طاقات فنية مبدعة على مسرح نهاد صليحة والذى تتجلى من خلاله كل إبداعات أكاديمية الفنون الخلاقة، لتكشف كل يوم عن جديد على الساحة كبوتقة لتفريخ المواهب ورعايتها، على مسرح نهاد صليحة شاهدت مؤخرًا مسرحية مصنع الملابس الجاهزة، تأليف واخراج محمود عبد الواحد، وقد أهدى القائمون على العرض المسرحية لروح زميلتهم خلود حسام فى لفتة إنسانية راقية.تطرح مسرحية «مصنع الملابس الجاهزة» سؤال التحرر من قيد الإنتاج المادى إلى فضاء الإبداع الإنسانى، مستخدمة تقنيات ما بعد الحداثة كالتقسيم المتعدد للمشاهد، وتداخل الأجناس والمسرح داخل المسرح، لتأتى النهاية الفنية المفتوحة تُبشر بأن المادية مهما اشتدت، لا يمكنها سحق روح الفن والإبداع.والعرض من نوع الكوميديا الخفيفة التى تحتوى على مشاهد ميلودرامية مستعينة بالسخرية والتلقائية والجمل الحوارية القصيرة والسريعة والقفشات ولعثمة شخصية صاصا (الذى يقوم بدوره الفنان زياد علاء) والصراعات اليومية المتكررة مع استخدام اللغة العامية الشعبية فى الحوار الدرامى والرقصات والأغانى المعبرة والحركة السريعة على المسرح، عبر نماذج إنسانية تجمعها ظروف ميلودرمية وأحلام مؤجلة تعانى منها الطبقة الفقيرة العاملة فى مصنع للملابس الجاهزة، فالملابس الجاهزة ترمز إلى هويات جاهزة يعلبها المجتمع، فتفقد الشخصيات خصوصيتها وتتشابه فى قالب واحد وتصبح مألوفة للجمهور، ورغم ما يشير إليه العنوان من معانى المادية الشديدة والروتين اليومى الممل فإن الإخراج الفنى استطاع أن يكسر هذه التيمة الاعتيادية من خلال المزج بين عناصر الموسيقى والرقص والتمثيل الساخر أحيانًا والجاد أحيانًا أخرى، ومن خلال البوح الخاص بكل شخصية عبر المونولوج من جهة وعبر الحوار من جهة أخرى، مع استخدام تقنية المسرح داخل المسرح، والتى جاءت موظفة توظيفًا متقنًا من خلال حالة الحلم الذى يغشى الفتاة ياسمين - الذى يقوم بدورها باقتدار الفنانة روان سيد - الباحثة عن ذاتها من خلال شغفها بالفن، والتى تعبر عن حبها للتمثيل ورغبتها فى الدراسة بالمعهد العالى للفنون المسرحية بدلا من معهد الخدمة الاجتماعية، الذى فرضه الأهل عليها بل وعدم ترحيبهم بدخول ابنتهم المجال الفنى، ما يجعلها تشعر بالغبن لكنها تمارس هوايتها خفيه أمام المرآة بل ويصل بها الأمر أن تتخيل شخصية محيى - الذى يقوم بدوره بإبداع أيضًا الفنان محمد كفافى- فرد الأمن المحب بدوره للفن والذى ساهم فى كسر الإيهام بمشاهد منوعة من مسرحية روميو وجولييت وأفلام عادل إمام ومسلسل على الزيبق وغيرها بصحبة ياسمين عاملة المصنع، التى تنبهر بأداء محى الفنى وتندهش لأنه لم يحترف الفن، فيخبرها بظروفه الصعبة وحاجته للعمل الدائم كحارس أمن فى مقابل التمثيل المتقطع كل فينة وأخرى، فتتعاطف معه لتكتشف فى النهاية أنها إزاء حلم جميل، وهى وحيدة فى ساعات العمل الإضافى بالمصنع ما شكل تنوعًا دراميًا محببًا.ورغم أن تقنية الحلم مثلت تعبيرًا فنيًا عميقًا عن أحلام ياسمين فإنها هيمنت على الأحداث بشكل كبير، وشكلت عائقًا عبر امتدادها فى التفرقة بين الواقع والخيال فى المسرحية.وقد برعت نماذج إنسانية أخرى قدمها طاقم التمثيل مثل نموذج مريم - التى تقوم بدورها الفنانة مريم السايس - التى تحب عامل الدليفرى سولى- الذى يقوم بدوره الفنان محمود سالم - وتقف أم ابراهيم التى قامت بتربيتها بعد وفاة أمها - والتى تقوم بدورها الفنانة نيرة عبدالعزيز - حائلًا دون زواجها منه وأيضا سلمى - التى تقوم بدورها الفنانة نانى سلامة - وغيرها من النماذج الإنسانية التى تبوح بظروفها الصعبة التى دفعتها للعمل لمساعدة أسرتها، ليتجمع الكل فى النهاية لمساعدة ريشة - الذى يقوم بدوره الفنان إبراهيم البيسى - الذى تحتاج أمه لعملية جراحية خطيرة فيهب الجميع لمساعدته والوقوف إلى جواره رغم معاناتهم من مشاكل إنسانية واجتماعية.ويلتقى مع الخط الدرامى لياسمين المدير عادل – الذى يقوم بدوره الفنان أحمد تيسير - والذى يداوم على الخصم من مرتب ياسمين ويعنفعها لتأخرها عن العمل بسبب ذهابها لمشاهدة المسرح ليلا، ويبدو منعزلا عن مشاكل العاملات، لنكتشف فى غمار هذه القسوة عبر البوح لأم ابراهيم تعاطف عادل مع ياسمين، لأنها تحب الفن مثلما أحبه هو فى شبابه، لكنه لم يستطع أن يحقق أمنيته وأنه لا يلوم ياسمين على ذلك وإنما يخشى عليها من الانسياق بلا جدوى لحلمها.كما مثل الفضاء المسرحى السينوغرافى الرمزى البطل الرئيسى فى المسرحية - سواء على مستوى الديكور لأصالة سامى أو الملابس والماكياج لمحمد شاكر والإضاءة لإبراهيم حسن والإكسسوارات، والسلالم، والأقمشة المتناثرة، والماكينات وغيرها - كمؤشر على طبقات الهوية الإنسانية وطرق الارتقاء والانحدار، إذ نشعر أن النماذج البشرية متشابهة اجتماعيًا واقتصاديًا وعمليًا بحكم عملهم فى المصنع وطبيعة العمل المتكرر، حيث فرض المكان منذ اللحظة الأولى النمطية والتكرار والروتين والضغوط اليومية المتواصلة على تلك الطبقة الاجتماعية، التى تجاهد من أجل الاستمرار وتوفير سبل المعيشة، لكنها فى خضم ذلك تكافح من أجل تحقيق أحلامها، ليشكل نموذجًا عامًا ينسحب على كل عناصر المسرحية، ورغم ذلك استطاع المؤلف أن يكسب الشخصيات خصوصيتها فعبرت من خلال المونولوج والحوار والأداء التمثيلى والأغانى عن رغبتها فى التحرر كل بطريقته.ورغم هذا التباين والبوح الميلودرامى فإن المسرحية لم تنح بنا نحوًا مأساويًا، وإنما اتسمت بروح الكوميديا فى العديد من المواقف طوال المسرحية، إضافة إلى الرقص الجماعى والحالات المتباينة للشخصيات، التى تكشف عن مقاومة هذه الطبقة لواقعها الاجتماعى الطاحن عبر الفن، الذى ينسحب على لسان الشخصيات ليشمل فن الإدارة وفن تصميم الملابس والتمثيل أيضا لأنه السبيل للخلاص من ثقل الواقع، وهو ما تؤكده المسرحية (من غير الفن الحياة لا ليها لون ولا طعم) ليُصبح المصنع نفسه فضاءً جماليًا، والعمال والعاملات هم فنانون بطرق عيشهم وتفاعلهم ومقاومتهم. إضافة لتيمة الحب الرومانسى المستحيل الذى يتحقق فى نهاية المسرحية بموافقة أم ابراهيم على زواج مريم من حبيبها كمقاومة للوحدة وعزلة النفس الإنسانية.حيث جاءت الخطوط الدرامية المتوازية (حلم ياسمين الفنى، مشاكل ريشة المالية، صراع مريم العاطفى) ثرية لتكسر وحدة الحدث التقليدية ويُصبح العمال والعاملات هم فنانون بطرق عيشهم وتفاعلهم ومقاومتهم.وهو ما عبرت عنه بداية المسرحية من خلال اللوحات الراقصة الاستعراضية المغناة مما ساعد على الكشف عن طبيعة الشخصيات وأزماتهم وطبيعة العمل وفتح الطريق لاكتشاف عالم المسرحية ولخص الزمن الدرامى، وأيضًا ساهم الفوتومونتاج فيما بعد من تسريع روتينية الأحداث مما حال بيننا وبين الشعور بالملل.وقد قسمت خشبة مسرح نهاد صليحة من خلال المنظر المسرحى إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأول هو مستوى ساحة المصنع والعاملات وماكينات الخياطة، وهو مستوى خشبة مسرح نهاد صليحة الذى يمتد إلى منطقة الجمهور، ليعبر عن التماهى مع الواقع ومع المهمشين فى المجتمع ككل، ومستوى أعلى قليلًا عن خشبة المسرح فى منتصف عمق المسرح هو غرفة المخزن عبر سلم هابط، ليؤكد هيمنة المادة وعمومية الحالة، ومستوى أعلى منه عبر سلم صاعد علر شمال عمق المسرح هو غرفة المدير الذى يوجههم من خلال شباك الغرفة ويفرض شروط العمل عليهم وهو تقسيم جاء مناسبا لطبيعة المصنع والنماذج البشرية التى تعانى الفقر والإحتياج فى مقابل المدير المهيمن والمسيطر والمراقب لهم.ومما يميز العرض خفة حركة الممثلين على خشبة المسرح سواء على مستوى التمثيل أو الرقص والغناء وشارك فيه الممثلون والراقصون ريماس حسين ومنة هانى وكاميليا إبراهيم وإستعراضات إبراهيم كابو وغناء إيمى نبيل وتوزيع أمير وليد وألحان لمحمد علام وأشعار لهانى مهران وإعداد وتنفيذ موسيقى لمآب جاسور وجاء معبرًا عن أجواء العمل لتختفى أصوات الماكينات تدريجيًا فى نهاية المسرحية ويحل محلها صوت الزغاريد والتصفيق، ما يرمز للانتصار على قسوة الواقع والتحايل عليه ومقاومته من خلال الحب والفن والإبداع بدلًا من الروتين والملل والتكرار.أيضا ساهم التنوع فى آداء الممثلين مثل صاصا وسلمى وزينة التى تقوم بدورها الفنانة حبيبة حجازى وكل طاقم الممثلين فى التغلب على نمطية الفكرة، وشكل الإخراج الفنى المتميز لمحمود عبد الواحد أيقونة للعرض مع مساعدى الإخراج يارا أشرف وماريا باسم والمخرج المنفذ تهانى على والمخرج المساعد عبدالرحمن بدر، ليجعلنا منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية إزاء إيقاع متماسك ومتناغم وتلقائية محببة لمواهب واعدة بقوة فى أكاديمية الفنون وفى حالة انجذاب فنى طوال مدة العرض المسرحى، وهو ما يحسب للمؤلف والمخرج محمود عبدالواحد ولمسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون الذى يتألق بعرس فنى دائم بقيادة مديره الدكتور محمود فؤاد صدقى، ما يشكل مدًا ثقافيًا وفنيًا كبيرًا ننتظر منه الكثير متمثلًا فى الأجيال الجديدة من مبدعى أكاديمية الفنون برعاية رئيسة الأكاديمية الأستاذة الدكتورة غادة جبارة.