العدد 928 صدر بتاريخ 9يونيو2025
ملف توثيقى عن الناقد الذى اختار الهامش النبيل على صخب الضوء، وترك إرثًا من الرصانة والصدق والوعى النقدي.
فى رحيل الناقد المسرحى أحمد هاشم، خسرت الحركة المسرحية المصرية أحد أصواتها الهادئة العميقة، وواحدًا من أكثر النقاد التصاقًا بتجربة المسرح الحقيقى، لا من موقع المراقب فحسب، بل من موقع الفاعل والمرافق والمتابع بعين الناقد وضمير المعلّم. ومن أجل الوقوف على ملامح هذه التجربة النقدية المتفردة، ورصد أثرها الذى لا يزال حيًّا فى ذاكرة المسرحيين المصريين، قمنا بتوجيه مجموعة من الأسئلة لعدد من المخرجين والنقاد والكتّاب الذين عرفوا أحمد هاشم عن قرب، وعايشوا حضوره الإنسانى والفكرى.
جاءت الأسئلة فى إطار ثلاثة محاور أساسية:
ما الذى ميّز أحمد هاشم كناقد فنى ومسرحى عن أبناء جيله؟
كيف كان تأثيره فى الوسط المسرحى من خلال كتاباته أو حضوره الشخصي؟
وما الجوانب التى يجب أن نتوقف عندها عند الحديث عن إرثه النقدي؟ وما الذى يمكن أن تتعلمه الأجيال الجديدة من طريقته فى النظر إلى الفن؟
الإجابات التى وصلتنا، والتى تشكّل هذا الملف، ليست فقط شهادات فى ناقد رحل، بل أيضًا مرآة لرؤية نقدية آمنت بالمسرح كفعل إنسانى خالص، وبالنقد كحوار لا كوصاية.
محمد مسعد: أحمد هاشم ناقد ارتبط بالمسرح من الداخل.. ومؤثر فى ذاكرة جيل كامل.
قال الناقد المسرحى محمد مسعد إن ما ميّز تجربة الراحل أحمد هاشم النقدية هو قدراته التحليلية الدقيقة المتسمة بالسلاسة والوضوح، وارتباطه المباشر والدائم بالتجربة المسرحية الحية. وأوضح أن هذا الارتباط لم يكن نظريًا فحسب، بل تشكل عبر سنوات من العمل المتصل فى مؤسسات فاعلة كـ”البيت الفنى للمسرح” و”الإدارة العامة للمسرح” بوزارة الثقافة، ما جعله جزءًا من عملية بناء وصيانة المواسم المسرحية، وهو ما انعكس بوضوح على رؤيته النقدية المنهجية، وعمق معالجته للعروض المسرحية.
وأضاف مسعد أن تأثير أحمد هاشم على الحركة المسرحية المصرية لا يمكن اختزاله بسهولة، بل يتطلب قراءة متأنية لمنجزه النقدى والإدارى. لكن، من المؤكد أن حضوره القوى لم يكن قاصرًا على المؤسسات المركزية، بل امتد إلى التجارب الفردية لفنانين من مختلف أقاليم مصر، حيث كان جزءًا حيويًا من تطور هذه التجارب. “لم يكن أحمد هاشم ناقدًا منفصلًا عن الواقع، بل كان فاعلًا فيه إداريًا واجتماعيًا، مؤثرًا ومحفزًا للتطور”، حسب وصفه.
وعن علاقته الشخصية بالراحل، قال مسعد:
«أحمد هاشم جزء من تاريخى الشخصى.. هو جزء من العالم كما عرفته. تعرّفت عليه لأول مرة فى منتصف التسعينيات أثناء عملى فى نشرة كان يرأس تحريرها الدكتور حسن عطية، وكان انطباعى الأول عنه أنه هادئ، متواضع، وقادر على التعامل مع الأزمات بحكمة. وخلال الثلاثين عامًا التالية، لم تتغير صورته فى ذهنى».
واختتم مسعد حديثه قائلًا:
«ربما يصعب تعميم هذه الصفات أو تحويلها إلى وصايا لأجيال قادمة، خاصة فى ظل تغير الظروف وتزايد ضغوط الواقع، لكن ما كان يجمعها جميعًا فى شخصية أحمد هاشم هو الإخلاص لما يؤمن به، وعقلانية نحتاج إليها جميعًا اليوم.”
أ.د. حسام عطا: أحمد هاشم.. الناقد الصوفى الذى علّم الأجيال فى صمت
قال الأستاذ الدكتور حسام عطا، أستاذ الدراما والنقد المسرحى بالمعهد العالى للفنون المسرحية، إن الناقد الراحل أحمد هاشم كان من أبرز معتنقى المنهج الاجتماعى فى النقد المسرحى، حيث كتب النقد التطبيقى على مدى سنوات طويلة، مؤديًا دورًا “صوفيًا» خفيًا وغير معلن فى تعليم أجيال متتابعة فى مجالات المسرح المدرسى، والتربية والتعليم، والهيئة العامة لقصور الثقافة، خاصة فى إدارة المسرح.
وأكد عطا أن أحمد هاشم مثّل نموذجًا يُحتذى به فى الاتزان النفسى، والترفع، والاستغناء، وحسن الخلق، وكان من أولئك الذين يتجنبون الخوض فيما لا يعنيهم، ويؤمنون بأن دورهم المهنى يكفيهم شرفًا ورضا. عاش مذهبه النقدى بسعادة ورضا، وكان عضوًا بارزًا فى لجان القراءة بالبيت الفنى للمسرح، منحها من وقته وجهده الكثير، بإخلاص وهدوء ودون ضجيج.
وأضاف: “كان أحمد هاشم عالى المقام، بعيدًا عن الصغائر، خلوقًا فى تعامله، مقتصدًا فى إعلان مشاعره، يمثل نموذجًا راقيًا للناقد الذى يترفع عن الزيف، ويستمد ثقته من امتلاء ذاته لا من سعيه إلى التصفيق أو الظهور”.
وختم عطا شهادته بالدعاء للراحل قائلًا: «رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، فقد كان من أولئك الذين يمرّون فى الحياة بهدوء، لكن أثرهم يبقى طويلًا وعميقًا”.
بكرى عبدالحميد: إرث أحمد هاشم النقدى دعامة لا غنى عنها للمسرح المصرى
يصف المؤلف المسرحى بكرى عبدالحميد الناقد الراحل أحمد هاشم كواحد من أبرز وجوه النقد المسرحى فى مصر، قائلًا:
«كان أحمد هاشم يتعامل مع النصوص المسرحية والعروض بوصفها أعمالًا أبدعها أبناء المسرح الذين اجتهدوا ومارسوا فنهم بشغف وحب. لذلك، كان بمثابة الأب الذى يوجه أبناءه، حريصًا أن يظهر توجيهه بمحبة صادقة، وهو ما أكسبه محبة حقيقية وصادقة من جميع فنانى المسرح».
وأضاف عبدالحميد عن الحضور الشخصى للراحل: “كان قريبًا للغاية من كل صناع الحركة المسرحية فى مصر، يتواصل مع الكتاب والمخرجين والفنانين، ويوجههم باستمرار. لا أنسى أنه الناقد الوحيد الذى قدمت له إحدى مسرحياتى، لأننى كنت واثقًا من أنه سيمنحنى توجيهًا صادقًا، وقد وضعتُ آراؤه نصب عينى عند تعديل النص. كما أصدر كتابًا كاملًا عن عوالم المسرح ناقش فيه عددًا من نصوصى المسرحية».
وأوضح المؤلف أنه رغم خلافهما حول أحد النصوص، ظل أحمد هاشم يحرص على متابعة تطورات تجربته، قائلًا: «طلب منى تقديم النص فى حينه، لكنى كنت أرى أن الوقت لم يحن بعد. كان يسألنى فى كل لقاء عن النص الذى اعتبره تجربة مهمة، وأشاد أيضًا بتجربتى فى الإعداد المسرحى لرواية «منافى الرب» للكاتب أشرف الخمايسى. كنتُ أقدر رأيه وأولويته فى تقييم كل نص مسرحى».
واختتم عبدالحميد حديثه بتسليط الضوء على الإرث النقدى الضخم الذى تركه الراحل: “خلف أحمد هاشم إرثًا نقديًا عظيمًا من الكتابات التى تناولت نصوص الكتاب وأبداعات المخرجين والعروض المسرحية. للأسف، هذا الإرث منتشر فى الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية لكنه لم يُجمع فى كتاب شامل. لذا، أرى أن تتبنى هيئة قصور الثقافة أو هيئة الكتاب أو أى من الهيئات الثقافية المصرية، أو المركز القومى للمسرح والفنون الشعبية، مهمة جمع وطباعته. وأتمنى أن يتعلم أبناء هذا الجيل من روح الأبوة التى كانت تتسم بها كتاباته وتوجيهاته، والتى كانت تتسم بالاحترام والمحبة لكل المبدعين. لذا، أرجو أولًا الاهتمام بجمع إرث أحمد هاشم وطباعته، وأتمنى أن يواصل النقاد الاهتمام بما تركه لنا هذا الناقد الكبير».
داليا همام: أحمد هاشم نموذج للهدوء والرصانة فى النقد المسرحى
تقول الناقدة داليا همام عن الناقد الراحل أحمد هاشم:
«كان الأستاذ أحمد هاشم يتميز بهدوئه فى التلقى والتعبير، ناقد رصين ومتأمل يدرس الإبداع من جميع جوانبه ولا يلقى الأحكام جزافًا. كان يمتلك رحمة خاصة تجاه شباب الفنانين، ويرى فى تجاربهم خطوات مهمة نحو مستقبل قادر على تحسين المشهد المسرحى».
وأضافت همام:
«كان أحمد هاشم ناقدًا مؤثرًا بحجم مكانته فى نفوس من يستمعون إليه، خاصة رواد الثقافة الجماهيرية، سواء صناع العمل أو المتابعين. أتذكر حين تزاملنا فى لجنة مشاهدة عروض الدورة العاشرة للمهرجان القومى للمسرح المصرى برئاسة الأستاذ الدكتور حسن عطية، حيث كان هو الأكثر استجابة وحماسًا للعروض التى تغلب فيها الإبداع على الإنتاج. كانت نقاشاتنا سلسة وهادئة، خاضعة للمنطق وبعيدة عن التكلف أو الاستعراض. وفى النشرات كان حريصًا جدًا على الالتزام بتسليم مقالاته فى الوقت المحدد، وهذا الالتزام المهنى قليل الوجود بين النقاد، ما جعله محل تقدير كبير من جميع صناع العمل المسرحى».
وختمت الناقدة داليا همام شهادتها، قائلة:
«علينا أن نتوقف عند تجربة الأستاذ أحمد هاشم ككل، فهو صاحب قلم جرىء لكنه مهذب فى الوقت نفسه، يعلق على العروض والنصوص والإبداع بشكل عام دون ترصد أو تقليل من قيمة أى شخص. أرى أنه من الضرورى أن تتعلم الأجيال القادمة من النقاد كيف يحافظون على اللياقة فى الحديث عن الموضوعات، فالناقد يتمتع بحرية التعبير دون أن يمس ذلك القدر الإنسانى لصناع العمل الفنى».
محمد حجاج: أحمد هاشم كان ناقدًا مستنيرًا ومرشدًا للأجيال وآمن برسالة المسرح الجماهيرى
وصف المخرج المسرحى محمد حجاج، الناقد الراحل أحمد هاشم بأنه “قامة نقدية كبيرة، ومفكرًا مستنيرًا، وناقدًا امتلك وعيًا عميقًا بطبيعة المسرح ووظيفته الاجتماعية”، مؤكّدًا فى شهادته أن الفقيد لم يكن مجرد محلل للعروض، بل كان مثقفًا جادًا ورفيع الثقافة، شديد التمييز بين النصوص الأدبية وتجلياتها على خشبة المسرح».
وقال حجاج إن أحمد هاشم، رحمه الله، كان قارئًا دؤوبًا ومحللًا واعيًا، لا يصدر أحكامه إلا بعد تمحيص وتأمل، وقد أولى اهتمامًا بالغًا بالفرق بين جماليات النص المقروء وتجسيده البصرى والدرامى، إيمانًا منه بأن ذلك هو جوهر التجربة المسرحية.
وأضاف أن الناقد الراحل، حين كان يشارك فى لجان التحكيم أو الندوات، لم يكن يتخذ موقع “الجلّاد”، بل كان أقرب إلى المربى والمرشد، حريصًا على التوجيه والنصح، خاصة للشباب من المسرحيين، مقدمًا النقد فى إطار تربوى يهدف إلى البناء لا الهدم.
وأكد حجاج أن أحمد هاشم آمن بعمق برسالة المسرح الجماهيرى، وساند منذ بداياته هذا النمط من المسرح بوصفه تعبيرًا صادقًا عن نبض المجتمع المصرى. وأوضح أن هاشم رأى فى مسرح الثقافة الجماهيرية مجالًا حيويًا لتجذير الفن داخل الواقع الاجتماعى، مؤمنًا بقدرة الفرق والمخرجين على إنتاج عروض مسرحية عالية القيمة الفنية رغم الإمكانيات المحدودة، طالما وُجد الصدق فى الأداء والرؤية.
واختتم حجاج حديثه بالإشارة إلى تواضع أحمد هاشم الجم، مشيرًا إلى حضوره الدائم فى الندوات والملتقيات الثقافية والعلمية، ليس بدافع الظهور أو الوجاهة، وإنما بدافع التعلم كما كان يقول دومًا: “أنا آتى لأتعلم”، مؤكدًا أن هاشم ظلّ طوال حياته صوتًا نزيهًا ونموذجًا للاستنارة والاتزان فى ساحة النقد المسرحى.
رامى البكري: أحمد هاشم.. الناقد الصامت الذى فهم جوهر النقد وارتقى به
قال الناقد المسرحى رامى البكرى إن الراحل أحمد هاشم اختار لنفسه ركنًا خاصًا ومتفردًا بين نقاد جيله، إذ بدا لك وكأنه يجلس فى مقعد بعيد عن ضجيج الحياة المسرحية، لكنه فى الحقيقة كان يراقب، ويحلل، ويعيد ترتيب العلاقات والأفكار بعقل يقظ مستنير، يدهشك حين يتحدث أو يكتب عن عرض مسرحى أو عن شخصية فنية، سواء كان مخرجًا أو ممثلًا أو كاتبًا.
وأضاف البكرى:
«كان أحمد هاشم مثقفًا واسع الاطلاع، كثير القراءة، دائم الانشغال بتطوير ذاته النقدية، وهى سمة نادرة بين كثيرين، وكان يصرح بأهمية ذلك فى جلساتنا الحوارية التى جمعته بى ومع الدكتور مصطفى سلطان، والمخرج محمد سليم، والأستاذ عبدالغنى داود، وغيرهم من الزملاء”.
وأشار إلى أن هاشم كان شديد التركيز على ضرورة مواكبة الناقد للنشاط المسرحى المتجدد، خاصة ما يخص الأجيال الشابة، وكان يؤمن بأن النقد فعل ديناميكى حى ينبغى ألا يركن للجمود.
وتابع:
«رغم هدوئه الظاهر وقلة كلامه، كان يحرص على الاستماع الجيد، خاصة فى حضور من هم أكثر خبرة وسنًّا، لكنه حين يتحدث، كان يزن كلماته بعناية، بهدف إفادة المستمع أو القارئ دون ضجيج أو استعراض. لقد أدرك أحمد هاشم المعنى الحقيقى للنقد بوصفه تحليلًا وكشفًا علميًا، متجردًا من المجاملات والانفعالات».
وعن سنواته الأخيرة، يقول البكرى:
«فى الآونة الأخيرة، بدا أحمد هاشم وكأن الحزن قد استوطنه، فقد كان شديد الألم على ما آل إليه حال الوسط المسرحى، خاصة تمركز القرار فى أيدى قلة لعشرات السنين. وذات مرة، رأيته يكاد يبكى حزنًا على هدم المسرح العائم، كأن جزءًا من قلبه قد هُدم معه».
وختم البكرى قائلًا:
«لقد غادرنا أحمد هاشم، وفى جعبته الكثير من الأفكار والمشروعات التى لم يمهله العمر لإتمامها. رحم الله هذا الناقد الصادق النبيل، الذى فهم جوهر رسالته وأخلص لها بصمت».
أحمد خميس: أحمد هاشم.. ناقد الانضباط والهدوء والتجرد
يرى الناقد أحمد خميس أن ما ميّز أحمد هاشم عن أبناء جيله من النقاد هو تمسكه الدائم بمنهج العمل الموضوعى الهادئ، حيث اعتاد الرجل طوال حياته أن يتقدم نحو أهدافه بثبات ودون صخب، متجنبًا الدخول فى معارك أو اشتباكات نقدية تُربك المشهد أو تؤخر من فاعلية تأثيره. وهو ما جعله، برأى خميس، حاضرًا بتقدير كبير فى المؤسسات الثقافية، وعلى رأسها الهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث قدّم من خلالها نموذجًا ناقدًا متفانيًا فى عمله، يتعامل مع العروض المسرحية من منطلق فنى لا تحكمه اعتبارات المجاملة أو المواءمة.
ويضيف خميس أن منهج أحمد هاشم فى المقارنة بين الأعمال المسرحية كان دقيقًا وعادلًا، إذ لم يكن يخلط بين الجهد الفنى وقيمة الإنتاج أو أسماء المشاركين فى العمل. كان ينظر بعيون نقدية متجردة، دون ضجيج أو تصيّد، وهو ما أكسبه ثقة كل من تعامل معه، سواء من المبدعين أو زملاء المهنة.
وعن علاقته الشخصية به، يتذكر أحمد خميس كيف جمعته به لجان تحكيم وندوات كثيرة، خاصة فى عروض الثقافة الجماهيرية، حيث بدا له أحمد هاشم دائمًا ذلك النموذج الحازم الهادئ، الذى يرفض التجاوز أو الاستعراض، مفضلًا الصمت الحكيم أو التعبير بكلمات موجزة حين لا يرضيه عرضٌ ما، دون أن يجرح أحدًا أو يخسر احترامه.
ويختتم خميس حديثه بتمنى أن يتم جمع مقالات ودراسات أحمد هاشم، التى نُشرت فى «مسـرحنا» و»مجلة المسرح» المصرية، فى كتاب يحمل اسمه، يليق بتجربته المهمة التى لم تسعَ للشهرة، لكنها تستحق التأريخ والاحتفاء. ويؤكد أن الأمانة تقتضى التوقف أمام حرصه الدائم على دعم التجارب الشابة الناضجة، والتى طالما كتب عنها مدفوعًا بشغف حقيقى بالفن وأهله، لا باعتبارات شخصية أو نفعية.
د. محمد سمير الخطيب: أحمد هاشم.. الناقد الذى كتب للمسرح بحب وصمت
فى شهادته عن الراحل أحمد هاشم، قال الدكتور محمد سمير الخطيب إن الساحة المسرحية فقدت برحيله واحدًا من أكثر الأصوات النقدية رصانة وهدوءًا، واصفًا إياه بأنه كان بمثابة “سندباد مسرحى» جاب أروقة الإبداع بهدوء العالم وخبرة المتابع العميق.
وأوضح الخطيب أن أحمد هاشم، خريج المعهد العالى للفنون المسرحية، مارس النقد المسرحى لما يزيد على ثلاثين عامًا، عايش خلالها مرحلة ازدهار المسرح فى الثمانينيات، وشهد لاحقًا تراجعاته وتعثراته، لكنه ظل وفيًا لفنه، لا يتخلى عن شغفه ولا عن التزامه المهنى.
ينتمى هاشم إلى جيل نقدى مفصلى، ضم أسماء مثل سامية حبيب، مايسة زكى، محمد زعيمة، وهشام إبراهيم، لكنه تميز عن كثيرين بانفتاحه على مختلف تجارب المسرح، وعدم اقتصاره على الرسمى أو المؤسسى فقط. فقد كان متابعًا نشطًا للمسرح المدرسى، وعضوًا دائمًا فى لجان تحكيمه، خاصة فى الفترة من 2000 إلى 2020، ما يعكس اهتمامه بجذور التجربة المسرحية وتكوينها الأول.
ويضيف الخطيب: “أحمد هاشم لم يكن ناقدًا يبحث عن اللقطة أو الصدام، بل كان يكتب بهدوء، نابع من معرفة أكاديمية راسخة وخبرة ميدانية طويلة، متسلحًا بالاحترام تجاه الفنانين والأعمال، حتى عندما يختلف معهم. كان ناقدًا يلتزم بأصول المهنة، لا يتعالى، ولا يهاجم، بل يتحاور بلغة الفن والفهم».
كان هاشم، بحسب الخطيب، محل ثقة المؤسسات التى عمل بها، سواء فى البيت الفنى للمسرح أو فى الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكان دائمًا ما يُستشار فى المواقف المفصلية، لما عُرف عنه من رصانة فى الموقف، وهدوء فى الطرح، وحياد لا تشوبه الأجندات أو التحيزات.
واختتم الخطيب شهادته بالدعوة إلى جمع وتوثيق مقالات هاشم النقدية، قائلًا: «هذا صوت ينبغى ألا يُنسى. علينا أن نعرّف الأجيال الجديدة بقيمته المهنية والإنسانية. لقد مارس النقد بصمت وفاعلية، وكتب عن المسرح بحب حقيقى. رحل أحمد هاشم، وبقى أثره شاهدًا على زمن وموقف وإخلاص».
ناصر العزبي: أحمد هاشم.. ناقد بصوت هادئ لا يعرف الضجيج
يؤكد الكاتب والمخرج ناصر العزبى أن الراحل أحمد محمد هاشم لم يكن بحاجة إلى كثير من الوقت أو الكلمات ليترك أثره. ملامحه الهادئة، حضوره الجاد، والتزامه الصادق، كانت تعبر عنه بوضوح لا يحتاج إلى تفسير. “لن يختلف عليه أحد”، يقول العزبى: “فهو من أولئك الذين تعرفهم دون مقدمات، وتثق فى رصانتهم قبل أن تسمع منهم”.
عَرِف العزبى هاشم فى منتصف التسعينيات، حين كان الأخير قد رسّخ قدميه فى ساحة النقد المسرحى، منضمًا إليها من بوابتها الأكاديمية، بعد تخرجه فى المعهد العالى للفنون المسرحية عام 1986، ثم حصوله بعد عامين على دبلوم الدراسات العليا فى الدراما والنقد. وعلى الرغم من تقاربهما فى السن، فإن هاشم كان قد سبقه إلى دروب الكتابة النقدية بخبرة ناضجة وصوت معتدل.
ويرى العزبى أن هاشم ظل وفيًا لقيم القرية المصرية التى نشأ فيها بقرية الشموت بمحافظة القليوبية، على الرغم من انتقاله للإقامة والعمل فى العاصمة. “كان إنسانًا بسيطًا، خلوقًا، هادئًا، ودودًا، لا يتصنع، ولا يتكلف”، كما يقول.
وقد أضافت خلفيته الأكاديمية، إلى جانب عمله كباحث ثقافى ورئيس للجنة قراءة النصوص فى هيئة المسرح، وخبير بمكتب الرقابة على المصنفات الفنية، إلى رؤيته النقدية اتساعًا ونضجًا. لعقود، طاف هاشم محافظات مصر، يتابع عروض المسرح فى قصور الثقافة، الجامعات، مراكز الشباب، والمدارس، مدونًا حضوره فى المشهد الثقافى كواحد من أكثر الأصوات النقدية المتابعة للحركة المسرحية خارج العاصمة.
يتذكر العزبى اللقاء الأول، حين عرفه عليه الكاتب الراحل محمد الشربينى بقوله: “أحمد هاشم من النقاد المعتدلين والمجيدين”. وهو التوصيف ذاته الذى أكده لاحقًا الناقد الكبير عبد الغنى داود، صديق هاشم الأقرب. وقد صدق كلاهما، كما يؤكد العزبى: «حتى فى اللقاءات القليلة التى جمعتنا - بسبب إقامتى فى دمياط - كنت ألحظ دائمًا اتزانه، وهدوءه، ورغبته الدائمة فى الإنصات قبل الحديث».
آخر لقاء جمعهما كان فى المهرجان القومى للمسرح قبل عامين، ضمن مشاركة بحثية لهاشم، وقبلها كان ضمن المشاركين فى تأبين عبد الغنى داود، حيث ظل صوته هادئًا، ورأيه حاضرًا، وأسلوبه فى الطرح يجمع بين الاحترام واليقين، دون صخب أو تعالٍ.
كان يعرف قدر «الكلمة”، يقول العزبى، “وكان قليل الحديث، كثير التأمل. لم يزعج أحدًا، ولم يخاصم فكرة، بل ناقش واختلف بأدب وهدوء. حتى رحيله جاء على نفس النسق: بصمت، ودون ضجيج».
ويختتم العزبى شهادته بالدعاء للناقد الراحل، مستعيدًا أسماء رافقته فى مسيرته من أبناء المسرح الذين أخلصوا للكلمة، ورحلوا بعد أن تركوا أثرًا لا يُمحى:
«رحم الله أحمد هاشم، وألحقه بمن أخلصوا للمسرح والفكر والحق، وجعل ذكراه باقية فى ضمائر من يعرفون قيمة الصمت حين يكون أبلغ من الكلام».
وختامًا، نقول: لقد خسرت الحركة المسرحية المصرية صوتًا نقديًا هادئًا ومتزنًا، كان يمثل ضميرًا صادقًا للمسرح من داخل التجربة نفسها، لا من موقع المراقب فقط. ترك هاشم إرثًا نقديًا متميزًا يجمع بين الرصانة والموضوعية والالتزام، بعيدًا عن الصخب والتجريح، محافظًا على احترامه لكل مناخات الإبداع وصانعيه.
لقد كان ناقدًا عاش النقد كرسالة حقيقية، داعمًا للشباب، حريصًا على أن يكون النقد بناء وحوارًا مفتوحًا، لا مجرد إصدار أحكام. رحيله يترك فراغًا يصعب ملؤه، لكنه فى الوقت ذاته يشكل دعوة ملحة للمجتمع المسرحى والقائمين على الثقافة لتوثيق تجربته والإرث الكبير الذى تركه، حفاظًا على قيم النقد الموضوعى والمسئول.
اليوم، ونحن نودع أحمد هاشم، لا نستذكر فقط إنسانه الناقد، بل نؤكد أهمية أن يستمر صوت النقد المستنير الذى جسده، صوت يتسم بالرصانة والإنصاف، ويعزز فى المسرح المصرى روح التقدم والتجديد. رحم الله ناقدًا آمن بأن النقد هو قلب الحياة المسرحية، وأن دوره لا يكتمل إلا بالوفاء للفن والإنسان.