما هو معلم فقط, ينير لك طريق الخلاص الذي عليك أن تواصله بنفسك, ومن جماليات النص أن المؤلف أتى بهذا المخلص لا ينطق ولايتكلم لغة الإنسان لكنه يجيد لغة الطيور التي تحلق في سماء الطهر والنقاء والحلم , فيؤكد لنا على فكرة أن التغيير و الفعل و الحراك الإيجابي لايأتي بالكلام لكنه يحتاج إلى الفعل والفكر وليس لمجرد كلمات أو شعارات أو ثرثرة بلا طائل, وكان دور الطفلة الصغيرة التي واجهت السلطة ببراءتها كمعادل موضوعي موازٍ لشخصية (طائر) الذي واجه السلطة بنقائه أيضا مصاحبا بالفعل الإيجابي, ثم ظهور شخصية الصديق الذي أصابه الإحباط من تحقيق أي أحلام في بلدته فيصر على الرحيل بحثا عن الرزق في أي مكان آخر, ليعبر عن كم اليأس والانهزام الذي يصيب الشباب عندما يقهرهم ظلم وذل الحكام, أما الجد العجوز الذي أنهكته السنين المتراكمة من الخذلان والظلم فقد كان تأثير (طائر) عليه بحيويته وأفكاره وايجابيته كبيرا وكأنه أعاد إليه شبابه وظهر هذا جليا في مفردات الحركة المسرحية لديه, ويجب أن نشيد بقدرة المخرج على تصميم الحركة وتوزيعها وتحقيق التوازن المسرحي المطلوب, مع إجادته رسم التداخلات الحركية وكذلك فهو أيضا يتمتع بخيال خصب في تصميم كوميديا الموقف و كوميديا الحركة التي كانت ثرية جدا في العرض, وكان حسن الختام عندما أعاد المخرج لقطات سريعة كاسترجاع للحظات جميلة وسعيدة قضاها طائر مع أهل البلدة وكأنه يتذكرها كشريط ذكريات في خياله قبل موته وقضائهم عليه.
أما الأداء التمثيلي فقد استطاع (عبد الله خالد) أداء دور (طائر) بمهارة فائقة دون نطق كلمة واحدة, تمكن من خلالها من توصيل كافة انفعالات الشخصية وأفكارها, كما كان واضحا فكر وجهد المخرج معه لتوصيل الشخصية للمتفرج دون استخدام اشارات تقليدية لشرح الجمل أو استخدام للغة الصم و البكم, بل قام بتوظيف حركات درامية معبرة ومؤثرة أجاد توصيلها ممثل من العيار الثقيل, وكذلك كان الممثل الذي أدى دور الجد العجوز ملفتا للنظر بموهبته وتلقائيته وحضوره القوي مع المتلقي, وتفاوت الأداء بين باقي الممثلين و تميزوا بالتنظيم الجيد والانضباط والالتزام وروح الفريق الواحد ووجود مواهب عديدة جيدة, وهم: أدهم عاطف, سمر هريدي, أحمد حسن سبكي, فاطمة نبوي, حمادة القاضي, هاجر هريدي, أحمد سمير كيلاني, محمد عزام, نور الدين خير, محمد عبد الغفار , كريم حسن علي, أحمد محمد إبراهيم, إسلام محمد سعيد, إبراهيم أحمد علي, هالة شحاتة, وصمم الرقصات خالد رجب, معاذ.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏