العدد 932 صدر بتاريخ 7يوليو2025
لم أكن أتصور أبدًا أن من الممكن اليوم تقديم مسرحية “الناس اللى تحت” للراحل العظيم نعمان عاشور - وقد كتبها فى خمسينيات القرن الماضى - فى عرض يحقق متعة بصرية وفكرية معًا. لكن شباب فرقة “جروتسك”، بقيادة المخرج الواعى محمد الحضرى، أثبتوا لى أننى كنت مخطئًا. فعلى الرغم من محافظة الحضرى على نص نعمان القديم (بشخصياته وأحداثه ولغة حواره، مع قليل من الحذف)، ودون محاولة للى ذراع النص ليواكب عصرنا، جاء العرض ممتعًا جاذبًا، بإيقاع متدفق جعلنى أنهض فى نهايته وأهرع إليهم أحييهم فردًا فردًا، وأخصّ الحضرى بحضن دافئ، تعبيرًا عن اعتذارى وفرحتى به وبفريقه.
البداية: رجل الورق
تعرفتُ لأول مرة على قدرات محمد الحضرى الإخراجية من خلال عرضه “الرجل الذى أكله الورق”، ولفت نظرى حينها اسم الفرقة: “جروتسك”، كما كُتب على البرنامج المطبوع. وتساءلت: لماذا “جروتسك” عنوانًا للفرقة؟ هل هو اختيار عشوائى لغرابة الاسم أم أن أعضاء الفرقة وقائدهم يعرفون المعنى ويختارونه عمدًا، ليعبر عنهم؟ ومع تدفق عرض “الرجل الذى أكله الورق”، أيقنت أن الفريق وصاحبه يعون تمامًا مدلول الاسم. فها هو “الجروتسك” يُقدَّم بوعى وتعمد، وبمعرفة دقيقة لملامحه. فالجروتسك فى المسرح ليس مجرد عرض للغرابة، بل هو استراتيجية جمالية وفكرية تهدف إلى تعرية الواقع عبر تشويهه، وإلى مساءلة الإنسان وموقعه فى عالم فقد توازنه وتحول إلى مشهد كابوسى.
وها هو عرض “ليالينا” يأتى ليؤكد هذا المعنى، فى مغامرة جديدة تعتمد على نص قديم كتبه (الشاب آنذاك) نعمان عاشور فى أواخر الخمسينيات، ليطرح فيه رؤيته لعصره، حيث قُسِّم البشر إلى نوعين: “ناس فوق” و”ناس تحت”، ويكشف زيف هذه القسمة الجائرة التى كان يروّجها أصحاب “الفوق” باعتبارها قدرًا إلهيًا لا يجوز الاعتراض عليه.
كان شباب الخمسينيات فى مصر – ومنهم نعمان – يقاومون هذه القسمة الظالمة، ويعرّونها فى أعمال متنوعة (مسرح، رواية، شعر، سينما)، حتى جاءت ثورة يوليو على يد شباب آخرين من الجيل ذاته، ليثوروا على هذا الوضع الجائر، ويعملوا على تصحيح الهرم الاجتماعى بالإصلاح الزراعى والقوانين الاشتراكية. لكن بعد نهاية ثورة يوليو عام 1970، بوفاة قائدها، عاد أصحاب القسمة الجائرة إلى الحياة، واستعادوا مكتسباتهم (الحرام) بقوانين انفتاح زائف، يستند إلى فهم دينى مغلوط يسمّونه “قدر الله”. وهكذا عاد المجتمع المصرى إلى سيرته المعوجة، التى استمرت لأكثر من نصف قرن – منذ رحيل قائد الثورة – حتى الآن، فى عودة تثير ضحكًا أقرب إلى البكاء.
مسخرة الواقع
“ضحك أقرب إلى البكاء” هو التعبير الأصدق لوصف عرض “ليالينا”، الذى قدّمه محمد الحضرى على خشبة مسرح نهاد صليحة عبر فرقة “جروتسك”. فالضحك هنا مجروح، طارح للأسئلة، عن شخوص وأحداث كاريكاتورية لواقع قديم كنا نظنه زال إلى الأبد. فإذا بالعرض ينبّهنا إلى أن الزائل قد عاد، وأن ما كنا نظنه تاريخًا مضحكًا، صار واقعًا كابوسيًا مؤلمًا. وهنا تحديدًا تكمن ضرورة استخدام منهج “الجروتسك”: فلا شيء حقيقى، والواقع ليس أكثر من نكتة سخيفة، وشخصياته أقرب إلى الكاريكاتير، والأماكن والأحداث أشبه برسومات أطفال تضخّم الأبعاد وتبالغ فى الألوان، وتغرق فى مسخرة لا تضاهيها إلا مسخرة ما نحياه.
منذ البداية، يصدمنا المنظر المسرحى (الثابت تقريبًا مع تغييرات طفيفة فى الإكسسوار) الذى صممه محمود صلاح بيرو، ليؤهلنا لهذا التشويه المتعمد. فالمكان هو بدروم فى إحدى عمارات العاصمة، لكنه بدروم مشوّه، جدرانه مائلة، كناية عن اعوجاج الحياة. وأبواب حجراته ليست سوى ستائر مهلهلة. أما الشخصيات، فعلى الرغم من واقعيتها، تأتينا بماكياج مبالغ فيه، نجح مصممه ومنفذه محمد شاكر فى تحويلهم إلى شخوص أقرب إلى عوالم الأطفال السحرية، لتمنح الوجوه، مع الملابس الملطخة بالألوان والرسومات السريالية، إحساسًا كابوسيًا هو جوهر المنهج الجروتسكى.
وبوعى بالمنهج، يفاجئنا الحضرى، ومعه مصمم الديكور والملابس، بأنهم ينقذون أربعة شخوص فقط من هذا التشويه: عزت (الرسام)، ولطيفة (حبيبته وابنة عامل التذاكر)، وفكرى (الخادم)، ومنيرة (الخادمة). أربعة شباب يحلمون بالمستقبل، ويسعون لتحقيقه، ولو بالهرب من هذا الكابوس الواقعى، بالخروج من البدروم إلى حيث الحياة الأرحب.
عقد اتفاق
فى البداية، يظهر عزت (الرسام) خارجًا من حجرته، يقف أمام حامل خشبى ويستدعى شخوص العمل ليشكّلوا معًا لوحة ثابتة. وكأنه يعقد معنا اتفاقًا أوليًا على أن ما سنراه لاحقًا ليس سوى لوحات تشكيلية عن واقع أشد خيالًا مما يرسم. ثم تتوالى الأحداث، لنفاجأ بأن الممثلين يؤدون أدوارهم بمبالغة محسوبة، تتماشى مع مبالغة المكياج والملابس، ليُبعدونا - نحن المتفرجين - عنهم وعن أحداثهم، فنراهم من الخارج ونفهم أكثر واقعنا الذى كنا نظنه عاديًا.
بل إن عنوان “ليالينا” - المستوحى من أغنية قديمة للمطربة وردة، والتى تُذاع ضمن العرض إلى جانب أغانٍ أخرى من أزمنة مختلفة - يشكّل تأكيدًا إضافيًا على حالة الغدر التى أصابت مجتمعنا، والعودة إلى النقطة صفر، حيث يوجد “ناس تحت” و”ناس فوق”. فكلمات الأغنية تقول:
(ليالينا ليالينا.. وتاهت بينا تاهت.. ليالينا ليالينا
وأتارى الدنيا غدارة
بتغدر كل يوم بينا.. غدارة
والله وجيتى علينا يا دنيا
وجيتى كتير على ناس قبلينا)
وإذا كانت حكاية «الناس اللى تحت» حكاية بسيطة، أبطالها من الواقع، يمثل كل منهم شريحة اجتماعية، ويتصارعون مع بعضهم البعض ومع واقعهم. فإننى أحرص هنا على عدم إعادة سردها. فأنا من المؤمنين بأن قراءة العروض المسرحية لا تعنى «حرق» الحكايات، بل تعنى بالأساس قراءة كيفية تقديمها.
وهنا، لا بد من التأكيد على أن التمثيل فى هذا العرض كان أحد أهم عناصر نجاحه، وأنه نابع من فهم حقيقى لطبيعة المنهج المستخدم. ولولاه ما بلغ هذا المستوى من الدقة والحرفية، الذى لم يكن ليأتى إلا بعد تدريبات طويلة، وشرح وتجريب متكرر لطريقة النطق والحركة. وهو ما دفعنى فور نهاية العرض لأن أهرع إليهم، أُصافحهم واحدًا واحدًا، معبرًا عن فرحتى بجيل قادم يعى واقعه، ويبحث عن طرق جديدة للتعبير عنه.
شكرًا لفرقة «جروتسك» على هذه المتعة. وكل التحية لقائدها المخرج محمد الحضرى. وفى انتظار جديدهم.
( نشر بالاتفاق مع موقع شهريار )