قراءة تحليلية لكتاب «المسرح المصرى القديم»

قراءة تحليلية لكتاب  «المسرح المصرى القديم»

العدد 936 صدر بتاريخ 4أغسطس2025

يعد كتاب «المسرح المصرى القديم» للباحث والكاتب عمر المعتز بالله الصادر عن دار العين للنشر من الدراسات المهمة التى تحاول أن تعيد النظر فى التاريخ الثقافى للحضارة المصرية القديمة من خلال مدخل أدبى وفنى نادر الاهتمام فى المسرح حيث، يقدم الكتاب أطروحة منهجية تستند إلى الحفر فى طبقات الزمن القديم، وتحاول إثبات أن المصريين القدماء عرفوا شكلًا من أشكال المسرح، وإن لم يكن مسرحًا بالمفهوم الأرسطى أو الغربى.
القسم الاول: قراءة فى المحاور الفكرية للكتاب
أولًا: إشكالية المصطلح والمنهج
يفتتح المؤلف كتابه بإثارة تساؤل محورى: هل عرف المصرى القديم المسرح؟ ويشير إلى أن هذا التساؤل لم يلقَ اهتمامًا كافيًا فى الدراسات الأكاديمية، وغالبًا ما يُجاب عليه إما بالنفى القاطع أو بإثبات غائم لا يستند إلى معايير واضحة. ينطلق الدكتور عمر من هذا الغموض ليضع منهجية تحليلية تجمع بين علم المصريات، والتحليل النصى، والأنثروبولوجيا المسرحية.
يقف المؤلف موقفًا نقديًا من الدراسات الغربية التى اعتبرت المسرح اختراعًا يونانيًا خالصًا، متأثرًا بمقاربات ما بعد الاستعمار التى تسعى إلى إعادة الاعتبار إلى الإبداع الثقافى للحضارات الشرقية القديمة، رافضًا حصر الفن المسرحى فى النماذج الإغريقية وحدها.
ثانيًا: منابع المسرح فى الطقوس والميثولوجيا
أحد المحاور الأساسية فى الكتاب يتمثل فى تتبع جذور المسرح فى الطقوس الدينية والأساطير المصرية، لا سيما عبر طقوس الإله أوزير وابنه حورس. ويخصص المؤلف فصلًا كاملًا لعرض تحليل نصوص «دراما أوزير» التى كانت تؤدى فى أبيدوس، مشيرًا إلى بنيتها المسرحية المدهشة.
يرى الكاتب أن ما كان يحدث فى معابد أبيدوس لم يكن مجرد طقس دينى، بل عرض درامى قائم على:
- توزيع أدوار بين شخصيات واضحة (أوزير، إيزيس، ست، نفتيس، حورس...)
- صراع درامى حول الخير والشر، والموت والبعث
- استخدام المشاهد الحركية، والأزياء، والموسيقى
- وجود جمهور من المتعبدين/المشاهدين
يستند فى هذا إلى ما سجله الرحالة والمستكشفون، ونقوش الجداريات، وتحليل دقيق للغة النصوص، مؤكدًا أن الطقوس المسرحية لم تكن محض عبادة، بل ذات بعد تمثيلى واضح.
ثالثًا: البنية المسرحية فى الأدب المصرى القديم
ينتقل المؤلف إلى تحليل نصوص الأدب المصرى القديم، ويبرز عناصر مسرحية كامنة فيها، مثل:
حكاية الفلاح الفصيح: حيث يستخدم تقنيات السرد الحوارى، والمواجهة بين الفلاح والسلطة ممثلة فى الحاكم.
قصة الأخوين: التى تتضمن حبكة درامية، وصراع، وذروة، ونهاية، يمكن قراءتها كبنية مسرحية.
حوار اليائس مع روحه: والذى يراه المؤلف نموذجًا مبكرًا للدراما النفسية، حيث تتجسد الروح كمحاوِرة للشخصية الرئيسية.
يظهر هنا تميز الكتاب فى تفكيك النصوص القديمة بعين درامية، ومحاولة إضفاء بعد مسرحى على ما اعتبرته الدراسات التقليدية مجرد حكايات أو حكم أخلاقية.
رابعًا: الفضاء المسرحى وتجهيزات العرض
فى فصل دقيق التحليل، يعالج الدكتور عمر المعتز بالله مسألة الفضاء المسرحى فى مصر القديمة، من خلال:
دراسة المعابد باعتبارها فضاءات درامية محتملة
تحليل المساحات المقدسة التى كانت تشهد أداء الطقوس
رصد الأزياء والديكورات التى استُخدمت خلال الطقوس المسرحية
مناقشة دور الموسيقى والأناشيد فى خلق الإيقاع الدرامي
ويعتمد المؤلف فى هذا السياق على وثائق أثرية ورمزية، ويقارن بين ما وُجد فى مصر وما عُرف لاحقًا فى مسرحيات الشعوب القديمة الأخرى.
خامسًا: الجمهور والتلقي
من أكثر أقسام الكتاب جدة هو تناوله لـ مفهوم الجمهور فى الحضارة المصرية القديمة. يتساءل: من كان يتابع هذه الطقوس/العروض؟ هل كان الحضور يقتصر على الكهنة والملوك؟ أم أن عامة الناس كان لهم نصيب من المتابعة؟ ويقدم تحليلًا متعدد المستويات:
يرى أن الجمهور المصرى القديم كان واعيًا بالرموز والقصص الميثولوجية، وبالتالى يمكنه «قراءة» العرض الطقسى وفهم رمزيته.
يشير إلى أن هناك طبقات من التلقي: جمهور يشارك، وآخر يراقب، وآخر يفسّر.
يحلل العلاقة بين الكاهن/الممثل والجمهور، كعلاقة بين مؤدٍ و»شاهد مقدس».
سادسًا: نقد النظرة الكلاسيكية للمسرح
فى هذا الجزء، يدخل الدكتور عمر فى حوار فلسفى مع الفهم الغربى للمسرح بوصفه اختراعًا يونانيًا. يطرح مفهوم «التعدد الجغرافى لبدايات المسرح»، أى أن المسرح وُجد بأشكال متعددة فى حضارات مختلفة (مصر، بابل، الهند، الصين)، ولكن أوروبا فقط هى من نظّرت له وصنّفته.
وهنا يتبنى رؤية قريبة من فكر ريتشارد شيشنر فى الأداء، حيث يرى أن الطقس، واللعب، والاحتفال، والحكى الجماعى، كلها أشكال أداء يمكن أن تُدرج تحت مظلة «المسرح البدائي».
سابعًا: أهمية الكتاب فى الحقل الأكاديمي
يشكل الكتاب إضافة مهمة إلى دراسات المسرح المقارن، وتاريخ الأداء، والأنثروبولوجيا الثقافية. ومن أبرز ما يميزه:
توثيقه للنصوص الأصلية، واعتماده على مصادر أثرية دقيقة.
منهجه النقدى المقارن بين المسرح المصرى القديم والمسرح الإغريقى.
- إبرازه لدور الرمزية والجسد والفضاء فى الأداء الدرامى القديم.
- إعادة الاعتبار إلى الخيال المسرحى الشرقى كمكوّن أصيل فى الحضارات القديمة.
ثامنًا: نقد وملاحظات
رغم أهمية الكتاب، يمكن الإشارة إلى بعض النقاط النقدية:
- أحيانًا يغلب على الطرح النزعة التأويلية، خاصة حين يحاول إسقاط بنى درامية على نصوص طقسية دون أدلة قاطعة.
- لم يُفرد مساحة كافية لمقارنة ما طرحه بنصوص مشابهة من حضارات معاصرة (مثل العراق القديم أو حضارة المايا).
- بعض المصطلحات المستخدمة تحتاج إلى ضبط دلالى، خاصة عند الحديث عن «الممثل» و»المخرج» و»النص»، حيث قد تسقط المعانى الحديثة على الماضى دون تقييد.
القسم الثانى: قراءة فى فصول الكتاب
الفصل الأول: الجذور الطقسية والميثولوجية للمسرح المصرى القديم
يفتتح الكاتب الفصل الأول بتأصيل فلسفى وتاريخى يربط فيه بين بدايات المسرح المصرى وبين الطقوس الدينية والميثولوجيا. ومن خلال ذلك يطرح فكرة أن المسرح المصرى القديم لم يولد كفن ترفيهى، بل كوسيلة تعبيرية طقسية تؤدى فى مناسبات مقدسة. ويشرح كيف كانت الطقوس الجنائزية، واحتفالات البعث، والأساطير المرتبطة بأوزيريس وإيزيس تشكل المهد الأول للتمثيل الدرامى.
فى هذه المرحلة، يستخدم المؤلف أسلوبًا تحليليًا أقرب إلى السيميولوجيا، حيث يفسر الرموز والحركات فى الطقوس بوصفها «نواة أداء مسرحي». وهنا تتبدى قدرة الكاتب على المزج بين التحليل الأدبى والمعالجة الأركيولوجية للنصوص والآثار المصرية.
ثانيًا: أوزيريس والميلاد المسرحى
يخصص الكاتب جزءًا مهمًا لتحليل أسطورة أوزيريس، بوصفها النص التأسيسى الذى استند إليه المسرح الطقسى فى مصر القديمة. يربط المؤلف بين عملية موت أوزيريس وتمزيق جسده وبعثه من جديد وبين البنية الدرامية التى تقوم على الصراع والموت والانبعاث.
ويصف الاحتفال السنوى الذى كان يُقام فى أبيدوس، مستعينًا بالمصادر الهيروغليفية والنقوش، كأحد أوائل العروض المسرحية فى التاريخ، مشيرًا إلى أن «الممثلين» كانوا كهنة يقومون بأداء الأدوار فى سياق دينى لا ينفصل عن البنية السياسية والروحية للمجتمع المصرى.
ثالثًا: التوظيف الزمانى والمكاني
يحلل الكاتب وظيفة المكان فى تلك الطقوس – المعابد، الفناءات المقدسة، النيل – ويبرز كيف أن الزمن المسرحى المقدس كان زمنًا دائريًا يعيد إنتاج دورة الحياة والموت. وهذا ما يميز المسرح المصرى القديم عن غيره؛ أنه مسرح «للخلاص الديني» أكثر من كونه مسرحًا ترفيهيًا.
الفصل الثاني: المكونات البصرية والصوتية فى الأداء الطقسي
أولًا: الأداء كصوت وصورة
ينتقل المؤلف فى هذا الفصل من التأصيل التاريخى إلى البعد الأدائى، حيث يفكك بنية الأداء المسرحى المصرى عبر عنصرين أساسيين: الصورة والصوت. يرى أن العرض المسرحى فى مصر القديمة كان يقوم على التكامل بين الزى، القناع، الحركات الطقسية، الموسيقى، التراتيل، وحتى الإضاءة الطبيعية.
يسهب الكاتب فى وصف الأزياء الكهنوتية ودورها فى تمييز الشخصيات الطقسية مثل أوزيريس وست وحورس، حيث كانت الألوان والأنماط النسيجية تُوظف للتعبير عن السلطة والمقدس. كذلك، يشرح كيف كان للقناع المسرحى طابع مزدوج: سحرى ورمزى، يحول المؤدى إلى إله.
ثانيًا: الموسيقى والتراتيل
تتجلى قدرة الدكتور عمر المعتز بالله فى هذا الفصل حين يربط بين التراتيل الدينية والإيقاعات الصوتية للمسرح، متتبعًا أثر المزامير والنصوص الهيروغليفية فى بناء البنية الإيقاعية للعرض. يتضح أن الصوت لم يكن للمتعة فقط، بل لحمل الرسائل المقدسة، وكأن العرض المسرحى كان قراءة طقسية مرئية.
ثالثًا: التكوين المشهدي
يُبرز الكاتب مفهوم «اللوحة المسرحية» فى الفن المصرى القديم، ويرى أن الجداريات ذات الطابع الطقسى كانت بمثابة Storyboard للمسرح الدينى. ويتوقف عند تكوين المشهد: ترتيب الكهنة، توزيع الحركات، إيماءات اليد، المشى الطقسى، الأضواء الطبيعية، ويستخلص أن العرض المسرحى لم يكن مرتجلًا بل قائمًا على بروتوكول أدائى صارم.
الفصل الثالث: النصوص والحوارات المسرحية فى الوثائق الهيروغليفية
أولًا: ما بين الشعر والحوار
يتناول الكاتب فى هذا الفصل النصوص المسرحية المنقوشة أو المحفوظة فى البرديات، مثل بردية «رع وحورس» و»بردية المعراج الملكي»، محللًا بنيتها الأدبية. ويطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن اعتبار هذه النصوص «نصوصًا مسرحية» بمفهومنا الحديث؟
يرى الكاتب أن تلك النصوص كانت نصوصًا طقسية حوارية، تشبه الحوار المسرحى الشعرى، وأنها كانت تُكتب لغايات الأداء وليس للقراءة فقط. يتبدى ذلك فى وجود ضمائر المخاطب، التوجيهات الحركية، الصيغ الإنشائية، الأسئلة والإجابات بين الآلهة.
ثانيًا: الجدلية والدراما
يحلل الكاتب نصوصًا حوارية بين إيزيس ونفتيس، وبين رع وأعدائه، ويلاحظ وجود بنية درامية تقوم على التوتر، الجدل، والسعى نحو الحل. ويربط هذا بالعنصر الكلاسيكى فى التراجيديا: صراع بين الخير والشر، النور والظلام، النظام والفوضى.
ثالثًا: التوظيف السياسى للنص المسرحى
يفسر الكاتب كيف كانت بعض العروض المسرحية الطقسية توظف لتثبيت شرعية الفرعون. العرض كان يُؤدى فى المناسبات الكبرى مثل تتويج الملك، عيد «سد»، أو الاحتفالات القومية، ويستعرض نصوصًا تدور حول انتصار الملك بمباركة رع، مما يجعل المسرح أداة أيديولوجية لتكريس الحكم.
يقدم الدكتور عمر المعتز بالله فى هذه الفصول الثلاثة السابقة، مقاربة فريدة تجمع بين التاريخ، الأدب، والأداء المسرحى. فهو لا يكتب عن المسرح المصرى القديم بوصفه «أثرًا ماضيًا»، بل بوصفه نصًا حيًا يمكن إعادة قراءته فنّيًا وجماليًا.
الفصل الرابع: المسرح الجنائزى والعروض الجنائزية الطقسية
أولًا: المراسم الجنائزية بوصفها عروضًا مسرحية
ثانيًا: إشكاليات الأداء الجنائزى.
الفصل الخامس: المسرح كفن سردى وتجميعى – كتابة النصوص وتوثيقها
أولًا: أول سيناريو مسرحى – بردية “الحدأتان”.
ثانيًا: النص المكتوب كوظيفة تأريخية وأيديولوجية.
الفصل السادس: المسرح المصرى القديم كنواة للفن المسرحى المتأخر
أولًا: المسرح المصرى والإغريقى – من التقليد إلى التأسيس.
ثانيًا: قراءة نقدية – من الطقس إلى الفن المسرحي
يختم المؤلف هذا الفصل بتأكيد أن المسرح المصرى القديم ليس مجرد طقس، بل نُسق أداء ارتقائى قائم على الكتابة، النص، الأداء، التمثيل، والبنية الدرامية المدروسة - ما يجعله فنًا كاملًا سابقًا لعصر المسرح الكلاسيكى.
يُعد كتاب «المسرح المصرى القديم» للدكتور عمر المعتز بالله عملًا بحثيًا رائدًا فى إعادة تشكيل النظرة إلى الإرث الثقافى للمصريين القدماء، من خلال عدسة المسرح وفنون الأداء. ومع أنه لا يدّعى أن المسرح المصرى كان مكتملًا كفن مستقل، إلا أنه يُظهر بنية درامية أدائية متجذرة فى الطقس والدين والأسطورة، حيث يمثل هذا الكتاب دعوة صريحة لإعادة قراءة التاريخ المصرى القديم بعين أدائية، تدمج بين النص والجسد، وبين المعنى والاحتفال، وبين الطقس والعرض. كما يدعو الباحثين العرب إلى تفكيك المركزية الغربية فى تأريخ الفنون، وإعادة الاعتبار إلى الأداء المسرحى فى الحضارات الشرقية كمصدر إبداعى أصيل، لا تابع.


حسن عبد الهادي