«حواديت» خالد جلال.. الإنسان في مرايا الحكايات

«حواديت» خالد جلال.. الإنسان في مرايا الحكايات

العدد 944 صدر بتاريخ 29سبتمبر2025

منذ فجر التاريخ نشأ الإنسان على الحكى ورواية الحواديت، فارتبطت الحكاية بالوجود الإنسانى. ليس لمجرد التسلية وتمضية الوقت، ولكن لانتزاع الحكمة وفهم الذات واكتشاف الحقيقة. فالحدوتة هى وسيلة للبحث عن إجابات للتساؤلات، التى لا إجابة لها، وهى مرآة لاكتشاف الذات وفهم الآخر. وقد ارتبط المسرح منذ نشأته بالحكاية، حيث يجمع فضاءه بين الجسد والكلمة لسماع ومشاهدة الحكاية لإعادة صياغة الحياة فى مشاهد مثيرة للتأمل والتساؤل.
من هذا المنطلق يطل علينا عرض «حواديت» للمخرج خالد جلال، والذى يقدمه فى مركز الإبداع كمشروع لتخرج دفعة جديدة من أبناءه الموهوبين. وذلك فى خمس عشرة حدوتة متقاطعة كفسيفساء فنية يمثل كل جزء منها جرح أليم فى الحياة لتتجمع كحكايات واقعية تتشابك مع رمزيات المعانى والدلالات الإنسانية. الحكايات تعكس هموم الناس اليومية وأحلامهم البسيطة، من علاقاتهم العائلية إلى صراعاتهم الاجتماعية، مرورًا بالحب والفقد والفرح والخيبة، وصولًا إلى التحديات المعاصرة مثل تأثير السوشيال ميديا.

نماذج من الحواديت:
نعمة وبحر
فى قرية شطورة بصعيد مصر، ينسج العرض قصة عازف الناى بحر، الذى يقف على ضفاف النيل فى انتظار عودة حبيبته الغارقة نعمة. هنا يمتزج الواقع بالأسطورة، ويصبح انتظار المعجزة رحلة من الصبر والأمل، بينما تتداخل موسيقى الناى مع همسات الريح لتعكس حالة الانتظار الأبدى.
 الشهرة والطموح
تلميذة موهوبة تواجه اختبارات الشهرة، بين رغبة فى التميز وبين ولع وسائل الإعلام والثراء السريع. تتشابك الأحلام مع الإغراءات، ويظهر الصراع الأزلى بين التمسك بالموهبة الحقيقية والانحراف نحو المظاهر، لتصبح الحكاية درسًا عن قيمة الإخلاص للفن.
التوبة والسرقة
قصة لص يتحول فى ليلة واحدة إلى عنصر فاعل فى سعادة الآخرين، حين يشارك فى احتفال مولود جديد. تتداخل الفكاهة مع المعاناة، وتبرز المسرحية قدرة الإنسان على التغيير، والفرح الذى يمكن أن ينبثق من أبسط الأفعال.
وجبة البيتزا
عامل دليفرى فقير يصبح محور حكاية فرح، حين يصل إلى أسرة فقيرة لم تتذوق البيتزا من قبل. التوتر والارتباك يتحولان إلى لحظة بهجة جماعية صافية، حيث يختلط الضحك مع الدهشة، ويبرز العرض كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تصنع لحظات إنسانية خالدة.
المهور ومآسى الزواج
تنتقل الحكاية إلى مشكلات المجتمع الراسخة، حيث المغالاة فى المهور تؤدى إلى تفاقم العنوسة وحرمان الشباب من الزواج. يعكس المشهد واقعًا اجتماعيًا مؤلمًا، لكنه يُقدَّم بأسلوب مسرحى يوازن بين النقد والدراما واللمسة الكوميدية، ما يجعل المشاهد يفكر ويبتسم فى الوقت نفسه.
 العروس الماريونيت
تتحرك الدمى على خشبة المسرح، ممثلةً العروس المسيرة بخيوط قاسية يتحكم بها لاعبها. الحدوتة تعكس قهر المرأة وصراعها مع القيود، لكنها تتحول فى النهاية إلى لحظة انتصار رمزى للحرية، حين تنزع العروس الخيوط عن نفسها، مصحوبة بصوت أم كلثوم: “أعطنى حريتى.. أطلق يديّ”. المشهد يجسد التوازن بين التراجيديا والبهجة، ويظهر قدرة المسرح على التعبير عن القضايا الاجتماعية بعمق وابتكار.
ليلة الدخلة والمفاجآت
عريس وعروس يواجهان مفاجآت ليلة زواجهما: مرض مزمن وعواقب مميتة تهدد العلاقة. الحدوتة توظف التكنيك الدرامى للمفاجأة، حيث تنقلب الأحداث فى دقائق معدودة، فيتعلم المشاهد أن الحب والتفاهم والصبر يمكن أن ينتصروا على الصعاب، وأن الإنسان قادر على التكيف والتغلب على الألم بالوعى والرحمة.
 الوحدة والاغتراب
تختتم الحكايات بعرض حياة الفرد الموحّد، الشخص الذى يعانى من الوحدة والاغتراب، وسط صخب العالم من حوله. الحدوتة الأخيرة تمثل تأملًا فلسفيًا وإنسانيًا فى معنى الحياة والعلاقات، وتؤكد على قدرة المسرح على تقديم تجربة متكاملة تغطى طيف المشاعر الإنسانية من الفقد إلى الفرح، من الضحك إلى البكاء، مع الحفاظ على الإيقاع الفنى المتناغم الذى يربط كل الحكايات ببعضها البعض.
فى البداية يقوم المخرج خالد جلال بتقديم العرض ونجومه، فى برولوج يشرح فيه تاريخ مركز الإبداع ومن تخرج منه من نجوم الفن الذين يتربعون حاليا على ساحة الدراما. ثم ينقل الحديث لشخصية شهر زاد كرمز موروث شعبى لحكاية الحواديت.
وفى ذلك يستخدم المخرج مقدمة موسيقية ودرامية تعرض التيمة الأساسية: الحكاية كمرآة للحياة، وهى بمثابة دعوة للجمهور للانغماس فى عالم متنوع من المشاعر والقصص.
فى بنيته الدرامية يتبع عرض “حواديت” بنية موسوعية متسلسلة، حيث تتواصل القصص الخمس عشرة دون انقطاع زمنى صريح، ولكن تربطها الموضوعات الإنسانية المشتركة: الفقد، الحب، الوحدة، الصراع الاجتماعى، والأمل.
تتلاشى فكرة التتابع الزمنى هنا فالقصص ليست ذات خط زمنى واحد بالضرورة، بل تنطلق من الواقع اليومى، ثم تتداخل مع الفانتازيا، الأسطورة، والرمزية، ما يخلق شعورًا بالتنوع والتجدد لكل حدوتة.
البنية تقرّب العرض من مفهوم المسرح الملحمى عند بريشت؛ حيث يتجزأ الفعل المسرحى إلى لوحات، وكل لوحة تحمل مغزاها الخاص. لكنها فى الوقت نفسه لا تخلو من الطابع الطقسى الذى نجده عند جروتوفسكى، حيث تصبح كل حكاية أشبه بصرخة أو اعتراف أمام المتلقى.
أما التيمة المشتركة بينها فهى الإنسانية، القدرة على التغيير، مواجهة التحديات، والبحث عن معنى للوجود.
يحتوى العرض على مجموعة كبيرة من الشخصيات، كل منها يمثل نموذجًا إنسانيًا مختلفًا:
منهم الأطفال والصغار الذين يظهرون البراءة والطموح والفضول. ومنهم الشباب الذين يمثلون الصراع بين الطموح والمغريات، بين الفن الحقيقى والسطحى.
بينما الكبار يرمزون إلى الحكمة، الفقد، أو القيود الاجتماعية.
فى المقابل نجد نموذج الفقراء والمهمشون؛ حيث يقدمون بعدًا واقعيًا وإنسانيًا للحكايات، ويبرزون الكفاح اليومى والمفارقات الاجتماعية.
فنجد كل شخصية مصممة لتكون رمزًا أو مثالًا حيًا لما يعيشه البشر فى حياتهم اليومية، دون الحاجة إلى حوار طويل، حيث الأفعال واللغة الجسدية غالبًا ما تحمل المعنى الكامل.
ينحو بنا العرض إلى رموز ودلالات عديدة، منها على سبيل المثال:     
الخيوط فى حدوتة الماريونيت ترمز إلى القهر الاجتماعى والسيطرة، والتحرر من القيود.
عازف الناى بحر: يرمز إلى الفن، الانتظار، والأمل فى مواجهة التحديات.
البيتزا فى الحدوتة الاجتماعية ترمز إلى تحقيق الرغبات البسيطة، التضامن، والسعادة فى التفاصيل اليومية.
مفاجئة ليلة الدخلة ترمز إلى مواجهة الحياة ومصاعبها، وتحويل الصدمة إلى فرصة للتفاهم.
فنجد أن بنية السرد فى حواديت كسرت التتابع التقليدى للحكاية المسرحية، وأعادت صياغة العرض كرحلة متقطعة، تتنوع فيها الأساليب بين الملحمى والتعبيرى والطقسى. أما الأداء، فجعل الممثل مركز الثقل، باعتباره الناقل الأساسى للحكايات عبر جسده وصوته وتحولاته المستمرة.
فى هذا العرض يمزج المخرج بين عدة اتجاهات مسرحية، منها الملحمى البريشتى والطقسى الجروتوفسكى والتعبيرية، مع لمسات من الواقعية والمسرح داخل المسرح، ليُنتج فى النهاية صيغة خاصة بخالد جلال، صيغة تحتفى بالممثل كصانع للفرجة وبالحدوتة كبطل مركزى. إذن حواديت لا ينتمى إلى مدرسة مسرحية واحدة صافية، بل هو مزيج واعٍ من عدة اتجاهات مسرحية، تم تطويعها لخدمة التجربة. يمكن أن نحدد أبرزها كالآتي:
المسرح الملحمى (بريشت): تقسيم العرض إلى لوحات متتابعة (15 حدوتة) يتسق مع فكرة اللوحات البريشتية التى تُعرض كعناصر مستقلة لكنها متجاورة فكريًا. واستخدام كسر الإيهام المسرحى، فالممثل أحيانًا يخاطب الجمهور مباشرة، أو يغيّر شخصيته أمامهم دون انتقال درامى تقليدى، وهو ما يدفع المتفرج إلى التفكير بدل الاندماج. كما أن الحكايات نفسها تحمل رسائل اجتماعية واضحة: الفقر، الوحدة، قهر المرأة، الاستهلاك، غلاء الزواج… إلخ، وهو جوهر الملحمى الذى يُسخّر المسرح كأداة نقدية.
المسرح الطقسى (جروتوفسكى): اعتماد العرض على الاعتراف المسرحى: كل حدوتة تقترب من البوح أو الاعتراف الشخصى أمام جمهور يُعامل كـ»مجتمع شاهد». وكذلك توظيف الجسد بشكل مكثف، بحيث يصبح الممثل هو المركز، وليس الديكور أو المؤثرات الخارجية. كما نجد أن المناخ العام للحكايات، خصوصًا فى حدوتة الوحدة أو حدوتة الماريونيت، فيه طابع طقسى، كأن الممثل يدخل فى طقس تطهيرى يشارك فيه الجمهور وجدانيًا.
المسرح التعبيري: فبعض الحكايات (مثل الاغتراب، فقد الأب، نداهة الأحلام) تنتمى إلى التعبيرية، حيث يتحول الواقع الداخلى للشخصيات إلى صور جسدية وصوتية مشحونة. هنا نجد أن الأداء يقترب من تصوير الحالة النفسية عبر الجسد، أكثر من تمثيل حدث خارجى محدد.
الواقعية الجديدة: فرغم حضور الملحمى والتعبيرى، يبقى العرض ملتصقًا بالواقع اليومى المعيش. تفاصيل مثل: التاكسى، البيتزا، الأسرة أثناء الحظر، كلها ملامح واقعية تنقل نبض الحياة كما هو. لكن هذه الواقعية جاءت مصاغة بوعى جمالى، لا بوصفها تسجيلية فقط.
الأداء التمثيلى كان أحد أبرز مكاسب العرض (وهذا هو الهدف الأساسى من العرض كمشروع لتخرج دفعة من الموهبين يتم تقديمهم إلى الساحة الفنية) ، حيث توزعت الأدوار بين نحو 38 فنانًا وفنانة، قدموا شخصيات متنوعة ومتعددة الأبعاد، متساوين فى قيمة الأداء، دون مركزية لنجم واحد. كل ممثل أضاف لمساته الخاصة، سواء فى المشاهد الدرامية المؤثرة، أو اللقطات الكوميدية الدقيقة، أو فى الحكايات الموسيقية التى عززت الجانب العاطفى والعرضى للحكايات. هذا التوزيع العادل للضوء على كل المشاركين يعكس فلسفة خالد جلال فى بناء فرقته المسرحية وإطلاق طاقات الشباب.
فقد تألق كل من: صلاح الدالى، طارق الشريف، نادين خالد، مى عبداللطيف. وبرز أيضًا: ندى فاضل، هند حسام الدين، سيف الدين أمين، إيمان صلاح الدين، أحمد عمرو، محمد وليد، ياسمين سراج، مى حسين، غفران الشاعر، أمنية النجار، محمد صلاح، فتحى محمود، مريم عاطف، محمد سعدون، أحمد الشرقاوى، ياسمين عمر، أحمد هانى، شيرى أشرف، إسراء حامد، أحمد أيمن، شهاب العشرى، ويوسف مصطفى. كما لمع حضور: محمد عادل، عمر حمدى، حسام سعيد، نيفين رفعت، رنا عطوفة، آية ماجد، عائشة عطية، سالى رشاد، وراندا ثروت.
واحدة من أهم مكاسب عرض حواديت أنَّه لم يقدِّم بطلاً فردًا، بل صنع بانوراما جماعية يتحرّك فيها الجميع كأبطال متساوين، دون أن يبتلع نجمٌ الضوء أو يحتكره. خالد جلال أصرّ أن تكون الخشبة مفتوحة أمام جيل جديد يعرّف نفسه عبر الأداء لا عبر الادعاء، فجاءت النتيجة فرقة من المواهب المشتعلة بالطاقة والصدق.
أما الديكور فكان يمثله الفراغ المسرحى مع أجساد الممثلين وتخيل المشاهد من خلال الحدوتة وأداء الممثلين لها، مجرد موتيفات بسيطة جدا مثل مقاعد يتواتر توظيفها، فى تمازج مع الملابس الواقعية والرمزية فى آن واحد، مع تشكيل الإضاءات الخاصة للشخصيات، كل ذلك فى منظومة جروتوفسكية واحدة هدفها الأساسى إبراز قدرات الممثلين. ولم تكن الموسيقى بعيدة عن ذلك؛ حيث وظف المخرج تيمة أساسية طوال العرض لموسيقى «الف ليلة وليلة» الشهيرة مع تنوع توزيعها الموسيقى من مشهد لآخر كخلفية للحواديت، كما وظيف ومضات من أغانى شهيرة لدعم المواقف الدرامية مع المشاهد مثل: أغنية «صار عندى الآن بندقية» التى غناها «بحر» بروعة، وماروحش الغيط، الحياة حلوه، اعطنى حريتى، أهلا وسهلا شرفتى، الدنيا ريشة ف هوا، واغانى لأم كلثوم وعبد الحليم، وغيرها. أشاعت جميعها مناخا متوازنا بين الشجن والبهجة عبر المقطوعات التصويرية والأغانى.
خالد جلال لا يقدم العرض فقط كمنصة للترفيه، بل كمساحة لتكوين المواهب، وإطلاق جيل جديد من الفنانين الذين يحملون إرثًا من الخبرة والصدق الفنى، ويعرفون أن التمثيل ليس مجرد أداء، بل حياة تعكسها الشخصية المسرحية.
عرض «حواديت» يضع المسرح فى مكانه الطبيعى كمرآة للإنسان والمجتمع، ويؤكد أن الحكاية هى قلب الفن المسرحى، وأن الفن الجميل والهادف قادر على الوصول إلى قلوب الناس، وتقديم تجربة متكاملة تمزج بين الكوميديا والتراجيديا، بين الواقع والرمز، بين الفرد والجماعة، فى ساعة ونصف من التفاعل المستمر، تجعل الجمهور يعيش كل حكاية كما لو كانت جزءًا من حياته الخاصة.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏